متى وُلد عيسى بن مريم؟ وهل في القرآن إشارة إلى أنه وُلد في الصيف؟

[السُّؤَالُ]
ـ[لا شك بأن موعد ميلاد المسيح لم يكن في شهر " كانون أول "، وخصوصاً أن موسم الرطَب هو في شهر الصيف، فما هو التاريخ التقريبي لميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام؟]ـ

[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
مسألة تحديد وقت ميلاد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام عليها تنبيهات:
1. أنها من الغيب الذي لا يمكن لأحدٍ الجزم به، إلا أن يكون ممن يوحي لهم الله تعالى بوحيٍ من عنده؛ لأنه لا سبيل لمعرفة ذلك إلا به؛ لانقطاع الأسانيد بيننا وبين ذلك الزمان، ولاختلاف النقلة في تحديد وقت ميلاده عليه السلام.
2. أن معرفة ذلك الوقت علم لا ينفع، والجهل به غير ضارٍّ، ولو كان في معرفة ذلك فائدة لجاءتنا النصوص به، ثم لو عرفنا وقت ميلاده: فما هو وقت ميلاد موسى، وإبراهيم، وغيرهما من الأنبياء والرسل؟! وما فائدة معرفة ذلك الوقت؟! وهذا يقودنا إلى التنبيعه الثالث.
3. ميلاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أقرب من ميلاد عيسى بن مريم، وكان ابناً في بيئة تتجه لها أنظار العالَم - مكة المكرمة -، وكان ابنا لشرفاء وسادة تلك البقعة، ومع ذلك كله لا يُعرف على التحديد وقت ميلاده صلى الله عليه وسلم، والخلاف في تحديد مشهور.
ثانياً:
وجزم الأخ السائل بأنه " لا شك بأن موعد ميلاد المسيح لم يكن في شهر كانون أول ": في غير مكانه، وليس مع أثبت شيئاً أو نفاه أدلة يطمئن القلب لها، ولا هو بالشيء الذي يُجزم بحدوثه على التحديد.
وثمة اتجاهات في إثبات وقت ميلاد عيسى بن مريم عليه السلام عند النصارى، فضلاً عن المسلمين، فالنصارى يزعمون أنهم أتباع دينه، وهو ربٌّ لكثير منهم! أو ابن ربِّهم! ومع ذلك ليس ثمة اتفاق بينهم على تحديد ميلاده! .
ولا يختلف المسلمون عن النصارى في الخلاف في تحديد وقت ميلاد عيسى عليه السلام، إلا أن الخلاف عندنا منطلقه الفهم لآيات من كتاب الله تعالى فيها التصريح بوجود رطَب على شجرة نخيل عند ولادة عيسى عليه السلام، ومن ثَمَّ اختلف العلماء عندنا هل كان وقت ميلاده عليه السلام في " الصيف " لكون ذلك الوقت موسم تلك الثمرة، أو كان الأمر كرامة من الله تعالى في إيجاد تلك الثمرة في غير موسمها، كما أجرى الله تعالى الماء من تحت أمه مريم وقت ولادة ابنها عيسى عليه السلام، وكما أنطق الله تعالى ابنها وهو طفل صغير؟! خلاف بين العلماء، والأظهر - والله أعلم - هو القول الثاني.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -:
قوله تعالى: (وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) لم يصرِّح جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة ببيان الشيء الذي أمرها أن تأكل منه، والشيء الذي أمرها أن تشرب منه، ولكنَّه أشار إلى أن الذي أمرها أن تأكل منه هو: " الرطَب الجني " المذكور، والذي أمرها أن تشرب منه هو النهر المذكور المعبر عنه بـ " السري "، كما تقدم، هذا هو الظاهر.
وقال بعض العلماء: إن جذع النخلة الذي أمرها أن تهز به: كان جذعاً يابساً؛ فلما هزته جعله الله نخلة ذات رطب جني.
وقال بعض العلماء: كان الجذع جذع نخلة نابتة، إلا أنها غير مثمرة، فلما هزته أنبت الله فيه الثمر، وجعله رطباً جنيّاً.
وقال بعض العلماء: كانت النخلة مثمرة، وقد أمرها الله بهزها ليتساقط لها الرطب الذي كان موجوداً.
والذي يُفهم من سياق القرآن: أن الله أنبت لها ذلك الرطب على سبيل خرق العادة، وأجرى لها ذلك النهر على سبيل خرق العادة، ولم يكن الرطَب، والنهر، موجودين قبل ذلك، سواء قلنا إن الجذع كان يابساً، أو نخلة غير مثمرة، إلا أن الله أنبت فيه الثمر، وجعله رطباً جَنيّاً، ووجه دلالة السياق على ذلك: أن قوله تعالى: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) يدل على أن عينها إنما تقر في ذلك الوقت بالأمور الخارقة للعادة؛ لأنها هي التي تبين براءتها مما اتهموها به، فوجود هذه الخوارق، من تفجير النهر، وإنبات الرطب، وكلام المولود: تطمئن إليه نفسها، وتزول به عنها الربية، وبذلك يكون قرة عين لها؛ لأن مجرد الأكل والشرب مع بقاء التهمة التي تمنت بسببها أن تكون قد ماتت من قبل وكانت نسياً منسيّاً: لم يكن قرة لعينها في ذلك الوقت، كما هو ظاهر، وخرق الله لها العادة بتفجير الماء، وإنبات الرطب، وكلام المولود: لا غرابة فيه، وقد نص الله جل وعلا في " آل عمران " على خرقه لها العادة في قوله (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
قال العلماء: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وإجراء النهر، وإنبات الرطب: ليس أغرب من هذا المذكور في سورة " آل عمران ".
" أضواء البيان " (3 / 397) .
هذا هو الذي نراه راجحاً صحيحاً، وبه نعلم أنه لا يمكننا تكذيب من نقل ميلاد عيسى عليه السلام في الشتاء، بل هو الأقرب للصواب؛ لأنه ليس موسماً للرطَب، لكن هذا القول ليس متفقاً عليه عند النصارى، ولا عند المسلمين، وسنذكر فيما يلي عمَّن يرجِّح خلاف ما رجحناه، ويذكر الخلاف عند النصارى في تحديد ميلاد عيسى عليه السلام.
قال الأستاذ محمد عزت الطهطاوي:
هل وُلد المسيح حقّاً في فصل الشتاء في 25 ديسمبر، كما يقول النصارى الغربيون، أو في يناير، كما يقول النصارى الشرقيون؟ .
ورد في إنجيل " لوقا " حكاية عن ميلاد المسيح عليه السلام: " وكان في تلك الكورة رعاة متبدين، يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب حولهم، فخافوا خوفاً عظيماً، فقال لهم الملاك: " لاتخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم، يكون لجميع الشعب، إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح ".
(إنجيل " لوقا "، إصحاح 2، عدد 8-9-10-11) .
ومعنى ذلك: أن يكون الميلاد في وقت يكون الرعي فيه ممكناً في الحقول القريبة من " بيت لحم " المدينة التي ولد فيها المسيح عليه السلام، وهذا الوقت يستحيل أن يكون في الشتاء؛ لأنه فصل تنخفض فيه درجة الحرارة - وخصوصاً بالليل - بل وتغطي الثلوج تلال أرض " فلسطين "، وجعْل عيد الميلاد للسيد المسيح في فصل الشتاء: لا أساس له إذاً، بل هو من مخترعات الوضاع يجعله في فصل الشتاء وفي هذه التواريخ المذكورة انفا.
ولندلل على ذلك بالاتي:
1- يقول الأسقف " بارنز ": غالباً لا يوجد أساس للعقيدة القائلة بأن يوم 25 ديسمبر كان بالفعل ميلاد المسيح، وإذا ما كان في مقدورنا أن نضع موضع الإيمان قصة " لوقا " عن الميلاد مع ترقب الرعاة بالليل في الحقول قريباً من " بيت لحم "؛ فإن ميلاد المسيح لم يكن ليحدث في الشتاء حينما تنخفض درجة الحرارة ليلاً وتغطي الثلوج تلال أرض اليهودية، ويبدو أن عيد ميلادنا قد اتفق عليه بعد جدل كثير ومناقشات طويلة حوالي عام 300 بعد الميلاد.
كتاب " ظهور المسيحية " للأسقف بارنز.
2- وهذا الرأي الذي ذهب إليه الأسقف " بارنز " قد استمده الذين كتبوا بيانات عن عيد الميلاد في " دائرة المعارف البريطانية "، ودائرة " معارف شاميرز "، فقد ورد في الطبعة الخامسة عشرة من المجلد الخامس في الصفحة (642، 643 أ) من " دائرة المعارف البريطانية " ما يلي: " لم يقنع أحد مطلقاً بتعين يوم أو سنة لميلاد المسيح - ولكن صمم آباء الكنيسة في عام 340 بعد الميلاد على تحديد تاريخ للاحتفال بالعيد - اختاروا بحكمة يوم الانقلاب الشمسي في الشتاء، الذي استقر في أذهان الناس، وكان أعظم أعيادهم أهمية، ونظراً إلى التغيرات التي حدثت في التقاويم: تغير وقت الانقلاب الشمسي، وتاريخ عيد الميلاد بأيام قليلة ".
3- ورد في دائرة " معارف شاميرز " الآتي: " كان الناس في كثير من البلاد يعتبرون الانقلاب الشمسي في الشتاء يوم ميلاد الشمس، وفي روما كان يوم 25 ديسمبر يحتفل فيه بعيد وثني قومي - ولم تستطع الكنيسة أن تلغي هذا العيد، بل باركته، كعيد قومي لشمس البر ".
4- يقول " بيك " من علماء تفسير الكتاب المقدس: " لم يكن ميقات ولادة المسيح شهر ديسمبر على الإطلاق، فعيد الميلاد عندنا قد بدأ التعارف عليه أخيراً في الغرب.
" تفسير الكتاب المقدس " للدكتور بيك (ص 727) .
5- هناك دليل تاريخي ثابت موثوق به يوضح أن المسيح ولد في شهر أغسطس، أو سبتمبر، فقد كتب الدكتور جون د. أفيز في كتابه " قاموس الكتاب المقدس " تحت كلمة " سنة ": أن البلح ينضج في الشهر اليهودي أيلول، كما ورد في صفحة (117) من كتاب " تفسير الكتاب المقدس " لـ " بيك " العبارة الاتية: " إن شهر أيلول يطابق عندنا شهر أغسطس، وسبتمبر ".
6- ويقول الدكتور " بيك " في مناقشة " جون ستيوارت " لمدونة " من معبد انجورا ": وعبارة وردت في مصنف صيني قديم، يتحدث عن رواية وصول الإنجيل للصين سنة 25 - 28 ميلادية، حيث حدد ميلاد المسيح في عام 8 قبل الميلاد، في شهر سبتمر، أو أكتوبر، وحدد وقت الصلب في يوم الأربعاء عام 24 ميلادية.
النتائج التي تستخلص مما تقدم:
1- ونخلص من كل ذلك طبقا للبحوث السابقة التي أجريت حاليّاً على أصول المسيحية: أن المسيح لم يولد في ديسمبر، أو يناير، ولكن في أغسطس، أو سبتمبر، ويكون حمْل السيدة مريم لم يبدأ في مارس، أو إبريل، كما يريد مؤرخو الكنيسة أن يلزموا الناس باعتقاده، بل بدأ حملها في نوفمبر، أو ديسمبر.
2- إن القران الكريم يُستخلص من تفسيره أن المسيح مولود في أغسطس، أو سبتمبر، وهذا يتفق مع الحقائق التاريخية، ومع رواية إنجيل " لوقا "، وإن كان ذلك دون قصد، وأنه يظهر مما حكاه القرآن عن السيدة " مريم ": أنها كانت ترقد عند ولادتها في سقيفة على مكان مرتفع من التل حيث تقف نخلة على منحدر منه، وكان من الميسور لها أن تصل إلى جذعها، وتهزه، وكثرة النخيل في " بيت لحم " واضحة في الكتاب المقدس في الإصحاح الأول من " سِفر القضاة "، وكذلك " قاموس الكتاب المقدس " المؤلَّف بمعرفة الدكتور " جونر يفنز "، كما أن حقيقة إرشاد السيدة " مريم " إلى نبع - كما ورد في القران الكريم - لتشرب منه: تشير إلى أن ميلاد المسيح قد حدث فعلاً في شهر أغسطس، أو سبتمبر، وليس في ديسمبر حيث يكون الجو بارداً كالثلج في كورة اليهودية، وحيث لا رُطَب فوق النخيل حتى تهز جذع النخلة فتساقط عليها رطباً جنيّاً، قال تعالى: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) ، والمعنى: أنه جعل قربَها جدولاً صغيراً كان قد انقطع ماؤه، ثم جرى، وامتلأ، وسمي سريّاً لأن الماء يسري فيه، وأنه في إمكانها أن تتناول من الرطَب الصالحة للاجتناء إذا أرادت أن تأكل، وإذا أرادت أن تشرب: أمكنها ذلك من جدول الماء، الذي كان يسري بجانبها.
" النصرانية والإسلام " الأستاذ محمد عزت الطهطاوي (ص 241 - 244) مكتبة النور.
والخلاصة:
ليس في شرعنا ما يثبت تحديد ولادة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، لا السنة، والشهر، واليوم، ومن قال إن القرآن فيه إشارة إلى أن مولده كان في فصل " الصيف ": فمردود، بما نقلناه من خلاف العلماء أولاً، وبما هو لائق من كون ذلك الإيجاد للرطَب كان في غير موسمه، وأما النصارى: فغالبهم يرى أن مولده كان في شهر " ديسمبر "، أو " يناير "، وكان فصل الشتاء، وثمة من نقد ذلك عندهم، وبيَّن أنه خطأ، وأن مولده عليه السلام كان في " الصيف ".
وبكل حال: ليس ثمة ما يُجزم به، وليس هذا من العلم النافع، ولولا تعلق الإجابة بشرح آية من كتاب الله: لما تجشمنا الرد على السؤال، وإذا كان النصارى قد اختلفوا في أصل عيسى عليه السلام ما هو، واختلفوا في أصل الاعتقاد: فأنَّى لهم الاتفاق على ما هو دونه؟! .
والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب