العلم وقسوةالقلب هل يجتمعان؟!
نايف بن محمد اليحيى
يشكو بعض طلاب العلم من قسوة قلبه، وجفاف مآقيه عن تحدر دمع الخشية والإنابة، فهل العلم شريك في حصول هذه القسوة؟ أم أنالعلم براء من القلوب القاسية؟
قد لا يطرأ هذا السؤال لدى البعض، ويظن أن في سلوك سبيل طلب العلم وتحصيله وقراءة المتون وشروحها شغلاً عن جانب التزكية والعناية به، بل قد يتوهم أن ذلك للعوام ومن قاربهم، ونسي أن العلم يقسي القلب إذا لم نحسن التعامل معه، وأخذناه منفرداً عن حقه ولوازمه وتوابعه، من العمل به وتعليمه، فانشغال طالب العلم بالخلاف والأقوال والراجح والمرجوح والصحيح والضعيف، وتتبع الأسانيد والطرق والعلل، لا شك أنه بعد هذا سيعتريه نوع غفلة عن تزكية النفس، خاصةً إذا تبع ذلك ردودٌ وتعقباتٌ على بعض المسائل المطروحة، (أما إذا كان المراء حاضراً، والخصومة في الجدل ثائرة، فودع من قلبك التزكية فإنها مرتحلة)، ولذا كان للسلف عنايةٌ بالغةٌ في جانب إصلاحالقلب والمداومة على ذلك أثناء مدارستهم للعلم وطلبهم له، فلم يكونوا يغفلوها بذريعة (الانشغـال بالطـلب).
ولترى مثالاً حياً على ذلك، هلم معي وتأمل هذا الدرس الموقِظ من الإمام أبي شريح المعافري.
فعن محمد بن عبادة المعافري، قال: كنا عند أبي شريح -رحمه الله- فكثرت المسائل، فقال: قد درنت قلوبكم، فقوموا إلى خالد بن حميد المهري، استقلوا قلوبكم، وتعلموا هذه الرغائب والرقائق، فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجر الصداقة، وأقلوا المسائل، فإنها في غير ما نزل تقسي القلب، وتورث العداوة.
قال الذهبي معلقاً: صدق -والله- فما الظن إذا كانت مسائل الأصول، ولوازم الكلام في معارضة النص؟ فكيف إذا كانت من تشكيكات المنطق، وقواعد الحكمة، ودين الأوائل؟! [سير أعلام النبلاء (7 / 183)، وانظر: جامع العلوم والحكم ت: الأرنؤوط (1 / 248)].
وهذا الإمام العالم الناسك، الحسن البصري رحمه الله كان له مجلس خاص في منزله، لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن، فإن سأله إنسان غيرها، تبرم به، وقال: إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر. [سير أعلام النبلاء (4 / 579)، وينظر: معالم في السلوك (ص70)].
ولو قلَّبنا النظر في التربية التي أحياها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، لرأينا هذا لا يحتاج إلى بحثٍ وتنقيبٍ، بل هو ظاهر مشرق في كتب السنة التي نقلته، فهذا حنظلة الأسيدي رضي الله عنه يخبرك بحالهم عندما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: نكون عندك، تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين) [رواه مسلم].
وابن مسعود رضي الله عنه يخبر عن تخوله لهم بالموعظة. [أخرجه الشيخان].
فهذا أكرم جيل وأبره وأعلمه، ومع هذا فانظر كيف كان يحوطهم عليه الصلاة والسلام ويحيي الإيمان في قلوبهم.
يقول ابن رجب –رحمه الله- مبيناً حال العلم الذي لا ينفع صاحبه: (وقد أخبر عن قوم أنهم أوتوا علماً ولم ينفعهم علمهم، فهذا علم نافع في نفسه لكن صاحبه لم ينتفع به، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلوا التَوراةَ ثُمَّ لَم يَحمِلوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ أَسفارا} . [بيان فضل علم السلف ص34]
ويقول ابن القيم–رحمه الله-: (فَإِذا كَانَ الْقلب قاسياً حجرياً لَا يقبل تَزْكِيَة وَلَا تُؤثر فِيهِ النصائح لم ينْتَفع بِكُل علم يعلمه، كَما لَا تنْبت الأرض الصلبة وَلَو أصابها كل مطر وبذر فِيهَا كل بذر). [مفتاح دار السعادة (1/96)]
وللمسائل وبحثها وتحقيقها رونق وجمال قد يحدث للمنهمك به تهاوناً وتساهلاً وزهداً في جانب العناية بالسلوك والعبادة، فيرى أن العلممحصورٌ بتحصيل العلوم المعرفية فقط، وهذا ما حصل عند الإمام أحمد لما ذكر في مجلسه معروف الكرخي، فقال بعض من حضر: (هو قصير العلم) فقال له أحمد: (أمسك عافاك الله وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف). [الآداب الشرعية (2 / 235)]
ولهذا لم يكونوا يعتمدون على فهمهم وذكائهم في تحصيل العلم، بل كانوا يتضرعون ويسألون العليم سبحانه أن يعلمهم ويفتح عليهم، يقول ابن تيمية: (ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني). [العقود الدرية (1 / 42)].
فخذ هذه الوصايا من أطباء القلوب:
يقول ابن تيمية–رحمه الله-:
(لا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره، فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه إما في بيته، كما قال طاوس: "نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيها بصره ولسانه"، وإما في غير بيته). [الفتاوى الكبرى (2 / 163)]
ويقول ابن الجوزي–رحمه الله-:
(تأملت العلم والميل إليه، والتشاغل به؛ فإذا هو يقوي القلب قوة تميل به إلى نوع قساوة ... فإذا تأملت باب المعاملات، قل الأمل، ورق القلب، وجاءت الدموع، وطابت المناجاة، وغشيت السكينة، وصرت كأني في مقام المراقبة.
إلا أن العلم أفضل، وأقوى حجة، وأعلى رتبة، وإن حدث منه ما شكوت منه. والمعاملة وإن كثرت الفوائد التي أشرت إليها منها، فإنها قريبة إلى أحوال الجبان الكسلان، الذي قد اقتنع بصلاح نفسه عن هداية غيره، وانفرد بعزلته عن اجتذاب الخلق إلى ربهم.
فالصواب العكوف على العلم، مع تلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعًا لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم. [صيد الخاطر (ص160)]
ويقول أيضاً:
(فالله الله في العمل بالعلم، فإنه الأصل الأكبر. والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة، فقدم مفلسًا، على قوة الحجة عليه). [صيد الخاطر (ص159)]
(وعلى قدر انتفاعك بالعلم ينتفع السماعون، ومتى لم يعمل الواعظ بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل الماء عن الحجر، فلا تعظن إلا بنية، ولا تمشين إلا بنية، ولا تأكلن لقمة إلا بنية، ومع مطالعة أخلاق السلف ينكشف لك الأمر). [صيد الخاطر (1 / 512)]
وقال أبو قلابة لأيوب: إذا أحدث الله لك علماً فأحدث لله عبادة، ولا تكونن إنما همك أن تحدث به الناس. [المعرفة والتاريخ 2/66].
فالعلم كالأرض الطيبة الممتلئة بما حسن من الأشجار، والرقائق والمواعظ والعبادة سقاؤها، فإذا توقفت عن السقي لم تنتج الثمرة، وذبلت تلك الأشجار النضرة.
فاللهم أحي قلوبنا بذكرك، وألهمها علما نافعا بجودك ورحمتك.
المفضلات