سياسة تمويل المشاريع
كاتب المقال محمد علان (أبو موسى)
المشروع الاقتصادي في الإسلام مشروعان: مشروع تتولاه الدولة وهو كل مشروع يقع في الملكية العامة أو ملكية الدولة، وهو ما يسميه البعض في هذا العصر القطاع العام، ومشروع يتولاه الفرد ويقع في الملكية الفردية ويطلق عليه القطاع الخاص. وكلا المشروعين يحتاج إلى أموال حتى يقام، فمن أين تمول هذه المشاريع؟ هذا ما أردنا أن نجيب عنه في بحثنا هذا. أما مشروع القطاع الخاص، أي المشاريع الفرديةَ فأمر تمويلها متروك إلى أصحابها أي إلى الأفراد أنفسهم، يمول كل واحد منهم مشاريعه بالأسلوب الذي يراه سواء بالقروض أو بغيرها بقروض من داخل البلاد أم من خارجها، ولا يقيد في ذلك إلا بقيدين: الأول: أن تكون طرق التمويل في حدود ما أباحه الشرع، فلا تكون مثلاً بالقروض الربوية أو بغيرها من الطرق غير المشروعة. الثاني: أن لا تؤدي إلى ضرر يلحق بالفرد أو الأمة أو الدولة، فلا يقترض من رعايا دولة تطمع في بلاد المسلمين أو تسعى لإيجاد عيون لها فيها. أما القطاع العام فلتمويله مصدران، المصدر الخارجي أي من خارج الدولة والمصدر الداخلي، أي من داخل الدولة، ويندرج تحت هذين المصدرين طرق ووسائل منها المباح ومنها المحظور، نأتي على تفصيلها إن شاء الله.
أولاً: التمويل الخارجي:
وهو التمويل من خارج البلاد وينحصر في ثلاثة أمور هي القروض الأجنبية، الاستثمار المباشر والاستغلال، والتسهيلات الائتمانية.
أ) القروض الخارجية أو ما نسميه بالقروض الأجنبية:
وهذا أمر شاع وانتشر في بلاد المسلمين منذ أواخر الدولة العثمانية أي منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، وتكون القروض إما من الدول الاستعمارية مباشرة، وإما من مؤسسات دولية تسيطر عليها الدول الاستعمارية كالبنك الدولي، وهو مؤسسة أميركية، وقروضه قروض أميركية ولكن بطريق غير مباشرة.
والقروض الخارجية من أخطر طرق التمويل على الإطلاق، إذ كانت وما زالت أشهر بل أسهل الطرق لاستعمار بلاد المسلمين، فما استعمر الإنجليز مصر، وما احتلت فرنسا تونس، وما تغلغل النفوذ الغربي في الدولة العثمانية في أواخر أيامها إلا عن طريق الديون. ففي مصر مثلاً توالت القروض التي اقترضتها الحكومة بين عامي 1864-1875، حتى بلغت نحو خمسة وتسعين مليوناً، فجاءت بعثة (كيف) سنة 1875 لفحص مالية مصر، واقترحت لضرورة إصلاحها إنشاء مصلحة للرقابة على ماليتها، يخضع الخديوي لمشورتها، ولا يعقد قرضاً إلا بموافقتها، وأنشئ صندوق الدين سنة 1886 لتسليم المبالغ المخصصة لسداد الديون من المصالح والمشاريع المحلية، فكان هذا الصندوق بمثابة حكومة أجنبية داخل الحكومة المصرية، وقد أنشئ نظام الرقابة الثنائية والذي بمقتضاه تولى الرقابة على المالية المصرية مراقبان: أحدهما إنجليزي لمراقبة الإيرادات العامة للحكومة، والآخر فرنسي لمراقبة المصروفات ثم تطورت الرقابة الثنائية إلى تأليف وزارة مختلطة يدخلها وزيران أوروبيان: أحدهما إنجليزي لوزارة المالية والآخر فرنسي لوزارة الأشغال وهكذا وصل الإنجليز إلى استعمار مصر عن طريق القروض، وقس على ذلك الاستعمار الفرنسي لتونس وغيرها.
أما اليوم فقد ابتدع المستعمرون أسلوباً جديداً غير أسلوب إعطاء الدين وانتظار ارتباك الدولة وعجزها عن السداد ومن ثم وضع اليد على البلاد، هذا الأسلوب هو تجديد الطريقة التي يحصل بها الارتباك والفقر، فالدول في البلاد الإسلامية اليوم لا تتمكن من الحصول على القروض من الدول الرأسمالية مباشرة كأميركا وفرنسا واليابان وغيرها أو من البنك الدولي وهو الطريق غير المباشر، إلا بعد أن يقوم صندوق النقد الدولي، وهو توأم البنك الدولي، بدراسة اقتصاد تلك البلاد ومعرفة إمكانياتها المالية ومقدراتها الاقتصادية، ثم تحديد المشاريع التي تنقق عليها القروض وضمن شروط معينة تؤدي حتماً إلى فقر البلاد وعجز حكوماتها عن سداد الديون، ومن ثم التدخل السافر في شؤونها الاقتصادية والسياسية. وكثيراً ما يتدخل صندوق النقد مرة أخرى لجدولة الديون فيفرض على الدولة المدينة برامج وخططاً اقتصادية أخطرها سياسة التقشف التي تؤدي إلى إشعال ثورات شعبية عارمة ضد النظام أو ضد شخص الحاكم، وأقرب شاهد على ذلك ما حصل مع حاكم أندونيسيا في النصف الأول من هذا العام 1998م وكذلك ما حصل في اليمن.
وهكذا نرى أن القروض الأجنبية هي أبرز أساليب الدول الاستعمارية في الاستيلاء على البلاد وبسط نفوذها عليها، جاء فـي تقرير لجنة كلاي عام 1963م والذي قدم للرئيس كنيدي أن الهدف من إعطاء مساعدات القروض والمقياس الذي تعطى على أساسه هو أمن الولايات المتحدة القومي وأمن وسلامة العالم الحر. وهذا يعني جعل البلاد التي تتلقى المساعدات أو القروض، والتي تتلقى أيضاً المساعدات العسكرية مزرعة أميركية.
ونرى أن أميركا ما زالت تتفنن في أساليب إيقاع ما يسمى دول العالم الثالث في مصيدة القروض، والتي كان آخرها أسلوب الاستثمار غير المباشر أو ما يسمى بأسواق المال والتي أدت أولاً إلى نهب خيرات تلك البلدان ثم انهيار اقتصادها، فوجدت نفسها مضطرة لأخذ القروض فخضعت في نهاية المطاف لإرادة صندوق النقد الدولي. ومن الجدير بالذكر أن هذه القروض لا تصرف إلا في مشاريع استهلاكية وخدماتية، ولا تصرف في مشاريع إنتاجية، فهي لا تؤدي إلى تنمية الثروة وإنما إلى إخضاع البلاد لسيطرة الدولة التي تعطي القروض.
ومن مخاطر هذه القروض أنها إما أن تكون قصيرة الأجل أو طويلة الأجل، أما قصيرة الأجل فإن المقصود منها هو ضرب عملات البلاد وإيجاد الاضطراب فيها، لأنها حين تُستحق لا يقبل سدادها بعملة البلاد، بل لابد أن يكون السداد إما بالدولار وإما بعملات الدول الدائنة، فتضطر الدولة المدينة لشراء هذه العملات بأسعار عالية بالنسبة لعملتها، فتضرب عملة البلد، فتهبط قيمتها في السوق، فتضطر حينئذ إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي ليرسم لها سياسة مالية ونقدية مدمرة، أو تضطر لأن تعرض سلعاً في الخارج بأسعار رخيصة فتخسر اقتصادياً وتستـنزف ثروات البلاد.
أما القروض طويلة الأجل فإنها توضع لآجال طويلة عن قصد، ويتساهل في منحها وعند استحقاقها حتى تتراكم وتصبح مبالغ ضخمة تعجز البلاد عن تسديدها نقداً أو أموالاً منقولة. فتضطر لتسديدها أموالاً غير منقولة من عقارات وأراض وربما مصانع، وبذلك تملك الدولة الدائنة أموالاً غير منقولة في البلاد وتصبح لها مصالح تصلح مبرراً للتدخل وبسط النفوذ، هذا إذ لم تتخذ وسيلة للاستعمار والاحتلال. علاوة على ذلك لا تؤخذ هذه القروض إلا بالربا، والربا حرام. ونظراً لهذه الأخطار المترتبة على القروض ولكون الربا حراماً لا يصح أخذ هذه القروض، فلا يصح تمويل المشاريع ولو كانت مشاريع إنتاجية تحقق ثورة صناعية عن طريق القروض.
ب) التمويل عن طريـق استثمار الأموال الأجنبية أو استغلالها:
الاستثمار يعني جعل المال ينتج ربحاً وهو إعطاؤه بالربا، وهو بهذا المفهوم كله ممنوع لأنه ربا، والتعامل بالربا حرام. أما الاستغلال فيعني تشغيل المال في الصناعة أو الزراعة أو التجارة ليعطي ربحاً. واستغلال الأموال الأجنبية في البلاد هو طريق لبسط نفوذ الكفار عليها، وبسط نفوذهم على بلاد المسلمين حرام فيكون دليلها القاعدة الشرعية الوسيلة إلى الحرام حرام، أما إذا كانت لا توصل إلى بسط نفوذهم ولا إلى ضرر، ككشف مقدرات المسلمين وأسرارهم الاقتصادية، أو هدر ثرواتهم ونهبها إلى خارج بلادهم، أو عرقلة ثورتهم الصناعية، أو تقوية عدوهم فإنها في هذه الحال لا تنطبق عليها القاعدة الشرعية فتكون مباحة كسائر القروض التي لا تؤدي إلى ضرر.
ومما يجب أن يلاحظ أن تشجيع الاستغلال في بلاد المسلمين اليوم لا يتم إلا عن طريق منحهم الامتيازات التي هي إعطاء دولة أجنبية حقوقاً معينة دون سائر الدول باعتبار ذلك فرضاً على الدولة وذلك كالامتيازات التي كانت تعطيها الدولة الإسلامية في القرن التاسع عشر حين كانت ضعيفة، كأن يحاكم الرعايا الأجانب بقانون بلادهم لا بقانون الإسلام، ومثل أن لا يكون للدولة سلطان على الأجانب، فهذه الامتيازات بهذا المعنى حرام من وجهين:
الوجه الأول: أنها تخل بسيادة الدولة الإسلامية وتجعل للكفار سلطاناً على بلاد المسلمين، وهذا حرام.
الوجه الثاني: أنها تمنع حكم الإسلام أن يطبق على غير المسلمين في بلاد المسلمين وتجعل حكم الكفر هو الذي يطبق وذلك حرام قطعاً، فتمنع الامتيازات بهذا المعنى.
ج) التسهيلات الائتمانية:وهي استيراد الآلات والأدوات اللازمة للمشاريع بثمن مؤجل، وتعتبر من التجارة الخارجية لا من القروض الأجنبية فيجوز أخذها بثمن مؤجل أكثر من ثمنها لو دفع حالاً على ألا يكون بمعاملة ربا، بل بمعاملة بيع، أي أنه لا يصح أن تُشترى الآلات بثمنها حالاً، ويكتب الدين على المشتري بالثمن وبفائدته. وهي بمعنى آخر أن يجعل للسلعة ثمنان، ثمن معجل إذا دُفع حالاً وثمن مؤجل إذا أخذ ديناً لأجل فتشترى السلعة بالثمن المؤجل ويُكتب السند بهذا الثمن المؤجل، وهذا جائز شرعاً للأمور التالية:
1- لعموم قوله تعالى: ]وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ[ فما لم يرد نص شرعي على تحريم نوع معين من البيع كبيع الغرر الذي ورد نص في تحريمه فإنه يكون حلالاً، ولم يرد نص في تحريم جعل ثمنين للسـلعـة ثمـن معجل وثمن مؤجل، فيكون حلالاً أخذاً من عموم الآية.
2- وقد نص جمهرة الفقهاء على أنه يجوز بيع الشيء بأكثر من سعر سومه لأجل النساء أي لأجل تأخير دفع الثمن، روي عن طاووس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا، فيذهب على أحدهما.
3- وقد قال علي كرم الله وجهه: من ساوم بثمن أحدهما عاجل والآخر نظيرة فليسم أحدهما قبل الصفقة.
أما ما رواه أحمد رضـي الله عنـه «نهـى النبي r عن صفقتين في صفقة» فالمراد منه وجود عقدين في عقد واحد. كأن يقول بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا أو على أن تبيعني دارك أو على أن تزوجني ابنتك، فهذا لا يصح، لأن قوله بعتك داري عقد وقوله على أن تبيعني دارك عقد ثان، اجتمعا في عقد واحد وهذا لا يجوز.
المفضلات