بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين
المطلب الثالث: استئذان الناس بعضهم من بعض :
أرسى الإسلام دعائم الأخلاق، في المجتمع المسلم، كما مر بنا في المقدمة، فلا غيبة ولا نميمة،
ولا تطاول على حقوق الآخرين، إلا بعد الاستئذان.
وقد جاء القرآن الكريم، مبينًا حكم ذلك، بالتفصيل.
قال تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27)فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(28)لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
فهذا حكم عام، تناول حرمة الدخول إلى بيوت الغير، إلا بعد الاستئذان، فإن لم يوجد فيها أحد فلا يجوز دخولها، لأنه لم يؤذن لهفَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ. أما البيوت العامة، كالفنادق، والمحلات التجارية، فلا حاجة للاستئذان، لأنها غير مهيأة، للكشف عن العورات.
أما الأحاديث التي وردت في الاستئذان، وأنواعه فهي كثيرة.
13 - فمن الأحاديث التي بينت كيفية الاستئذان، ما رواه الشيخان
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - واللفظ للبخاري - أنه قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى، كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا، فلم يؤذن لي، فرجعت. فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا، فلم يؤذن لي، فرجعت.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له، فليرجع" فقال: والله لتقيمن عليه بينة. أمنكم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال أبي بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك .
فهذا الحديث قد بين لنا كيفية الاستئذان، وأنه يكون ثلاث مرات فقط، ولا يزيد على الثلاث، إلا إذا غلب على ظنه أنه لم يسمع، فحينئذ يشرع له الزيادة. وقيل: تجوز الزيادة، على الثلاث، سواء سمع المستأذن عليه، أو لم يسمع، لأن الغاية من تحديده بالثلاثة، التخفيف عن المستأذن. والأمر فيه للإباحة قلت: الصواب أن يحدد بثلاث مرات، ولا يزيد عن ذلك، إلا إذا غلب على ظنه، أن المستأذن عليه، لم يسمع. وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، كما صنع أبو موسى الأشعري مع أمير المؤمنين عمر . كما أن المستأذن عليه، إذا كان عنده ما يمنعه، من
(الجزء رقم : 82، الصفحة رقم: 367)
الإذن، فله الحق ألا يأذن لأحد .
أما الحكمة من كون الاستئذان ثلاث مرات، فقد روى أبو بكر بن أبي شيبة بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:
"الأولى إعلام، والثانية مؤامرة، والثالثة عزمة، إما أن يؤذنوا، وإما أن يردوا" . أما من دعي فهل يستأذن عندما يأتي أم لا؟ ذهب بعض العلماء: إلى أنه يستأذن.
14 - والدليل على ذلك، ما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة أنه قال: دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد لبنا في قدح، فقال: أبا هر ! الحق أهل الصفة، فادعهم إليّ. قال: فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، فدخلوا .
قلت: ينظر على حسب العرف والعادة، فإذا كان المكان يحتاج إلى استئذان، استأذن، وإلا فلا. فمن جعل مكانًا خاصًا، للضيوف، منعزلاً، فلا حاجة للاستئذان . وقد حرم الإسلام النظر خلسة، من شقوق الباب، أو من فتحة صغيرة في الجدار، فمن حق صاحب المنزل أن يطعنه في عينه. قال سهل بن سعد : اطلع رجل من جُحر في حَجْر النبي
(الجزء رقم : 82، الصفحة رقم: 368)
- صلى الله عليه وسلم - ، ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرى، يحك به رأسه. فقال: لو أعلم أنك تنظر، لطعنت به، في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر . لذلك شرع للمستأذن عندما يستأذن، أن يقف عن يمنى الباب، أو عن يساره.
ولا يقف مستقبل الباب، لأنه لو وقف مستقبل الباب، لوقع بصره داخل البيت.
15 - أخرج أبو داود بسنده عن طلحة، عن هذيل أنه قال: جاء رجل! قال: عثمان بن سعد . فوقف على باب النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذن، فقام على الباب ، قال عثمان: مستقبل الباب!فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا عنك، وهكذا، فإنما الاستئذان من النظر . والمراد من قوله هكذا عنك، وهكذا أي : قم على الباب بجانب اليمين أو الشمال ، ولا تقم مستقبل الباب .
قال السهارنفوري ، رحمه الله : " فإذا قام رجل قبالة الباب ، يدخل بصره في البيت ، فلعله يرى بعض ما يكره صاحب البيت ، وهذا هو علة الاستئذان ، للحفظ عن النظر " ، قلت: وهذا أدب تربوي عظيم، لأن
(الجزء رقم : 82، الصفحة رقم: 369)
من أطلق العنان لبصره، فإنه سيوصله إلى ما لا يحمد عقباه، فالإسلام أمر بحفظ البصر، لأن حفظه وسيلة من الوسائل التي تقي الإنسان، من الفتنة، كما لا يخفى. ومن نظر من شقوق البيت خلسة، وطعنه صاحب البيت بعينه، فليس عليه قصاص، أو دية، إن أصابه في عينه، لأنه هدر.
أما ما ذهب إليه المالكية، وغيرهم، من أنه يقتص منه، بحجة أن المعصية، لا تدفع بالمعصية، فلا يسلم لهم، لأن هذا الفعل أذن فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يسمى معصية .
كما أن على المستأذن، عندما يسأل وقت الاستئذان، أن يعرف بنفسه.
16 - لما رواه الشيخان عن جابر بن عبد الله - واللفظ لمسلم - أنه قال: استأذنت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: من هذا! فقلت: أنا! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ، أنا وكره الرسول – صلى الله عليه وسلم – قوله : أنا؛ لأنه لا يقع التعريف بهذا اللفظ ، قال المهلب – كما في الفتح - : "إنما كره قول "أنا" لأنه ليس فيه بيان ، إلا إن كان المستأذن ممن يعرف المستأذن عليه صوته، ولا يتلبس بغيره، والغالب الالتباس " .
(الجزء رقم : 82، الصفحة رقم: 370)
وهذا الحديث يستدل به، على مشروعية طرق الباب. قال ابن العربي : في حديث جابر، مشروعية دق الباب .
وهذا الاستئذان واجب في كل الأحوال، حتى بين المحارم، فمن أراد الدخول على محارمه، كأمه، أو أخته، فعليه الاستئذان.
17 - روى مالك عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل، فقال: يا رسول الله! أستأذن على أمي؟ فقال: نعم ، قال الرجل: إني معها في البيت! فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "استأذن عليها". فقال الرجل: إني خادمها!
فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة! قال: لا! قال: فاستأذن عليها . فمن كان ساكنًا مع محارمه، ينظر إلى الوقت الذي يريد الدخول فيه، فإن كان في وقت الاستراحة، أو النوم، فلا يدخل إلا بعد الاستئذان. أما إذا لم يكن الدخول في غير أوقات الاستراحة، فيدخل من غير استئذان.
وقد حدد القرآن الكريم هذه الأوقات التي لا يجوز فيها الدخول لأحد إلا بعد الاستئذان، قال تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(58)وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(الجزء رقم : 82، الصفحة رقم: 371)
تضمنت هذه الآيات، ثلاثة أوقات لا يجوز الدخول فيها إلا بعد الاستئذان، وهي:
1- قبل صلاة الفجر، لأن الإنسان حينئذ يكون في حالة القيام عن المضاجع، وعليه ثياب النوم.
2- وقت الظهر، والذي يعرف بالقيلولة.
3- بعد صلاة العشاء، لأن الإنسان يكون في حالة التجرد من ثيابه، والاستعداد للنوم.
فهذه الأوقات الثلاثة، ينهى عن الدخول فيها للخدم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم.
أما إذا بلغ الأطفال الحلم، فحينئذ لا يجوز لهم الدخول، في هذه الأوقات الثلاثة، وغيرها، إلا بعد الاستئذان، فيجب عليهم الاستئذان، في جميع الأوقات، كما هو واجب على الكبار الذين أمروا بالاستئذان، من غير استثناء .
(الجزء رقم : 82، الصفحة رقم: 372)
وقد سمى الله تعالى هذه الأوقات الثلاث عورات، وهذا اللفظ عام، فيشمل عورات البدن، وعورات أثاث المنزل، قد يكون المنزل في حالة، لا يحب صاحب المنزل أن يراه على تلك الحالة، فالعورات كثيرة داخل البيوت. وهذه الاستئذان الذي أمر به الإسلام، ليس خاصًا في الدخول إلى المكان فقط، بل هو أوسع، وأشمل، من ذلك فعلى الإنسان أن يستأذن الغير، في كل أمر ليس من حقه، فمن ذلك.
18 - أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، استأذن أم المؤمنين عائشة، أن يدفن في حجرتها، مع صاحبيه ، قال عمرو بن ميمون الأودي : رأيت عمر بن الخطاب قال: يا عبد الله بن عمر اذهب إلى أم المؤمنين عائشة، فقل لها: يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام، ثم سلها أن أدفن مع صاحبي. قالت: كنت أريده لنفسي، فلأوثرنه اليوم على نفسي ، فلما أقبل قال له : ما لديك؟
قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين. قال: ما كان شيء أهم إلي من ذلك المضجع، فإذا قبضت، فاحملوني، ثم سلموا، ثم قل يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت فادفنوني، وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين" .
وسبب استئذان أمير المؤمنين من عائشة، أنها صاحبة الحجرة، فهي أحق بها من غيرها ، قال ابن بطال - كما في الفتح -: "إنما استأذنها عمر،
(الجزء رقم : 82، الصفحة رقم: 373)
لأن الموضع كان بيتها، وكان لها فيه حق، وكان لها أن تؤثر به على نفسها، فآثرت عمر " .
ومن الأمور التي يستأذن فيها - الجلوس بين شخصين؛ لأنه لا يجوز أن يفرق بين اثنين، إلا بإذنهما.
19 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين، إلا بإذنهما .
وسبب هذا النهي : هو لكي لا يضيق عليهما، حسًا، أو معنى، فقد يكون المكان ضيقًا، فيأتي هذا القادم، ليجلس بينهما، وفي هذا مضايقة واضحة، أو يكون بينهما حديث، لا يريدان أن يسمع حديثهما أحد، ثم يأتي هذا القادم، ليقطع بينهما حديثهما. أما إذا كان بينهما، فرجة واسعة، أو كان المكان ضيقًا، لكن أذنا له، فحينئذ يجوز له .
قلت: ومثل ذلك إذا كانوا ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون إذن الثالث.
ومن الأمور التي يجب فيها الاستئذان أخذ شيء من مال الغير، حتى لو كان شيئًا قليلاً، كحلب الشاة، وأخذ الحليب منها.
20 - عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحلبن
(الجزء رقم : 82، الصفحة رقم: 374)
أحد ماشية امرئ، بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته، فتكسر خزانته، فينتقل طعامه؟ فإنما تخزن لهم ضروع ماشيتهم، أطعماتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه . في هذا الحديث نهي عن أخذ مال الناس، إلا بعد الاستئذان، وذكر الحديث اللبن دون غيره، لتساهل الناس فيه، فغيره من باب أولى.
قال الإمام البغوي : والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أنه لا يجوز أن يحلب ماشية الغير بغير إذنه . وقال ابن عبد البر - كما في الفتح -: "في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئًا إلا بإذنه، وإنما خص اللبن بالذكر، لتساهل الناس فيه، فنبه به على ما هو أولى منه" .
وذهب بعض العلماء: إلى جواز أخذ اللبن، ليشربه، أو أخذ فواكه من البستان، ولو لم يكن المالك موجودًا.
وخص بعض أهل العلم الأخذ بأهل السبيل. أما المضطر فله أن يأخذ ما يكفيه باتفاق . قلت: مثل هذه الأمور، ينظر فيها إلى العرف والعادة بين الناس، فيرخص لابن السبيل وللمحتاج، وما عداهما لا يجوز له، والله أعلم. وقد شبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضروع المواشي في حفظ
(الجزء رقم : 82، الصفحة رقم: 375)
اللبن، بالغرفة التي يحفظ فيها المتاع، وعليه تكون حرزًا له .
ومن الأمور التي يجب فيها الاستئذان، إذا أراد أحد أن يتصرف في مال الغير، فإنه لا يجوز له التصرف قبل الاستئذان.
21 - فمن ذلك ما رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبته، في جداره، فلا يمنعه". فنكسوا . فقال: ما لي أراكم قد أعرضتم؟ لألقينها بين أكتافكم .
فهذا الحديث دليل على وجوب الاستئذان، قبل استعمال أموال الآخرين.
واختلف فيمن استأذن جاره، في وضع خشبة، على جداره، فمن العلماء من ذهب إلى أنه يخير، ومنهم من قال: يجب أن يلبي ما طلب .
22 - ومن الأمور التي يجب فيها الاستئذان، أن الإنسان إذا خطب، أو أراد أن يشتري شيئًا فلا يجوز لأحد الإقدام على ذلك، إلا بعد استئذانه، والدليل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم - واللفظ لمسلم -
(الجزء رقم : 82، الصفحة رقم: 376)
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له . وقد يكون الاستئذان، في أمر معنوي، فمن ذلك:
23 - قال أبو مسعود - رضي الله عنه - قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمهم قراءة، فإن كانت قراءتهم سواء، فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فليؤمهم أكبرهم سنًا. ولا يؤمن الرجل في أهله، ولا في سلطانه، ولا تجلس على تكرمته في بيته، إلا أن يأذن لك، أو بإذنه . والمراد أن صاحب البيت، وصاحب المجلس، وإمام المسجد، أحق من غيره، بالإمامة، وإن كان موجودًا من هو أفقه منه، وأقرأ، إلا إذا أذن صاحب المكان، فحينئذ لا مانع، لأنه تنازل عن حقه بإرادته. والمراد بـ "التكرمة" في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ولا تجلس على تكرمته في بيته ... الفراش، ونحوه، مما يخصص، لصاحب المنزل. فمن دخل على
(الجزء رقم : 82، الصفحة رقم: 377)
منزل، بعد استئذان صاحبه، وكان هناك مكان مخصص، لصاحب المنزل، فلا يحق لهذا الداخل، الجلوس، في ذلك المكان، إلا إذا أذن له صاحب البيت.
24 - ومن أنواع الاستئذان، استئذان الجند أميرهم، كما استأذن الصحابي أبو شريح الخزاعي رضي الله عنه، عمرو بن سعيد، الكلام بين يديه.
عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي شريح أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة - ائذن لي أيها الأمير، أحدثك قولاً قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به. حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن مكة حرمها الله تعالى، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ، يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص ، لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار. ثم عادت حرمتها اليوم، كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب . ففي
(الجزء رقم : 82، الصفحة رقم: 378)
هذا الحديث، إنكار، من أبي شريح، لعمرو بن سعيد، على غزوه مكة، عندما كان معتصمًا فيها، عبد الله بن الزبير، في ولاية يزيد بن معاوية، فأراد أن ينكر على عمرو بن سعيد، فعله هذا، لكنه تلطف رضي الله عنه، فاستأذن منه، ليكون لكلامه وقع في النفس.
قال الحافظ ابن حجر : "يستفاد منه حسن التلطف، في مخاطبة السلطان، ليكون أدعى لقبولهم، النصيحة، وأن السلطان لا يخاطب إلا بعد استئذانه، ولا سيما إذا كان في أمر يعترض به عليه، فترك ذلك، والغلظة له، قد يكون سببًا لإثارة نفسه، ومعاندة من يخاطبه" . قلت: لا بد من الاستئذان، سواء كان واليًا، أو قائدًا، أو مسئولاً، لأن أي إنسان إذا تكلم بما يريد، من غير استئذان، أو تصرف في أمر ما، أصبحت الأمور فوضى. وهذا ما فهمه الصحابة، إذ كانوا يستأذنون الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
25 - روى البخاري بسنده عن أبي هريرة وزيد بن خالد قالا: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام رجل، فقال: أنشدك الله إلا ما قضيت بيننا، بكتاب الله، فقام خصمه، وكان أفقه منه. فقال: اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي! قال: قل. قال: إن ابني هذا، كان عسيفًا على هذا .. الحديث.
(الجزء رقم : 82، الصفحة رقم: 379)
فيلاحظ أن الصحابي، لم يتكلم إلا بعدما استأذن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إذ قال: "وائذن لي".
26 - ومن الأمور التي يستأذن فيها، الذهاب إلى الجهاد، فلا يجوز لمن كان أبواه، أو أحدهما، على قيد الحياة، أن يذهب إلى الجهاد، إلا بعد استئذانهما. عن عبد الله بن عمرو أنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد! فقال: "أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما جاهد . وجاء عند أبي داود : ارجع فاستئذنهما، فإن أذنا لك، فجاهد، وإلا فبرهما". فهذا الحديث دل على منع الجهاد إلا بعد الاستئذان من الوالدين، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء.
قال الحافظ ابن حجر : "قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد، إذا منع الأبوان، أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن" .
مجلة البحوث الإسلامية> العدد الثاني والثمانون - الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1428 هـ > البحوث > الاستئذان وأنواعه في ضوء السنة > المبحث الثاني الاستئذان وأنواعه في السنة > المطلب الثالث استئذان الناس بعضهم من بعض
المفضلات