-
الوسواس القهري
الوسواس القهري :
[SIZE="3"]الكاتب: أ.د.وائل أبو هندى[/SIZE
كانَ الطب النفسي دائمًا هوَ الفرع الوحيدُ من الطب الحديث الذي تجدُ فيهِ مكانًا لما لا يحسُّ مباشرةً بالحواس الآدمية التي يعتمد العلم المادي عليها، فقد كانَ وما يزالُ مفهومٌ كمفهوم اللاوعي بمعناه المشهور أساسًا للعديد من التفسيرات والشروح التي يقبلها الأطباءُ النفسيون في كل مكانٍ في العالم، وكانَ لنظرية فرويد تأثيرها في ذلك بالطبع، إلا أن ما حدثَ في السنوات الأخيرة من توجهٍ متسارع نحو التفسيرات المادية البيولوجية للسلوك الآدمي في السواء وفي المرض، إضافةً إلى الانتصارات المتلاحقة التي حققتها العَقَّـاراتُ خاصةً في اضطرابات نطاق الوسواس القهري والتي روجت لها ورسخت شركاتُ الأدوية مفاهيمها في أذهان الأطباء النفسيين، كان لذلك تأثيرهُ بالتأكيد على تقليص تلك المساحة من التفسيرات التي تعتمدُ اللاوعي أو الغيبَ كمصدر ثريٍّ فضفاضٍ لتفسير السلوك البشري، حتى أن الطب النفسي كما يقولون قد تحركَ من موقف اللا علاقةَ بالمخ Brainless (باعتباره المادةَ الخالصةَ) إلى موقف اللا علاقةَ بالعقل Mindless (باعتباره اللا مادةَ الخالصة).
فموقفُ اللا علاقةَ بالمخ هو الموقف الذي يعتمدُ التفسيرات المستمدة من النظريات النفسية التي تقوم على العقل بتقسيمه إلى وعي ولا وعي وتكونُ طريقةُ العلاج كذلك معتمدةً على طرق العلاج النفسي التي تبحثُ كيفية حدوث الانحراف العقلي وكيفية تعديله، أي أنها تعترف دائمًا بوجود جانب الغيب كمؤثرٍ في السلوك البشري، وإن كانَ هذا الغيب غيبًا خاصًا فقط بالإنسان المفرد في نظرية فرويد، ومقسمًا إلى خاصٍ بالمفرد Personal Unconscious وخاصٍ بالمجموع البشري Collective Unconscious في نظرية يونج، إلا أنهُ كانَ هناكَ جانبٌ للغيب معترفٌ به بوجه عام.
وأما موقفُ اللا علاقةَ بالعقل فهوَ الموقفُ الغالبُ اليوم أي الذي لا يعتمدُ إلا التفسيرات النابعة من عالم الشهادة، أي كل ما يمكنُ قياسه ماديا وابتداعٌ مادةٍ لتؤثرَ فيه، والحقيقةُ أن إنجازات هذا الموقف فاقت بالفعل كل ما كان تَصَوُّرُهُ ممكنا وخلال فترةٍ وجيزةٍ، إلى الحد الذي سمحَ للكثيرينَ بالغرور بما توصل إليه الطب النفسي، ولا نستطيعُ إغفال دور شركات الدواء هنا أيضًا لأن تضخيم الإنجازات التي تحققها الأدوية وتضخيم العلم بها إنما هوَ موقفٌ نابعٌ من تحيزٍ للمادة، خاصةً إذا عرفنا أن المادةَ التي يتكونُ منها العقار الدوائي تعملُ عملها في كافة أجناس البشر بينما النظريات التي تقوم على أساس التكوين النفسي أو العقلي وما هو في حكمه إنما تنبعُ من ثقافةِ مبدعيها وعادةً ما لا تنطبقُ على غيرهم، إذن فما تتوقعهُ شركاتُ الدواء من كسبٍ مادي يجيءُ من كل أنحاء العالم هوَ كسبٌ لا محدود، وهم لذلك يقومون بجهد لا محدود في نشر التحيز للمفاهيم التي تخدم أغراضهم، ولعل هذا ما أشرنا إليه من قبل في مقال الطب والأطباء والدواء مهزلة:(1)
فإذا كانَ الأمر بالنسبة للغربيين هوَ مجردُ انحسار التأثير الذي كانَ ينعمُ به فرسان التحليل النفسي أو غيره من النظريات التي تعترفُ بالغيب كمؤثرٍ في السلوك البشري، فإن الأمرَ بالنسبة للطبيب النفسي المسلم ليسَ بهذه البساطة، وإذا كانَ الطبيبُ النفسي الغربي يستطيعُ أن يتنازلَ عن إيمانه بوجود الغيب في حياته وحياة مريضه إذا أثبتَ له العقار الدوائي أنهُ يستطيع إنهاءَ مشكلة المريض كليةً فإنهُ في النهاية لا يتنازلُ إلا عن إيمانه بصدق نظريةٍ كنظرية فرويد أو غير فرويد، فهل الأمرُ كذلك بالنسبة للطبيب النفسي العربي المسلم، لابدَّ بالتأكيد ألا يكونَ كذلك!
إذن كيفَ يحل الطبيب النفسي المسلمُ هذه المشكلة؟؟ إن الموقفَ الذي نراهُ حتى الآن ليسَ أكثرَ من محاولة الفصل ما بينَ معطيات طبه النفسي وبينَ معطيات دينه، لأن الطب النفسي الذي يفهمهُ الأطباءُ النفسيونَ اليومَ ويدافعون عنهُ بكل حماس هو ذلك المستمَدُّ والمعتَمِدُ في كل ما فيه على تفسيراتٍ من عالم الشهادة، أو من عالم المادة، بل إن الاهتمام بالتفسيرات والتأويلات التي تعترفُ بالغيب أو اللاوعي حسب التسمية الطبية النفسية يتقلصُ عامًا بعد عامٍ ويتقلصُ معهُ الاهتمامُ بكل ما لا يقاس حتى في المقررات العلمية التي يطلبُ من الطبيب النفسي الإلمام بها ليحصل على شهادته، وأنا شخصيا كنتُ من الجيل الذي كانَ مضطرًا إلى الإلمام ببقايا معطيات عالم الغيب النفسي إضافةً إلى معطيات عالم الشهادة المادية فكانَ المطلوبُ مني أصعبُ من المطلوب مِن مَن كانَ قبلي ومن من جاءَ بعدي من الأطباء النفسيين، فبينما كانَ المطلوب من مَن سبقوني هوَ الإلمام بنظريات السيكوباثولوجي المترامية الأطراف والغريبة المفاهيم عن مفاهيمنا الثقافية أحيانًا لكنها كانت تحتملُ الغيبَ وتعترفُ به، كانَ المطلوب من مَن جاءوا من بعدي هوَ الإلمام بعلم تشريح الجهاز العصبي وعلم الأدوية وعلم الكيمياء الحيوية، أما أنا فكنتُ مطالبًا بالإلمام بهذا وذاك ولم يكن أساتذتي على استعداد للتخلي عن ما اعتبروه كل شيء لفترةٍ طويلة أي الطب النفسي الذي لا علاقةَ له بالمخ، ولا كانوا على استعداد لتركي غير معدٍّ لفهم الطب النفسي الحديث الذي يقعُ كليةً في المخ ولا علاقةَ له بالعقل ولا بالغيب.
ولعل هذا هوَ أحد الأسباب التي جعلتني غير قادرٍ لا على اعتبار الغيب الموجود في النظريات النفسية كافيًا لأن أصدقه لأنني كنتُ أرى من الاكتشافات المادية المتتالية ما يدحضهُ ويشككُ فيه، ولا على اعتبار اللا غيب الذي يقدمهُ الطب النفسي المخي مقنعًا لي كتفسيرٍ لكل شيء، خاصةً وأنني كنتُ أرى تخبطهُ على مر السنين القليلة وتغير المفاهيم فيه بسرعة كبيرة بحيثُ يتضحُ كل عامين أو ثلاثةً أن ما كنا نظنهُ الإجابةَ الأخيرةَ على سؤالٍ ما قد بدا فيه القصور أو ألغيَ تمامًا، حتى كان التشبيهُ الذي اقترحه عليَّ زميلي الدكتور أحمد عبد الله دالاً ومعبرًا إلى حد كبير عن حالة التوجه المادي البيولوجي الصرف في الطب النفسي فقد رأى حال أصحاب هذا التوجه مشابها لحالة سيدنا إبراهيم عليه السلام، كما أخبرنا بها رب العزة، من ناحية الحيرة والافتتان المؤقت بما يجدون في متناول أبحاثهم، وشتان بالطبع بينَ ما كان يبحثُ عنهُ أبو الأنبياء عليه السلام وبينَ ما يبحثُ عنه هؤلاء:
قال تعالى:{فلما جَـنَّ عليه الليلُ رأى كوكَبًا قال هذا ربي فلما أَفل قال لا أحبُّ الآفلين* فلما رأى القمرَ بازغًا قال هذا ربي فلما أفلَ قال لئن لم يَهْـدِني ربي لأكونن من القوم الضالين* فلما رأى الشمس بازغةً قالَ هذا ربي هذا أكبرُ فلما أفلَتْ قال يا قوم إني بريءٌ مما تشركون} صدق الله العظيم (سورة الأنعام 75-78).
فهذه الحيرةُ التي يعيشها أصحابُ التوجه المادي الصرف مع افتتانهم ما بينَ فترةٍ وأخرى، بناقلٍ عصبي معينٍ أو بعقَّارٍ دوائي معين يرونَ فيه الحل النهائيَ لاضطراب ما كما تقولُ المقالات العلميةُ التي تتوالدُ واحدةٌ من أخرى، وتنفخُ شركاتُ الدواء في أبواقها، فإذا مرَّ عامٌ أو أكثرَ، سمعنا كلامًا آخرَ يناقضُ الكلامَ الأول وهكذا يخترعُ الدواءُ ويكتشفُ أنهُ ذا تأثيرٍ علاجي مفيد فتقومُ الدنيا ولا تقعدُ وتجرى الأبحاثُ في كل أنحاء الدنيا لتعطي نتائجَ يشابهُ بعضها بعضًا، ثمَّ تبينُ لنا شركةُ أدوية أخرى بعد عدة أعوام أن كل ما كنا نقوله من كلام وتثبتهُ أبحاثنا هوَ على أفضل التقديرات كلام ناقص أو لا يصور الحقيقة كما هيَ.
ونفسُ المثال في الواقع يمكنُ تطبيقهُ على النظريات النفسية المتتالية بوجه عام، فقد مررنا بفترةِ الافتتان بنظرية فرويد في التحليل النفسي حيثُ كانَ الكثيرونَ ينتظرونَ منها أن تحلَّ كل المشاكل إلى أن ثبتَ أنها لا تستطيع فتحولَ التوجهُ بعد ذلك إلى النظريات السلوكية حتى ثبتَ عجزها عن تقديم الحل النهائي لكل شيء فبدأ إدخالُ المفاهيم المعرفية عليها بما في ذلك من اعتراف بأن الإنسان يحوي جانبًا أسمى من مجرد المادة وردود الأفعال الموروثة فيها وهو الجانب المعرفي، وما يزالُ الافتتان بهذا التوجه حيًّا في وقتنا هذا إلى جانب الافتتان بقدرة الدواء، والذي أريدُ هنا بيانهُ هوَ أن الطب النفسي على مستوى العالم مازال يحاول البحثَ عن إجابةٍ للسؤال الكلي الذي يستطيعُ إذا أجبنا عليه أن نفهم كل شيء، ولكنَّ الإجابةَ النهائيةَ ما تزال بعيدةً بالرغم من بزوغِ إجابةٍ تلو إجابة.
وإذا عدنا إلى الوسواس القهري فإنني أتساءل ما موقفنا نحنُ كأطباءَ نفسيين عرب من ناحية دراسة هذا الاضطراب في بلادنا، أليس فيه كثيرٌ من التقصير، وإن كنا -في واقع الأمر- لا نتحملُ المسؤوليةَ عنهُ كاملةً لأننا إلى حدٍّ بعيدٍ نواجهُ بالعديد من المفاهيم الخاطئة التي كثيرًا ما تحولُ بينَ الطبيب النفسي وبينَ ممارسة عمله اليومي كطبيبٍ نفسي، فما بالنا بعمله كباحثٍ حينَ يحاول البحث؟، وبينما البحثُ العلميُّ وظيفةٌ أساسيةٌ لا غنى عنها لكل طبيبٍ نفسي في مجتمعاتنا، فإن فجوةً كبيرةً ما تزالُ تفصلُهُ عن مجتمعه لمجرد أنهُ طبيبٌ نفسي.
وأنا بذلك لا أبررُ بالطبع اكتفاءنا بنتائج الدراسات الغربية، لأنها بالتأكيد لا تعبر عن واقع حالنا وحال مجتمعاتنا العربية، وأقول ذلك رغم اعترافي بأنني كثيرًا ما اعتبرتُ نتائج الدراسات الغربية على المجتمعات الغربية مؤشراتٍ أخذتُ بها، واعتبرتُ أنها تعبرُ عنا لكن عذري أنني لم أجد لها بديلاً، وأنني كنتُ أعتبرُ خبرتي الشخصية في مجال عملي إضافةً إلى خبرة أساتذتي وزملائي وتلاميذي من الأطباء النفسيين أداةً تنفعني كثيرًا في تحديد ما يصلحُ وما لا يصلحُ للتطبيق على مجتمعنا، ولعل هذا ما يستطيعُ الباحثُ العربي أن يبدَأ به.
وأنا من أجل ذلك أدعو كل طبيبٍ نفسي عربي إلى العمل أولاً على مجاهدة المفاهيم الخاطئة المتراكمة في وعي وفي لاوعي المجتمعات العربية والتي أزعمُ أن أصل معظمها، إن لم يكن كلها، إنما تسلل إلى الوعي واللاوعي العربي من خلال ما تسلل من مفاهيم ومواقفَ نتجت في الغرب، وليست لموقف رفض الطب النفسي أصولٌ عربيةٌ ولا إسلاميةٌ كما بينتُ في دراسةٍ سابقةٍ لي، وليس في تاريخ تعامل العرب والمسلمين مع المرضى النفسيين إلا ما يشرفُ المرءَ إن عرفه، وأنا لذلك أدعو الأطباء النفسيين العرب، وهذه هي دعوتي الثانية إلى أن ينطلقوا من منطلقاتٍ تناسبُ ثقافتهم وموقفهم المعرفي من الحياة والإنسان لكي يدرسوا الصورَ المرضيةَ للاضطرابات النفسية في المرضى العرب لأن انطلاقنا من منطلقات تنبعُ من ثقافتنا نحنُ سيجعلُ اقترابنا من مجتمعاتنا أيسر وأنفع لنا ولهذه المجتمعات، وليسَت المطالبةُ بالعمل على وضع تصنيفٍ عربي للأمراض النفسية من منظور عربي/إسلامي إلا أول الخطوات على هذا الطريق، فلابد أن يكونَ نظامُ تشخيصنا عربيا ما دام مرضانا من العرب.
وأنا أسألُ سؤالاً لكلِّ من قامَ بإجراءِ بحثٍ علمي على مجموعة من المرضى النفسيين، وسؤاليَ في منتهى الوضوح: "هل كنتَ تجري الدراسةَ، وتخططُ لها دونَ أن تكونَ في ذهنك نظريةٌ تريدُ إثباتها؟ "إن ادعاءَ أننا نتحركُ في بحثنا بحياديةٍ وموضوعيةٍ تامةٍ هوَ ادعاءٌ ينزعُ عنا صفةً جوهريةً فينا هيَ أننا بشر! فنحنُ نبحثُ لإثباتِ ما نريدُ إثباتهُ، أو لنعرفَ أننا لن نستطيعَ إثباتهُ مثلاً، لكننا لا نستطيعُ البحثَ مبتدئينَ من نقطةِ لا شيء!، وهنا يقبعُ السؤال: فما هيَ النقطةُ التي نتحركُ نحنُ منها في بحوثنا في العالم العربي والإسلامي، إننا في كل بحثٍ نجريه إنما نتحركُ من معطيات بحثٍ غربي ما لكي نثبتَ أو ننفي (وهو ما يندرُ جدا أن يحدثَ، وإن حدثَ فإنها مصيبةٌ تصيبُ الباحث في بلادنا للأسف)، والمشكلةُ التي لا يدري بها الكثيرونَ هوَ أن معطيات البحث الغربي ليست فقط متحيزةً ضدنا، ولكنها متحيزةٌ دونَ أن تدري ضد الإنسان نفسه، لأنها تنزعُ عنهُ كل ما هوَ إنساني!، إننا إذن نحتاجُ إلى الانطلاق من رؤيتنا نحنُ للكون وللإنسان ما دامتْ لنا رؤيةٌ نؤمن بها.
إذنْ: علينا أن ننتبهَ إلى بعضٍ من الأفخاخ التي نقعُ فيها تباعًا في بحثنا العلمي في العالم العربي الإسلامي، وأهمها هنا هو افتتاننا الكاملُ بالغرب، أو عكسُ ذلك أي رفضنا الكاملُ للغرب،
* فمن ناحية افتتاننا أقولُ أنه قد يكونُ النموذجُ الغربي منظمًا ومتقدما بالمقاييس المادية لكنهُ فاشلٌ بالتأكيد في تعامله مع إنسانية الإنسان وحتى إن نجحَ في تعامله مع الإنسان الغربي فإنهُ بالتأكيد غيرُ ناجحٍ في التعامل مع الإنسان العربي ولا يمكنُ أن ينجحَ معهُ، وأظنُّ أن كل طبيبٍ نفسي يعملُ عقلهُ ولا يديرُ ظهرهُ للأفكار الحية الموجودة في مجتمعه، يعرفُ ذلك من خلال تعامله مع الناس في مجتمعاتنا، وأنا أستثني من هؤلاء أولئك الذين يعتبرون المجتمعَ العربي الإسلاميَّ مجتمعًا متخلفًا بينما أفكارهم التي صدقوها عن الغرب هيَ التقدم، لأن التقدم في رأيي هوَ أن نصل بالإنسان إلى ما يجعلهُ متوافقًا مع حياته ومع ما خلقهُ اللهُ من أجله، فالإنسان حسب معتقداتي الدينية أيضًا موجودٌ في هذه الدنيا لعلةٍ وليسَ هباءً ولا صدفة، لكي يُتْرَكَ للسيروتونين يلعبُ به كيفما شاء، أيا كانَ السيروتونينُ هذا.
* وأما رفضنا الكامل للغرب فأقول أنهُ موقفُ من يقررُ الانتحار على كل المستويات لأن الغربَ الآن يسودُ العالمَ ماديا مستحقًّا هذه السيادةَ بما امتلكهُ من قدرةٍ على التحكم في المادة، ونحنُ لا نستطيعُ الاستغناء عن أساليب مواجهة الواقع المادي السائد بالطبع، ولا الغربُ حتى سيسمحُ لنا بذلك.
وأما الفخ الثاني فهوَ أن نقرأ أنفسنا بعيونٍ غربيةٍ فنرانا كما يرانا الغرب ونرى الناس في مجتمعاتنا أيضًا كما يراهم الغرب، وكذلك أن نقولَ أنفسنا ونقول الناس في مجتمعنا بلغةٍ غريبةٍ على الناس لكنها أسهل لأنها اللغة التي تعلمنا بها، وتكونُ النتيجةُ هيَ أن يزيدَ انفصالنا عن الناس الذين يرون فينا أطباءهم النفسيين وبينما يزيدُ انفصالنا عن مجتمعنا يزيدُ التصاقُ الناس بكل من هبَّ ودبَّ مِن مَن يدعون العلم ولا علاقةَ لهم به لكنهم ينظرون للناس بعيون لم تتأثرَ بعيون الغرب، فتكونُ اللغةُ التي يكلمونهم بها لغةً مفهومةً لديهم، وتكونُ قدرةُ هؤلاء على التواصل مع الناس أكبر من قدرة الأطباء النفسيين.
فصحيحٌ أن نقاطَ التشابه بينَ البشر على اختلاف أعراقهم ودياناتهم كثيرةٌ لكنَّ نقاط اختلافهم أيضًا كثيرة، ولا يمكنُ أن تكونَ أعراض الإنسان المسلمِ إذا ما أصابهُ اضطرابٌ نفسي هيَ نفسها أعراضُ غيره صحيحٌ أن هناكَ تشابهًا كبيرًا خاصةً في اضطراب الوسواس القهري لكنَّ إغفال نقاط الاختلاف الذي يميلُ الكثيرون له ليسَ إلا إغفالاً لكينونتنا وخصوصيتنا كبشر لهم بناءٌ قيميٌّ خاصٌ بهم، ولعل لدى كل طبيبٍ نفسي من المواقف التي قابلها أثناء عمله في مجال الطب النفسي ما يؤيد ذلك وما لو حكاهُ لنا لعضد ما أقولهُ! لكن الأطباء النفسيين إما صامتون وإما يرطنونَ الإنجليزية بالعربية أو العربيةَ بالإنجليزية، وأنا في النهاية لا أدري لماذا لا يتكلمُ الأطباءُ النفسيون في بلادنا بلغةٍ يفهمها الناس؟
وأحمدُ الله الذي قدر لي ذلك الموقفَ الصعب الذي ما أراهُ إلا وجهني ناحيةَ التراث العربي الإسلامي لكي أقفَ موقفَ الطبيب النفسي المسلم الذي يأخذُ معلوماته عن عالم الغيب النفسي من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ويأخذُ معلوماته عن عالم الشهادة من معطيات البحث العلمي الحديث دون أن يغترَّ بها ولا أن يفتتنَ بمنجزاتها التي يعرفُ جيدًا أنها تحتملُ الخطأ كما تحتملُ الصواب، ولعل في مقالينا السابقين على نطاق الوسواس القهري عن مصدر الفكرة التسلطية الأولى ما يبين كيف يمكن أن يسير التفكير، ولمن يرد الاستزادة أن يقرأ ما هو مصدر الفكرة التسلطية (الوسواسية) الأولى؟ (1) ، وما هو مصدر الفكرة التسلطية (الوسواسية) الأولى؟ (2) ، ولكن النقطة المهمة هنا هي أن علينا كأطباء نفسيين وكمرضى أن نتعامل مع معطيات عالم الشهادة بأساليب عالم الشهادة حتى ونحن نبحثُ لها عن تفسير غيبي.
التعديل الأخير تم بواسطة Doctor X ; 19-01-2011 الساعة 12:15 PM
الـــــــSHARKـــــاوى
إن المناصب لا تدوم لواحد ..... فإن كنت فى شك فأين الأول؟
فاصنع من الفعل الجميل فضائل ..... فإذا عزلت فأنها لا تعزل
-
التفكير العلمي في مقابل التفكير الخرافي والأسطوري
التفكير العلمي في مقابل التفكير الخرافي والأسطوري ::
الكاتب : د.داليا محمد عزت مؤمن
دعونا نتفق في البداية علي ثلاث قضايا:
*القضية الأولي:
مرجعية العلم فالعلم له مصدران، المصدر الأول هو الكون من حولنا بكل ما فيه فأول ما أنزله الله تعالى" اقرأ باسم ربك الذي خلق" فأمرنا الله هنا بتدبر الخلق والكون ككل. ثم قال " الذي علم بالقلم " ويقصد به الوحي وهو المصدر الثاني للعلم، وبذلك يكون مصدر علمنا جانبين الكون والوحي. فالكون هو من خلق الله وكذلك الوحي، فكلاهما من مصدر واحد وهو الله تعالى فلماذا أؤمن بجزء ولا أؤمن بالآخر طالما هما من عند الله.
*القضية الثانية:
حرية البحث العلمي بغير قيد أو شرط، فقد قال الله تعالي" هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" ولم يقل لنا يعلمون ماذا، وفي ذلك إشارة لإطلاق حرية الفكر والبحث والعلم دون حدود، فلا مانع من البحث في الاستنساخ وفي الفضاء وفي الجينات فكل ذلك مباح فمثلا(فاوست) فكر في فكرة القضاء على الموت فهناك حرية متاحة في التفكير وليس هنا نوع من الحد في البحث، وأوصلنا فكره إلي الاستنساخ.
*القضية الثالثة:
حدود التطبيق فإذا جاز لنا أن نتعلم وندرس بلا حدود فإن تطبيق العلم له حدود، وهذه الحدود أوضحها الله لنا في قوله"ولا تعثوا في الأرض مفسدين" فلا مانع أن نبحث حتى نصل إلى صناعة الرصاص من خلال أبحاث عن مواد موجودة في الفضاء ولكن لا نطبق هذا العلم بحرية القتل وفي نفس الوقت تم الاستفادة من هذه المادة في حشو الأسنان وهو شيء جميل، أي أننا أُمرنا بعمل الخير والبعد عن الشر.
وبذلك نكون قد وضحنا أمرا يلتبس فيه البعض حين يرى أنه لا يجب أن نبحث في أمور معينة، فنقول لا حدود للبحث العلمي ولكن هناك حدودا فقط في التطبيق.
لنتحدث الآن عن البحث العلمي ونرجع إلى فخر الدين"الرازي" الذي عاش في القرن السادس الهجري ومات في بداية السابع فنجده ألف في أصول الفقه والتفسير وغيره، ويقر هو ومدرسته أن أصول الفقه تهتم بما يسمى بالجمع لا بالإفراط ولابد أن يشتمل البحث على ثلاثة أمور: -
1– مصادر البحث.
2– كيفية القيام بالبحث .
3– شروط الباحث.
وهذه الشروط الثلاثة هي ما توصل إليه بعد ذلك" روجرز بيكون" عندما تكلم عن المنهج العلمي، فقال إن علينا أن نحدد مصادر المعرفة، ثم الطرق والمناهج والأساليب المستخدمة في هذا البحث، وأخيرا شروط الباحث والعلوم التي يجب أن يلم بهاويعرفها.
*الفكرة الثانية:
والتي أود أن أطرحها هي قضية الجملة المفيدة عند علماء اللغة والتي سميت بأسماء مختلفة في الفقه أو الفلسفة أو علم الكيمياء وغيره فسميت بالقضية أو المسألة أو الدعوة...الخفهذه الجمل هي التي تُكون العلوم، ويقولون"تتمايز العلوم بتمايز موضوعاتها" فالاختلاف بين تخصص وآخر هو اختلاف المواضيع أو المسائل أو القضايا التي يدرسها كل تخصص ولكن من أين نصل إلى تلك الحقائق أو الجمل؟
•حين نقول مثلا النار محرقة فهذه جملة مفيدة نصل إليها من خلال التجربة.
•وحين نقول 1 + 1 = 2 فإن الدليل على ذلك هو العقل.
•أو نصل إليها نقلا مثل " الفاعل مرفوع " فلم نصل إليها بالتجربة أو العقل ولكن استفدنا من خلال النقل وهكذا .
لقد ترجم رفاعة الطهطاوي" كلمة science إلى علم وهي ترجمة غير كاملة هو ما نصل من خلاله إلى يقين فحين نقول social human أي العلوم الاجتماعية أو أي العلوم الإنسانية مثل علم النفس وعلم الاجتماع فذلك يعني أننا نريد انضباط هذه العلوم انضباطا يصل إلى انضباط علوم الكيمياء، ونتمنى أن تكون والمناهج التي تتناسب معها هي المناهج الامبيريقية EMPERICAL METHODS وليس المنهج التجريبي، إذا ما أردنا أن نصل إلى التفكير العلمي سنتحدث عن قدر اليقينية من المعرفة سواء وصلنا إليه من خلال: التجريب أو العقل، أو الحس، أو النقل، وأناأدعي أن اختلاف مفهوم" العلم" عن غيره في أنه ما نصل إليه بالنقل باستخدام مناهجنا العلمية.
الفرق بين العلم والخرافة:
الفرق بين العلم والخرافة هو الدليل، فالدليل على ما يتم التوصل إليه( أي الجملة المفيدة / الدعوة / القضية.....) بصحيح النظر فيه( أي الأدوات المتفق عليها والتي تحدد الحجية والتوثيق)، فالدليل هو أن نصل به إلى القطع( ضد الشك) فيصبح قوانين/ ظواهر/ مسلمات لذا هناك فرق بين العلم اليقيني وبين الخرافة،فإذا لم نجد النتيجة من خلال التجريب أو التكرار( كتكرار حدوث عاملين معا مرات كثيرة حتى إن لم نعرف سبب ذلك) فذلك خرافة أو أنه ليس علما بعد.
خذ مثلا ما كتبه"داوود" بأن جرعة معينة من عشب معين تشفي مرضا معينا، هنا لابد من التجريب، ولكن لنفرض أننا جربنا وفشلنا هل معنى ذلك أن هذا الكلام ليس علما، أو أنه خرافة،؟
لا يمكن أن نقرر إلا بعد النظر إلى عدة أمور تدخلت في نتائج التجربة وهي:
1– نسأل هل الزراعة ظلت كما هي ولم تتغير؟ أم أننا مع التطور في مجال الزراعة قد زودنا من مقدار المادة الفعالة ومن ثم فإن نفس الجرعة الموجودة في الكتاب إذا أخذناها الآن تصبح كأننا أخذنا عشر مرات أكثر من المادة الفعالة.
2 – طبيعة أجسامنا التي تعودت على الأدوية، وهنا نرجع إلى علم الأدوية أو الفارماكولوجي.
3 – ننظر إلى كم التلوث الذي أصبحنا نعيش فيه.
إذن لابد أن نأخذ هذا كله في الاعتبار قبل أن نقول أن التجربة فشلت، فقد تكون التجربة صحيحة بأوضاع معينة.
*الفرق بين الخرافة والإيمان بالغيب:
• الإيمان بالغيب هو إيمان بالقلب بأشياء معينة دون التفاعل معها تفاعلا مباشرا.
• العلم محله المحسوس أو التعامل مع ما أسماه القرآن" عالم الشهادة ".
• الغيب ليس هناك تعاملا معه، ومحله التصديق والإيمان وإنما بالدليل. فهناك دليل شرعي يثبت عالم الغيب ويجعلني أؤمن بهذا العالم" عالم الغيب" وقد قال الله تعالى عن نفسه" عالم الغيب والشهادة" فهو عالم بالاثنين معا..
لنأخذ مثالا يقول الإمام الشافعي:( من ادعى أنه قد رأى الجن رُدت شهادته لفسقه) لأن ذلك مخالف للعقلية التي بناها الله سبحانه وتعالى حين قال" إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم".
قدمه:
الأستاذ الدكتور علي جمعة(أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر الشريف،ومفتي الديار المصرية).
في مؤتمر "التفكير العلمي وتكامل المعرفة" والذي عُقد في الفترة من 18 / 19 أبريل 2004 بتنظيم كلية الآداب – جامعة عين شمس
عرض الدكتورة داليا مؤمن(مدرس علم النفس بآداب عين شمس).
الـــــــSHARKـــــاوى
إن المناصب لا تدوم لواحد ..... فإن كنت فى شك فأين الأول؟
فاصنع من الفعل الجميل فضائل ..... فإذا عزلت فأنها لا تعزل
-
نطاق الوسواس القهري هل لنا أن نفكر؟
نطاق الوسواس القهري هل لنا أن نفكر؟ ::
الكاتب: أ.د.وائل أبو هندى
المفهوم الحالي لنطاق الوسواس القهري Obsessive Compulsive Spectrum مفهومٌ ما يزالُ في مرحلة التطور والتغير بشكلٍ يجعلُ المرْءَ غير قادرٍ على التعميم اللازم لنحت المصطلحات، لكنَّ الواضح حتى الآن على الأقل أن اعتبار اضطراب الوسواس القهري واحدًا من اضطرابات القلقِ Anxiety Disorders وهو ما حدث في التصنيف الأمريكي الرابع DSM-IV، وحذا حذوه تصنيف منظمة الصحة العالمية العاشر ICD-10، بينما هوَ اعتبارٌ بعيدٌ عن الصواب، لأن اعتبار وجود القلق بوضوحٍ في معظم مرضى الوسواس القهري سببًا كافيا لضمه إلى اضطرابات القلق إنما يجعلُ المرءَ يتساءَلُ لماذا لا نضعُ النسبةَ الأكبرَ من مرضى اضطرابات الاعتماد على العقاقير مثلاً أو مرضى اضطراب الاكتئاب الجسيم أيضًا مع اضطرابات القلق?
والواقع أن تصورَ أي اضطراب نفسي لا يشكل القلق بأعراضه المعرفية والجسدية جزءًا مهما من صورته المرضية هو تصورٌ في منتهى الخيال، ولا وجود له بين المرضى، بل إنني أظنُّ أن اضطرابات أخرى صنفت أيضًا تحت عباءة القلق في ذلك التصنيف، ككل أنواع اضطرابات الرهاب Phobic Disorders، وكذلك اضطراب نوبات الهلع Panic Disorder، أصبحت الآن مرشحةً للتحرك خارجها لتدخل عباءة الوسواس أو نطاق الوسواس القهري.
والحقيقة أن من يتأملُ مريض الوسواس القهري نفسه من قربٍ بعد أن يلمَّ بمعطيات البحث العلمي الجديدة، إنما يقفُ حائرًا عند عديد من النقاط، فمثلا نقف عند نقطةٍ كثيرًا ما يعتبرونها الجوهرَ المميز لاضطراب الوسواس القهري وهيَ مقاومة المريض للفكرة التسلطية أو للفعل القهري، إذ كانَ مفهوم بقاء البصيرة عند مريض اضطراب الوسواس القهريِّ مركزيا بالطبع عند الجميع حتى وقتٍ قريب، لكنه اهتزَّ الآن بعنف واهتزت معهُ فكرةُ أن المقاومة ضرورية للتشخيص وأصبحنا نراجعُ الكثير من حساباتنا في الطب النفسي، ومع اهتزاز فكرة المقاومة تلك أصبحت صورة الاضطراب/الاضطرابات المتوزعة على متصل السيطرة الانفلات مهتزةً أيضًا فيما يتعلق بالبعد المعرفي الشعوري المصاحب لأداء السلوك المرضي، وبصورة أوضح أصبح كونُ الفعل ممتعا في حد ذاته "أي انفلاتيا" للمريض كما في الإدمان والعقعقة ومعظمِ اضطرابات العادات والنزوات، أو كونه فقط مسكنا للضيق والتوتر، كما في الوسواس القهري ووسواس المرض وغيرهما من اضطرابات النطاق الوسواسي القهري، أصبح الفرق بين كون المريض راغبا في الأداء (مستجيبا لنزوة) ونادرا ما يقاوم وإن قاوم فكثيرا ما يفشل، أو مضطرا إليه (مجبورا بضيقٍ وتوتر) وعادة ما يقاومُ وينجحُ إذا أراد وعولج، أصبح كل ذلك يتداخلُ تحت مفهوم القهرية، فالمريضُ مقهورٌ في الحالتين!
إذن سيكتشفُ المتأملُ من قربٍ لمشكلة مريض الوسواس القهري أن المشكلةَ أعمقُ من مجرد التحكم والمقاومة، إنما هيَ خللٌ في عملية التحكم نفسها، فمريضُ الوسواس القهري على سبيل المثال كثيرًا ما يتأرجحُ بينَ التحكم والتسيب أو السيطرة والانفلات، وكثيرًا ما نراهُ عاجزًا عن ضبط هذا البعد من أبعاد نفسيته، ومن يتأملُ التاريخ المرضيَّ الحياتي للعديد من حالات الوسواس القهري سيكتشفُ مثلا أن تلك السيدة التي كانَ كل ركنٍ في بيتها يلمعُ كما تلمع المرآة وحياتها كلها كانت تنظيفًا في تنظيف، يمكنُ أن تَتخذَ قرارًا مفاجئًا بالكف عن تنظيف بيتها بل وعدم السماح للآخرين بتنظيفه لأنها ببساطة أصبحت تشعرُ بالقرف من هذا البيت أو من نفسها أو لأنها وقعت فريسةً للتخزين القهري لأكياس القمامة! بل وأكثر من ذلك أننا لو تأملنا طريقةَ الانتحار الذي نادرًا ما يفعلهُ مريضُ الوسواس القهري لوجدناهُ دائمًا من أكثر أشكال الانتحار اندفاعيةً!
واستمرارا للتأمل في عملنا مع مرضى الوسواس القهري، أجد ما يدفعني إلى القول بأن مرضى اضطرابات نطاق الوسواس القهري وليس فقط مرضى الوسواس القهري، لديهم مشكلةٌ في عملية التحكم بالفعل، فمثلا في مرضى اضطراب الشخصية القسرية، ليس الأمر كما يبدو لأول وهلةٍ تحكمًا زائدًا فقط أو رغبةً في التحكم الزائد فقط، فهناكَ إحساسٌ أساسي داخلي بفقد الأمان هو ما يجعلُ من تمسك المريض المفرط بالقواعد محاولةً لمواجهة ذلك الشعور الدفين باللا أمان الأساسي، ومن المفيد أيضًا هنا أن نتأمل الطريقةَ الفريدةَ التي يتعاملُ بها مريض الوسواس القهري مع الأعراف الاجتماعية فهيَ ليسَت دائمًا الالتزام الصلب بالتقاليد والعرف بل إنها كثيرًا ما تكونُ عكسَ ذلك، فهل لذلك من معنى؟ إن مريض اضطراب الوسواس القهري الذي يفرطُ في تنظيف جسده عادةً ما لا يمتلكُ العاداتِ المفضيةَ إلى الصحة الجسدية، كما أن مريضَ الوسواس القهري الذي يصرُّ على الانضباط والنظام في حياته غالبًا ما لا يفعلُ ذلك بغاية تحسين أدائه في حياته وإنما يفعلهُ لأن الانضباط والنظام غايتان في حد ذاتهما!
كما أن متابعةَ حياة مريض اضطراب الوسواس القهري من الطفولة حتى الكهولة كثيرًا ما تُظْهِرُ تباينًا كبيرًا في تحكمه مقابل تسيبه فهوَ متسيبٌ مثلاً جداً في طفولته ومتحكمٌ جدا في كهولته أو العكس، وكانتْ هذه الملاحظةُ ملاحظةً شخصيةً لي حتى اكتشفتُ من الدراسات ما يؤيدُ وجهةَ نظري تلك خاصةً في حالات اضطراب الوسواس القهري المصحوبة أو المصاحبة لاضطراب العرات Tic Disorder حيثُ اتضحَ وجودُ اندفاعيةٍ عاليةٍ بالفعل في هؤلاء المرضى، ونفس الكلام نراه كثيرا في مرضى نقص الانتباه المفرط الحركة Attention Deficit Hyperactivity Disorder فهم غالبا متسرعون متعجلون مندفعونImpulsive، وهم في الوقت ذاته معرضون للوسوسة بأشكالها المختلفة، كما نجد أيضًا في أكثر مرضى اضطراب نتف الشعر Trichotillomania اندفاعية وانفلاتا أثناء عملية النتف، سمات شخصية منضبطة أو حتى قسرية ويعرفه الناس بأنه من أكثر الناس انضباطا والتزاما، أفلا يجعلنا كل ذلك نفكر في كل من طرفي متصل الاندفاعية القهرية المتناقضين ظاهرا، وكأنهما وجهان لنفس العملة.
وفي حين أن كلا من الأفكار التسلطية (الوسواسية)، والأفعال القهرية (المتسلطة) هما السمة المميزةُ لاضطراب الوسواس القهري، إلا أن التفكير الوسواسي، وأسمي أشكاله المختلفة كلها بالوسوسة المعرفية (سواء في صورة انشغال زائد عن الحد -إلى درجة مرضية- أو في صورة تفكير تصويري أو تخيلات كتخيلات الموت والعزاء، -تصل حدا مقعدا-، أو في صورة التفكير التسلطي الاجتراري المصور أو ما نسميه أحلام اليقظة المنفرة والتي لا يستطيع صاحبها مقاومتها أو ترشيدها كما بيننا في استشارة الوسواس القهري وأحلام اليقظة، أو في صورٍ أخرى) ، هذه الوسوسة المعرفية تحدثُ أيضًا في اضطرابات نفسية كثيرة منها الوسوسة المعرفية بـ"كيف أبدو؟!" كما في مرضى وسواس التشوه ومرضى وهام التشوه الجسدي Dysmorphic Delusion، ومرضى اضطرابات الحمية المنحفة Dieting Disorders وغيرهم من ضحايا عبادة الصورة، وكذلك تحدثُ الوسوسة المعرفية بـ"كيف أحس أو أستشعر كياني أو الكون من حولي" كما نجد في مرضى اختلال الإنية Depersonalization، أو بـ"كيف صحتي" كما نجد في مرضى وسواس المرض، أو بـ "كيف أنجو" كما في مرضى رهاب الساحة Agoraphobia،... إلى آخر ما يمكنُ من أمثلة.
ونفس الكلام ينطبق على الأفعال القهرية إذ نجدها في مرضى من غير مرضى الوسواس القهري كمرضى اضطراب العرات (اللوازم الحركية أو الصوتية) Tic Disorder وهم مرضى يكررون حركة ما أو تعبيرا أو صوتا بصورة قهرية، فعادةً ما نسمع من هؤلاء المرضى وصفا لظواهر حِسِّيَّةٌ جسديةٌ Somatosensory Phenomena مزعجة تسبق أفعالهم التكرارية Repetitive Actsوكأنها تأخذُ دورَ الفكرة التسلطية في دفع المريض إلى تكرار العرة (اللازمة) لكي يخفف من انزعاجه الحسي، وأحيانا نجد لدى هؤلاء المرضى وسوسة معرفية بعدم اكتمال الفعل -العرة- والرغبة في تكراره لإكماله، وكذلك نسمع من مرضى اضطراب نتف الشعر Trichotillomania وهو النتف الاندفاعي Impulsive أو القهري Compulsive أو التلقائي Automatic للشعر، لأنه قد يأخذ أيًّا من هذه الأشكال، نسمع من هؤلاء الذين يدمنون نتف شعرهم إلى حد القرع، وصفا لمشاعر تتأرجح على متصل الاندفاعية القهرية ما بين نتفٍ مصحوب بالاستمتاع إلى نتفٍ مصحوب بمجرد التخلص من الضيق إلى نتف يشعرون أنه مهمة لابد أن تنفذَ، وأحيانا يكون سلوك النتف سلوكًا تلقائيا فلا نسمع من المرضى أكثر من أنهم يفعلون ذلك دون انتباهٍ كامل أثناء انشغالهم بالتركيز في أي عمل أو نشاط، ونفس الكلام نجده في مرضى قضم الأظافر Onychophagia بالأسنان، ومرضى اضطراب تشويه الجسد Repetitive Self-Mutilation، ومرضى نقر الجلد المتكرر Psychogenic Excoriation أو نقر الجلد القهري، وغير ذلك مما شرحنا من قبل في مقال نطاق الوسواس القهري :: وساوسُ الحب والرغبة، وأيضا في مرضى الشذوذات الجنسية Paraphilias أو اضطرابات التفضيل الجنسي Sexual Preference Disorders بأنواعها المختلفة.
ولنعد إلى مفهوم نطاق الوسواس القهري لنقول أن الاضطرابات التي تقع داخله بشكل عام إنما تتسمُ أرض الصراع النفسي فيه بتوزع المرضى على عدة متصلات معرفية شعورية بعضها يتوازى وبعضها يتقاطع، وهذه المتصلات المعرفية الشعورية يتأرجح عليها توزع المرضى -بشكل عام- أو المريض بمضي الزمن -بشكل خاص- تأرجحا بين نقيضين شعوريين معرفيين سلوكيين، ولكنه غالبا تأرجح شعوري معرفي يصحب معه تأرجحا سلوكيا، وعلى هذه المتصلات أمثلة كثيرة لعل أهمها:
-1- متصل شعوري معرفي سلوكي بين الشك التام والثقة التامة في صحة أو منطقية الفكرة أو الفعل:
وهنا نجد أن الأمر قابل للتناول من زاويتين أحدهما هي زاوية اقتناع من يسرف في التنظيف أو العدِّ أو تكرار الفحص لدى الأطباء مثلا بضرورة ذلك الفعل ومنطقيته، في مقابل رفضه لذلك الفعل أو اعتباره فعلا سخيفا أو بلا معنى أو مجرد مسكنٍ للقلق، وأما الزاوية الثانية فهي ما نجدُها مثلا في مرضى الغيرة المرضية حتى مستوى وهام الخيانة الزوجية، حيث يوجدُ من هو على شكٍّ أن زوجته تخونه ويعيش موسوسا بذلك يراقبها ويلاحقها إذا كان مسموحا لها أن تتصل بالعالم في غير جوده، ويضيق عليها في وقت فراغه معها، وهو مجرد رجلٍ غيور كثيرا ما تتحمله نساؤنا، مثلما يوجدُ من يصل به الأمر إلى حد اتهامها اتهاما مباشرا وهو مع الأسف معتقد فيما يقول ولا يشك.
-2- متصل شعوري معرفي سلوكي بين الشعور باكتمال الفعل، مقابل الشعور بعدم الاكتمال:
وهذا ما نجده واضحا عند تشريح أعراض طقوس التكرار Repeating Rituals لدى عديدين من مرضى الوسواس القهري، كذلك نجدهُ واضحا عند مرضى اضطراب العرات (اللوازم الحركية أو الصوتية) Tic Disorder، حيث يشعر كثيرون منهم بعدم الارتياح الذي يفسرونه عند تكرارهم للعرة الصوتية أو الحركية بأنه شعورٌ بعدم اكتمال الفعلة السابقة والاضطرار لتكرارها بالتالي ويمكننا أن نعدَّ تكرار لا يوقفه إلا الإنهاك العضلي أو الانهماك الذهني في سلوك آخر، ومن بين مرضى الوسواس القهري المسلمين، الذين يوسوسون في تكبيرة الإحرام مثلا من تظلُّ تكررُ التكبيرةَ وتشكُّ في أنها لم تقع في روعها (لم تكتمل) كما يجب، فتكبرُ وتكرر التكبير، وترفع صوتها حتى أنها لتسمعُ كل من في البناية التي تسكنها وتبقى غير راضية عن تكبيرها!
-3- متصل شعوري معرفي سلوكي بين الثقة الكاملة والشك الكامل في واقعية الشعور بالذات والواقع المحيط:
وهذا ما يعبرُ عنه بجلاء مرضى اختلال الإنية Depersonalization، حيث يصدَمُ الواحد منهم غالبا فجأة بشعورٍ غريب نادرا ما يستطيع وصفه بسهولة خاصة في المراحل المبكرة، ومنهم من يصفه بعدم الواقعية أو اختلاف النظرة، وأهمُّ ما في هذه الخبرة النفسية التي كثيرا ما ترتبط بحدثٍ حياتي من النوع الثقيل ويصحبها على المستوى المعرفي الشعوري اقتحام لفكرة "هل أنا موجود فعلا؟" أو فكرة "هل الأشياء حولي حقيقية؟" أو كلا الفكرتين ومن يبحث في خاصية هذه الفكرة من الأطباء النفسيين غالبا ما يجد لها صفة التسلط على وعي الشخص، لكن أهم ما في هذه الخبرة هو أنها تعني بالنسبة للشخص ابتعادا عن المألوف والطبيعي بالنسبة له وهو الشعور بالثقة الكاملة في واقعيته وواقعية الأشياء، وكثيرا ما نجدُه نتيجةً لذلك الشعور المؤلم بالشك في حقيقته أو واقعيته هو أو الأشياء من حوله أو هو وما حوله، نجدهُ يقع بعد ذلك في براثن الرغبة في التحقق والتأكد من أنه موجود أو أن مشاعره هي مشاعره أو أن ما حوله حقيقي، بنفس طريقة وساوس التحقق (أفكار وأفعال التحقق القهرية Checking Obsessions & Compulsions)، حتى تبدو الصورة المرضية مشابهة تماما لصورة مريض الوسواس القهري، بل إننا كثيرا ما نجد حالات وسواس قهري تبدأ أصلا بظاهرة اختلال الإنية.
-4- متصل شعوري معرفي سلوكي بين الرضا الكامل والرفض الكامل للفعل أو الفكرة:
ونحن هنا نتكلم عن مفهوم ذي علاقة وثيقة بما ناقشناه من قبل في مقال البصيرةُ واضطرابُ الوسواس القهريِّ، وما نودُّ إضافته هنا هو إعطاء الأمثلة على ما يحاول هذا المقال بيانه فما يلقاه الطبيب النفسي واقعيا وهو يحاور مرضاه هو موقف القبول الرافض وليس دائما قبول المضطر، فإذا أخذنا الأفكار التشكيكية الدينية كمثال -وربما شتى أنواع الاجترار فيما لا طائل من التفكير فيه- لوجدنا المريض متباهيا بأفكاره التشكيكية في نفس الوقت الذي يرفضها فيه، وفي نفس الوقت الذي يطلب فيه الخلاص منها، ولعل هذا ما استفزني لنشر مقال بالسيلوجيزم إثبات وجود الله يقينا، في هذا الباب لأنني وجدتُ فيه جزءًا مما يردُّ به على بعض مرضى الوسواس القهري الذين يتساءلون عن غيبيات ويشككون فيها، ويبررون ذلك برغبتهم في الوصول إلى اليقين.
-5- متصل شعوري معرفي سلوكي بين الاستشعار المفرط للخطر تجاه سلوكٍ ما أو مثير ما وتجنبه بالتالي، وبين الإفراط في التعرض للخطر ناهيك عن استشعاره:
وهذا المتصل هو المتصل الذي نجدُ مرضى الرهاب بأنواعه المختلفة عند أقصى طرف الاستشعار المفرط للخطر، وتشملُ اضطراباتُ الرهاب أو الخوافِ: الرهاب الاجتماعي Social Phobia ورهاب الساحة Agoraphobia وكنت حتى عهد قريب أرى أن الذي قد تتداخل أعراضه من أنواع الرهاب مع أعراض الوسواس القهري، هو الرهابُ البسيطُ Simple Phobia أو ما أصبحَ اسمهُ الرهابُ النوعي Specific Phobias لأنَّ ما يصاحبُ هذا الاضطراب من سلوك تَجَنُّبِي يشبهُ السلوكَ التَجَنُّبِيَّ لمرْضَى الوسواس القهري، كما أن الموضوعَ الذي يتعلقُ به الخوفُ الرهابيُّ في مرضى الرهاب النوعي يكونُ في كثيرٍ من الأحيان مشابها لموضوع المخاوف الوسواسية في مرضى الوسواس القهري فمثلاً الخوفُ من الإصابة بالعدوى أو من التلوث يمكنُ أن يكونَ موضوعًا لكلا الاضطرابين وكلُّ ذلكَ يجعلُ التفريقَ صعْبًا في كثيرٍ من الأحيان، إلا أن الخبرة الإكلينيكية مع المرضي بعد ذلك علمتني أن رهاب الساحة أيضًا يأخذُ نفس الصورة فهي فكرةٌ تسلطية تتعلق بـ"كيف أنجو؟" من خطرٍ محددٍ يحدثُ خارج البيت أو حتى داخله في المراحل المتقدمة، وأضرب مثلا بمريض تتسلط عليه فكرةُ أنه سيحصره أو سيسبقه البول وهو في مكان لا يستطيع التبول فيه-خارج البيت-، ويصل به الحال إلى ضرورة التبول قبل الرد على مكالمة الهاتف الأرضي كي لا يحدثَ ذلك وهو يتكلم -أي داخل البيت-، وتصحب تلك الفكرة كل أشكال الأفعال القهرية التي تقلل من إفراز البول، فلا يشربُ مثلا خارج البيت ومبتدءًا من ساعتين قبل الخروج من بيته، بحيثُ يضمن ألا يحصره البول، وأذكر من لا يأكل أبدًا ليلة السفر، أو في الليلة التي تسبق الامتحان الشفهي خوفا من أن يتقيأ أمام الممتحن، أي أن كل أنواع الرهاب يمكنُ أن تتداخل أعراضها مع أعراض الوسواس القهري.
ولكن الغريب هو أنك تجدُ في صفات نفس هؤلاء الأشخاص سماتٍ في الشخصية أو أعراض تنتمي إلى أقصى الطرف الآخر من هذا المتصل الشعوري المعرفي فتجدهم مثلا يتسمون بالعجلة أو الاندفاعية والتي تعني تعرضا للخطر إما كسمات أو كعرض لاضطراب سلوكي مواكب Comorbid Behavioral Disorder، فهذا ما غالبا يتضح بعد قليل من الاستماع للمريض، بحيث تبدو في المريض نفسه سلوكيات تناقض الاضطراب الذي يشتكي منه، وعلى المستوى السلوكي المعرفي الشعوري نفسه.
-6- متصل شعوري معرفي سلوكي بين التحكم والانضباط وبين التسيب والانفلات:
ولعل هذا المتصل هو الأشهر في التصورات الغربية الحديثة في الطب النفسي، وإن وضعوا عليه كل أصناف اضطرابات نطاق الوسواس القهري موزعة حسب مقدار التحكم والحرص على الانضباط أو العكس بحيث يقع اضطراب الوسواس القهري في أقصى جهة التحكم المفرط، بينما تقع اضطرابات العادات والنزوات في أقصى جهة التسيب والانفلات من نفس المتصل، وتقع الاضطرابات الأخرى في النطاق قريبا من هذا الطرف وبعيدا من الآخر بمقدار ما تقتربُ أعراض الاضطراب من التحكم أو التسيب، إلا أننا في نفس المريض بأي من اضطرابات النطاق غالبا ما نجدُ سماتٍ قهرية وسمات اندفاعية في نفس الوقت أو خلال مراحل مختلفة من حياته، أي أن المرض نفسه يتحرك داخل النطاق وتتأرجح أعراض اضطرابه أو السمات السائدة لسلوكه على متصل التحكم القهرية/التسيب الاندفاع، فمثلا نجد مريض الوسواس القهري في مواجهة المواقف الحياتية التي تتسم بالجدة عليه إنما يبينُ تأرجحَ موقفه بينَ الاستسلام التام وبينَ الاعتراض العدواني أحيانًا بالشكل الذي يؤكدُ افتقاده للمرونة في مواجهة المواقف الحياتية وعدم معرفته كيف يتعاملُ معها، ونفس الكلام يمكنُ أن يستنتجَ من عدم إقبالهم أو ترحيبهم بالجديد عموما لأنهم لا يعرفونَ أو يخافونَ من التعامل معه.
المهم أن ذلك كلهُ يجعلُ وضعَ اضطراب الوسواس القهري ضمنَ مجموعةٍ مستقلةٍ من الأمراض السلوكية والنفسية هيَ اضطراباتُ نطاق الوسواس القهري، هوَ الوضع الأقربُ إلى الواقع، ونحنُ ما نزالُ في مرحلةِ الفهم فيما يتعلقُ بهذه المجموعة من الاضطرابات، ولهذا السبب وغيره، يصبحُ التوجهُ الحديثُ لاعتبار اضطراب الوسواس القهري واحدًا من مجموعة الاضطرابات النفسية الجديدةِ إلى حد ما (أو التي بدأنا نفهمها ونجمعها ونصنفها حديثا) والتي تسمى باضطرابات نطاق الوسواس القهري OCSDs توجهٌ أفضلُ بكثيرٍ من اعتباره واحدًا من اضطرابات القلق، وهذه المجموعة من الاضطراباتِ في الحقيقة هيَ اضطراباتٌ تتعلقُ بمتصل شعوري معرفي هو متصل الاندفاعية "أو التسيب" أو الانفلات في مقابل القهرية "أو التحكم" أو السيطرة، أي أنها اضطرابات تتعلقُ بقدرة الشخص على التحكم في رغباته واندفاعاته، ويوضعُ مريضُ الوسواس القهري بالطبع على أقصى طرف القهرية أو التحكم بينما تتوزعُ بقيةُ الاضطرابات على هذا المتصل إلى أن نصل إلى اضطرابات العادات والنزوات في أقصى الطرف الآخر للمتصل أي طرف الاندفاعية أو التسيب.
ولا أظنُّ أنني بعد عرضي لما ورد على ذهنيَ الآن من أفكار تتعلق بذلك التداخل بين أعراض اضطرابات نطاق الوسواس القهري، لا أظنُّ أنني غطيت جوانب موضوع خاصة ما يتعلق منها بالتداخل مع الاضطرابات الذهانية Psychotic Disorders، أي بين الوسواس والفصام أو بين الوسواس والاضطراب الوهامي، بل ولم أغطِّ كل جوانب التداخل مع ما تطرقتُ إليه في هذا المقال من الاضطرابات العصابية Neurotic Disorders أو غيرها، وإنما عذري هو أننا ما نزال في مرحلة من يحاول التأمل والتفهم، كما أعد بمواصلة التفكير في هذا الموضوع، ولعلَّ تأمل الشكل التوضيحي في هذا المقال، ومعرفتنا بأن نتائج دراسات التواكب المرضي ودراسات العوامل الوراثية ودراسات تجريب العقاقير العلاجية، ودراسات تطبيق أساليب العلاج المعرفي السلوكي المختلفة.
كل ذلك يشيرُ بوضوح إلى أن المشترك بين كل هذه الاضطرابات وبين اضطراب الوسواس القهري أكثرُ بكثير من المختلف أو المُمَيِّزِ لأي اضطراب، فهي اضطرابات غالبا ما تتواكب في صورٍ مختلفة في نفس المريض أو نفس العائلة، وتستجيب لنفس طرق العلاج عقَّاريا بالماسا ونفسيا بنفس أساليب العلاج المعرفي السلوكي، وأعراضها تشمل دائما أفكارا أو مشاعر تتسلط على المريض وأفعالا يلجأ إليها ليقلل معاناته فلا تقللها إلا قليلا، كل ذلك يدفع المرء إلى الاقتناع بضرورة أن نفكرَ في منظومة اضطرابات نطاق الوسواس القهري بطريقةٍ أقرب إلى مفاهيم ثقافتنا فيما يتعلق بالوسوسة، لعلنا نسلط الضوء على معنى جديد يساعدُ في فهم الإنسان لنفسه، وهل نجدُ في ثقافتنا فهما مغايرا لما يضم الوسوسة والعجلة و........... غير ذلك؟
الـــــــSHARKـــــاوى
إن المناصب لا تدوم لواحد ..... فإن كنت فى شك فأين الأول؟
فاصنع من الفعل الجميل فضائل ..... فإذا عزلت فأنها لا تعزل
-
نطاق الوسواس القهري :: صفحة 2
نطاق الوسواس القهري :: صفحة 2
أولاً : وساوسُ الخوف والريبة :
-1- وسواس المرض :
ويندرجُ تحتَ هذا النوع من الوساوس المتميزة بخوف المريض على صحته العديدُ من أنواع الحالات بعضها يصنفهُ الأطباءُ النفسيون مع الاضطرابات الجسدية الشكل Somatoform Disorders تحتَ اسم اضطراب المراق أو اضطراب توهم العلل البدنية Hypochondriacal Disorder والذي قدمتُ مثالاً لتاريخ حالة مرضية في أول هذا الفصل ، وبعض حالات وسواس المرض ينطبقُ عليها اضطراب الوسواس القهري نفسه كما ذكرتُ من قبل وذلك حسب التعريف المعتمد في التصنيف الغربي الحالي للأمراض النفسية ، والذي يجمعُ هذه الحالاتِ مع بعضها البعض هنا هوَ :
(1) وجودُ الخوفِ من المرض أو من احتمال الإصابةِ به أو التعرض لمسبباته.
(2) وجود منظومةٍ معرفيةٍ تميلُ إلى تأويل كل عرضٍ جسديٍّ عاديٍّ أو بسيطٍ كدليلٍ على وجودِ مرضٍ خطير رغم أن هذا العرض نفسه يفسرهُ الآخرونَ على أنه عرضٌ عابرٌ أو علامةُ إرهاقٍ وينسونهُ بسرعةٍ).
(3) وجود الأفكار التسلطية المتعلقة بذلك ، والأفعال القهرية المتعلقة بذلك أيضًا والمتمثلة في العرض المتكرر على العديد من الأطباء وإجراء العديد والعديد من الفحوص الطبية بسبب الريبة في نتائج هذه الفحوص.
إذن فهناكَ في حالات وسواس المرض علاماتُ اضطراب الوسواس القهري المتمثلة في الأفكار التسلطية والأفعال القهرية إضافةً إلى الانشغال بالمرض والفحص الطبي المتكرر كمحتوى لهذه الظواهر القهرية.
-2- وسواسُ التشوه :
وَيندرجُ تحت هذا النوع من وساوس الخوف والريبة مريضُ اضطراب توهم التشوه الجسدي Body Dysmorphic Disorder أو كما كانَ يسمَّى قديمًـا رهاب التشوه Dysmorphophobia فالمريضَ هنا يعاني من فكرةٍ تسلطية أو وسواسية بكل معنى الكلمة لكنها متعلقةٌ بتشوه في شكل منطقةٍ معينة من الجسد ومن أشهر هذه المناطق الأنف أو الشفتين أو الثدي أو الأرداف؛ فيزور عيادة الجراح ويتكلمُ معهُ في إحساسه بأن أنفهُ مثلاً كبيرٌ أكثر من اللازم أو معْـوَجٌ بشكلٍ أو بآخر وفي أغلب الأحوال يكونُ ذلك غيرُ صحيحٍ أو على الأقل مبالغٌ فيه بدرجةٍ كبيرةٍ وهذا المريضُ يشبهُ مريض اضطراب توهم العلل البدنية ، أو مريضَ وسواس المرض كما سميناه ، في أنه لا يستطيعُ تصديقَ الأدلة التي تثبتُ خلوهُ من التشوه أو العيب الخلقي في أنفه مثلاً إلا أن مدى اقتناعه بوجود التشوه لا يصل إلى مستوى الفكرة الضلالية أي أنه ليسَ مريضًـا ذهانيا لكنهُ في نفس الوقت لا يستطيعُ التخلص من الفكرة كما أن هذا المريضَ يفعلُ أيضًـا أفعالاً قهرية من قبيل التحقق والرغبة في الاطمئنان على شكل العضو الذي يتخيل فيه التشوه من كل المصادر الممكنة وأشهرها بالطبع هو الجراح خاصة جراح التجميل فإذا أخطأ جراحُ التجميل وأجرى للمريض جراحةً تجميلية ساءتْ العاقبةُ وازدادَ دور الطبيب النفسي صعوبةً لأنَّ المشكلة لم تكنْ في شكل العضو وإنما في إدراك المريض لشكله!؛ إذنْ فالطبيبُ النفسيُّ هنا يجدُ مريضًا يعاني من فكرة تسلطية لا هو بالمقتنع بها تماما ولا هو بالقادر على نسيانها ويجدُ منْ يصفُ أفعال النظر إلى المرآة للاطمئنان وإعادة الاطمئنان وتكرار الزيارة لكل من يستطيعُ الوصولَ إليهم من الجراحين أو أطباء الأمراض الجلدية في الحالات المتعلقة بالجلد وكأنها أفعالٌ قهريةٌ يضطرُ إلى فعلها لأنها تريحهُ من القلق والتوتر.
وهناكَ أيضًا مِن مَن يمكنُ إدراجهم ضمنَ مرضى وسواس التشوه أولئكَ المرضى الذينَ يتشوهُ لديهم شعورهم بذواتهم ، وهم مرضى اضطراب اختلال الإنية أو تبدد الشخصية Depersonalization والذي يشكو فيه المريضُ من تغيرٍ دائم أو متكررٍ (على شكلِ نوباتٍ) في إدراكهِ لذاتهِ أو إحساسه بها بمعنى أن هناكَ خللاً يُسَبِّبُ فقْـدًا أو تغيرًا لإحساس المرْءِ بذاته كما اعتادَ عليه قبلَ حدوثِ الاضطراب ؛ وهوَ ما يصِـفِـهُ المريضُ بتعبيراتٍ عديدة مثلَ أنهُ يشعرُ أنهُ مفصولٌ عن ذاته بحيثُ يكونُ كمن يراقبها من الخارج أو أنه يراقبُ عملياته العقلية أو الجسدية أو أنهُ يحسُّ أنه أصبحَ إنسانًـا آليًّـا فلا يحسُّ مشاعرهُ التي اعتاد عليها أو أنهُ يحسُّ بفقدان القدرة على التحكم الكامل في أفعاله العقلية أو الجسدية أو أنهُ يحسُّ بأن مشاعرهُ مخَـدَّرَةٌ أو مُـنَـمَّـلَـةٌ إلى آخر هذه الأوصاف التي يستعملها المريضُ وهو دائمًا يقول للطبيب النفسي أنه لا يستطيعُ التعبير عن إحساسه الحقيقي ولا يجدُ الكلمات المعبرة عن ما يحس بهِ لكنهُ في جميع الأحوال إحساسٌ يسبب الكثيرَ من الضيق ويظـلُّ المريضُ بالطبع موقِـنًـا أن ما يحس به مخالفٌ للحقيقـةِ وهذا ما يعذبهُ ؛ وما يعنينا هنا هو الانشغالُ الوسواسيُّ للكثير ِ من المرضى بهذا الاضطراب بخبراتهم الحسية الغريبة وما يفعلُـهُ بعضهم من تكرار طلب الطمأنة من الطبيب النفسي أو من غيره بشكلٍ يجعلُ تشخيصَ اضطراب الوسواس القهري حاضرًا في الذهن ؛ إذنْ فكلٌّ من اضطراب اختلال الإنية واضطراب الوسواس القهري يشملُ أفكارًا مرفوضةً من الشخص لكنها تتكرَّرُ على وعيه بالرغم منهُ وفي حالات الوسواس القهري تكونُ الأفكارُ متعلقةً بعدم التحقق والمبالغة في تقدير الأخطار بينما هيَ في حالات اضطراب اختلال الإنية تتعلقُ بعدم الراحة واختلال الحواس فيما يتعلقُ بإحساس الشخص بذاته أو جسده أو علاقته بالأشياء؛ بل إن من الأطباء النفسيين من يعتبرُ اضطراب اختلال الإنية " تكرارًا استحواذيًّـا لإحساسٍ أولِيٍّ باستغرابِ الذات أو الواقع الخارجي".
كما يمكننَا أن ندرجَ هنا نوعًا آخرَ من المرضى وهم الذين أسميهم مرضى اضطراب شم رائحة الجسد Olfactory Reference Syndromes أو اضطراب البَخَـرِ المتوهم ، وأنا أدرجهم هنا على أساس أن تشوها يتوهمه المريضُ في رائحته الشخصانيةPersonal Odor ، فهذا النوعُ من المرضى تتسلطُ عليهم فكرةُ أن رائحةً منفرةً تصدرُ من أجسادهم ويشمها الناسُ فمنهم من يتحرجُ من إخبارهم بذلك ومنهم من يتهربُ من الجلوس معهم ، ومن هؤلاءِ المرضى بالطبع من تكونُ هذه الفكرةُ فكرةً تسلطيةً يعرفونَ أنها خاطئة ولكنهم لا يستطيعونَ التخلص منها ولا حتى التصرفَ دائمًا على أساس أنها خاطئة ومنهم من يصل مدى اقتناعهم بصحة هذه الفكرة إلى البعد الذهاني فيعتبرونها فكرةً صحيحةً يؤمنونَ بها تمامًا أي أنها تصبحُ فكرةً ضلاليةً ، ونحنُ هنا بالطبع معنيونَ بالفئة الأولى التي تكونُ الفكرةُ فيها فكرةً تسلطيةً ، وأما محاولة الطبيب النفسي لسبر غوار المنظومة المعرفية الموجودة عند هذا النوع من المرضى فكثيرًا ما تبينُ ردَّ المريض لمصدر الرائحة المنفرة تلك إلى القولونِ مثلاً أي أنها بسبب غازاتٍ تخرجُ من فتحة الشرج ، أو تجدُ من يرد مصدرها إلى رائحة أنفه أو فمه أو حلقه أو جوفه ، ومنهم من يردها إلى الجلد أي العرق كما تجدُ من لا يحدد لها مصدرًا ولا ينشغلُ إلا بمحاولة اجتناب الجلوس مع الناس في مكانٍ مغلق أو قليل التهوية أو الإسراف في استخدام العطور وهكذا.
في بعض هذه الحالات بالطبع تكونُ أفكار المريض صادقةً كأن يكونَ هناكَ التهابٌ مزمنٌ في الحلق أو الجيوب الأنفية أو اضطرابٌ عصبيٌّ في القولون أو غير ذلك ، إلا أن الغالبية العظمى من الحالات التي تصل إلى الطبيب النفسي لا يكونُ فيها وجودٌ لهذه الرائحة من الأساس ، وأما ما يجعلني أضعُ مرضى وسواس التشوه تحتَ وساوس الخوف والريبة فهو ما يلي :
(1) وجودُ الخوفِ من التشوه سواءً في الشكل أو في الرائحة أو في الشعور بالذات وإدراكها ومن تأثير ذلك على حياة المريض وعلاقاته الاجتماعية ، أو من التعرض للانتقاد بسببه.
(2) وجود منظومةٍ معرفيةٍ تميلُ إلى تأويل أي حدثٍ حياتيٍّ أو موقفٍ اجتماعي عابرٍ أو بسيطٍ يحدثُ للمريض كدليلٍ على وجودِ التشوه المتوهم ، ( رغم أن مثل هذا الموقف نفسه يفسرهُ الآخرونَ على أنه عابرٌ أو بلا معنى وينسونهُ بسرعةٍ).
(3) وجود الأفكار التسلطية المتعلقة بذلك ، والأفعال القهرية المتعلقة بذلك أيضًا والمتمثلة في العرض المتكرر على العديد من الأطباء وإجراء العديد والعديد من الفحوص الطبية بسبب الريبة في نتائج هذه الفحوص.
إذن فهناكَ في حالات وسواس التشوه علاماتُ اضطراب الوسواس القهري المتمثلة في الأفكار التسلطية والأفعال القهرية إضافةً إلى الانشغال بالتشوه والفحص الطبي المتكرر كمحتوى لهذه الظواهر القهرية.
-3- وسواس الحرص :
ويشملُ هذا النوع من الوساوس أولئكَ المرضى الذين تتمحورُ خلفيةُ معاناتهم حولَ الخوفِ من أن يخطئوا أو يذنبوا أو يقصروا في التزامهم بما يؤمنونَ بوجوبِ التزامهم به ، وحولَ الريبة في أن يكونوا بالفعل قد أخطئوا أو أذنبوا أو قصَّروا ، ومعظمُ هؤلاء المرضى يقعونَ فعلاً داخل الفئة التشخيصية المعروفة باسم اضطراب الوسواس القهري في الطب النفسي ، وتأخذُ الأفكارُ التسلطيةُ والأفعالُ القهرية في هذا النوع من المرضى في الحقيقة أشكالاً كثيرةً لكنها كلها تدورُ في نفس الإطار المعرفي المتميز بتضخم الشعور بالمسؤولية وبالواجب ، وكذلك النزوع للشعور بالذنب والرغبةُ المتطرفةُ في الوصول إلى الكمالية ، ومن الممكن أن تأخذ الأفعالُ القهريةُ هنا أي شكلٍ من أشكال تكرار الفعل أو التحقق وإعادة التحقق ، أو الاعتذار المتكرر أو السؤال المتكرر إلى آخره.
إذن فكثيرٌ من مرضى اضطراب الوسواس القهري بمعناه الطبي النفسي الشائع يقعونَ داخلَ هذا النوع من أنواع الوسواس الذي أسميه وسواس الحرص ، وليسَ هذا تبسيطًا للأمور بقدر ما هو نفاذٌ إلى لبِّ مشكلة هؤلاء المرضى وهذا هوَ ما يستطيعُ تحليلُ الطبيبِ النفسي الوصول إليه دائمًا عندما يقتربُ من مريضه ، صحيحٌ أنهُ قد يُسَمِّي الحرصَ التزامًا أو تشدُّدًا أو ريبةً لكنَّ هذا هوَ لب معاناة هؤلاء المرضى بحق.
-4- وسواس الاجتناب :
ويشملُ هذا النوع من الوساوس أولئكَ المرضى الذين تتمحورُ خلفيةُ معاناتهم حولَ الخوفِ من أن يتلوَّثوا أو أن يتسببوا في نشر تلوثٍ ما وحولَ الريبة في أن يكونوا بالفعل قد لوَّثوا أو تعرضُّوا للتلوثِ أو للعدوى بشكلٍ أو بآخر ، معظمُ هؤلاء المرضى يقعونَ فعلاً داخل الفئة التشخيصية المعروفة باسم اضطراب الوسواس القهري في الطب النفسي إلا أن بعضهم يمكنُ أن يقعَ داخل أحد أنواع اضطرابات القلق المسمَّى باضطراب الرهاب النوعي Specific Phobia الذي يخافُ المريضُ فيه خوفًا مبالغًا فيه وغير منطقي من شيءٍ يعتبرهُ الآخرون عاديًّا أو يحتاجُ فقط لبعض الحرص في التعامل معه.
ومن الممكنِ أن يتسببَ السلوكُ الاجتنابي الذي يسلكهُ هؤلاء المرضى في حيرةٍ تشخيصية تتعبُ الطبيبَ النفسي نظرًا لأن كثيرًا من المصابين بوسواس الحرص من مرضى اضطراب الوسواس القهري يظهرونَ هذا السلوكَ الاجتنابيَّ أيضًا كفعل قهري يضطرونَ إليه ليجنبوا أنفسهم القلقَ الشديد والتوتر الناجمَ عن التعرض لما يسبب أفكارهم التسلطية ، كما أن الموضوعَ الذي يتعلقُ به الخوفُ الرهابيُّ في مرضى الرهاب النوعي يكونُ في كثيرٍ من الأحيان مشابها لموضوع المخاوف الوسواسية في مرضى الوسواس القهري فمثلاً الخوفُ من الإصابة بالعدوى أو من التلوث يمكنُ أن يكونَ موضوعًا لكلا الاضطرابين وكلُّ ذلكَ يجعلُ التفريقَ صعْبًا في الكثير من الأحيان ولكنَّ ثلاثةً من النقاط -كما ذكرتُ من قبل في الفصل الأول من الكتاب - يمكنُ أن تساعد الطبيبَ النفسيَّ في ذلك :
(1) عادةً ما يكونُ مرضى الرهاب أكثرُ خوفًا من مواجهة الشيء الذي يخافونه مقارنة بمرضى الوسواس القهري الذين يهتمونَ أكثر بما سيضطرونَ إلى ممارسته من طقوسٍ قهرية إذا حدثت المواجهة مع موضوع خوفهم ؛ أي أنهم معنيونَ بما سيترتبُ على ذلك من مجهودٍ سيرغمونَ عليه.
(2) عادةً ما تكونُ مخاوفُ مرضى الرهاب أقلُّ تعقيدًا من مخاوف مرضى الوسواس القهري ؛ فمخاوفُ مرضى الرهاب محددةٌ وُمُوَجَّهَةٌ إلى شيءٍ بعينه " مثلاً الخوفُ منْ أن يغشى على الواحد إذا رأى فأرًا أو إذا سُحِبَ منهُ بعض الدم ! " أما مرضى الوسواس القهري فيميلون إلى تعقيد المخاوف وينشغلون مثلا بأن طُرُقًا لا يمكنُ إحصاؤها يمكنُ أن تسبب لهم الأذى إذا تعرضوا إلى الشيء الذي يخافونه ؛ وهم معنيونَ أكثرَ بعدم التحقق أو عدم الإتمام.
(3) ويضاف إلى ذلك أن القلق الذي يبديه مرضى الرهاب أكثرُ في معظم الأحوال من قلق مرضى الوسواس القهري عندما يتعرضون للشيء الذي يخافون منهُ ؛ وربما كانَ ذلك لأنَّ مريض الرهاب لا يكونُ أمامه سوى الهرب وهو واحدٌ من السلوكيات المرتبطة بالخوف والقلق بينما مريضُ الوسواس القهري لديه خيارٌ آخرَ وهو الطقوس التي سيفعلها ليقلل من إحساسه بالخطر.
-5- وسواس الشك أو الغيرة :
و وسواس الشك من الممكنِ أن يدخلَ جزءٌ من مرضاه داخلَ مفهوم وسواس الحرص ، فالشكُّ يمكنُ أن يفهم باعتباره شكًّا في إتمام الفعل مقابل عدم إتمامه أو في وقوع نية الصلاة مثلاً مقابل عدم وقوعها فكل هذه صنوفٌ من الشك ، إلا أن وسواس الشك المقصود هنا هو ما تمكنُ تسميته بوسواس الغيرة وقد وضعتُ وسواس الغيرة هنا مع وساوس الخوف والريبة لأنهُ أقربُ لها من وساوس الحب والرغبة ، وكثيرٌ من حالات الغيرة المرضية تكونُ لهُ علاقةٌ بالاضطرابات الضلالية أكثرَ من علاقته باضطراب الوسواس القهري ، إلا أن هناكَ حالات غيرةٍ مرضيةٍ تأخذُ شكل الوسواس القهري بأفكاره التسلطية وأفعاله القهرية حيثَ ترى المريض الذي يشك في إخلاص شريك حياته إنما يعاني من فكرةٍ تسلطيةٍ محتواها هوَ الشك في إخلاصه أو أن خيانته حدثت وبما أنها فكرةٌ تسلطيةٌ فإن المريضَ يعرفُ أنها فكرةٌ غير صحيحةٍ ، لكنهُ لا يستطيعُ التخلص منها إلا بالتأكد من خلال التفتيش في حاجيات الطرف الآخر وربما مراقبته كفعلٍ قهري أيضًا.
ويصف البعض الغيرةَ بأنها توابلُ الحب ويصفها البعض الآخر بأنها سم الحب القاتل ، فالغيرة أحيانا تقوى العلاقة وأحيانا أخرى تدمرها إذا تجاوزت الحد ، والبعض يكون أكثر ميلا للغيرة بطبيعته على البعض الآخر ، بل إن نفس الشخص قد يكون غيورا في موقف ما وغير غيور في مواقف أخرى ، وفى الحقيقة لابد أن نعترف بأنه ليس منا من هو كامل التكيف وشعورنا بها من حين لآخر عادى وطبيعيي وكلنا جميعا عرضة للشعور بالغيرة بقدر ما.
وأما مظاهر الغيرة فهي مزيج من القلق والخوف والتوتر والضيق ، والغيرة تظهر في السلوك ولا يعبر عنها مباشرة بالكلمات ومن المؤسف أن نتصور أن الغيرة مظهر للحب القوى الجامح ، فالحقيقة أن الحب ما لم يكن راسخا فهو لا يستطيع الصمود في وجهها لأن الغيرة تنبع من الشعور بالاحتقار ، ولعل أهم ما وصلت إليه أبحاث علماء الطب النفسي وعلم النفس من نتائج هو أن الأطفال الذين يعانون من عدم الاستقرار والحرمان من العطف يكونون أكثر عرضة للغيرة في رجولتهم من أولئك الذين أحيطوا بالمحبة من كل جانب ، والتسامح والتفاهم من جانب الآباء في تربيتهم لأطفالهم من شأنه أن يحد كثيرا من استعداد أولئك الأطفال من الشعور بالغيرة في مستقبلهم والإنسان الغيور يحمل بعض ملامح الشخصية الزورانية والتي لديها حساسية زائدة فيجسم الأمور ويبالغ فيها ويحمل الأشياء والكلمات والمواقف معانٍ بعيدة عن الحقيقة ، وهذه التهيئةُ النفسيةُ هيَ بمثابة أحد العوامل النفسية المهيئة Predisposing Factors أي التي تجعل الشخص على استعدادٍ للمعاناة من اضطراب الغيرة المرضية بوجه عام وذلك عند تعرضه لكروبٍ معينةٍ تكفي لإحداث الاضطراب كأن يكتشفَ مثلاً أن قريب زوجته ، ذلك الذي يزورهم كثيرًا كانَ يريدُ الزواج منها قبل أن يتقدمَ هوَ لخطبتها ، ويعتبرُ ذلك بمثابة العامل المرسب Precipitating Factor ، فيبدأ الزوجُ بعد ذلك في المعاناة من فكرةٍ تسلطيةٍ مؤداها أن زوجته لابد تحبُّ ذلك الشخص وربما تكونُ على استعدادٍ لخيانته معه ، وهكذا تتوالدُ الأفكارُ ويجترُّ بعضها بعضًا رغم محاولاته المستميتة لطردها من وعيه ، وربما تأخذُ شكل الصور والتخيلات الاقتحامية وتدفعه إلى أفعال التفتيش القهرية في حاجيات زوجته مثلاً رغم ما يمكنُ أن يسببه ذلك من تبرم من ناحية الزوجة إلا أنهُ لا يستطيع منع نفسه من ذلك ، ومن المهم هنا أن نلاحظَ أن الظواهر القهرية في وسواس الغيرة تكونُ من أهم العوامل المثبتة Perpetuating Factors لذلك الاضطراب.
وأما موقفُ الإسلام من الشعور بالغيرة على الزوجة فإنهُ موقفٌ معتدلٌ وواضحٌ فالإسلام لا يقبلُ من الرجل أن يكونَ باردَ الدم لا يغارُ على حريمه ولا أن يكونَ شكاكا عديم الثقة فيهن فكما يقول فضيلة الشيخ عطية صقر في فتواه : يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما رواه النسائي والبزار وصححه الحاكم " ثلاثةٌ لا يدخلون الجَنّة، العاقُّ لوالدَيْه والدَّيُّوث ورجلة النساء " ـ فإنّه وجَّهه إلى الاعتدال والتوسُّط في ذلك، فقد قال ـ صلّى الله عليه وسلم ـ ، كما رواه أبو داود والنسائي وابن حبان " إنَّ من الغَيرة غَيرة يبغضُها الله عزَّ وجل وهي غَيرة الرّجل على أهله من غير رِيبة " ذلك أن شدة الغَيرة تجلِب على المرأة سُبَّة، فسيقول النّاس ، إنْ صدقًا وإن كَذِبًا، ما اشتد عليها زوجُها إلا لعلمه بأنَّها غير شريفة، أو فيها ريبة، يقول الإمام علي: لا تُكثِرُ الغَيرة على أهلك فتُرْمَى بالسوء من أجلك .
إن هذه الغَيرة الشديدة تحمله على كثرة الظن السّيِّئ وعلى التجسُّس، وذلك منهي عنه في القرآن والسنة ، وقد نَهَي الحديث عن إحدى صوره ، وهي الطُّروق ليلاً للمسافر ، أي مُباغتته لأهله عند قُدومه من السفر دون علمٍ منهم ، فقد روى مسلم عن جابر أن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ نهى أن يَطرُق الرّجُلُ أهلَه ليلاً لئلاّ يُخوِّنهم أو يطلب عَثراتِهم . وروى البخاري ومسلم قوله صلّى الله عليه وسلم " إذا قَدِمَ أحدُكم ليلاً فلا يأتِيَنَّ أهلَه طُروقًا ، حتَّى تَستحِدَّ المغيبة وتَمتشطَ الشَّعثة " . فالخُلاصة أن الرّجل لابد أن يَغار على زوجته، ولكن يجب أن يكون ذلك في اعتدال، وخير ما يُساعده على ذلك أن يختارَها ذات خلق ودِين.
ونحنُ عندما نتحدث عن الغيرة المرضية نقول أنها الغيرة التي تخرج عن نطاق السواء النفسي ، وتستحيل معها الحياة في هدوء وطمأنينة ، فالغيرة المرضية هي لهيب يحرق كل شيء وينزع الحب وتقضى على الثقة وتنتهي بغرس بذور الكراهية ، والشخص المصاب بالغيرة المرضية تسيطر عليه مشاعر النرجسية وحب الذات ، إذ يريد أن يكون محور انتباه واهتمام الشخص الآخر إن أمكن كل الوقت كما أن الشخص المصاب بالغيرة المرضية يتجاهل الأدوار المختلفة للشريك الآخر ، فلكل شخص في حياته أدوار متعددة يقوم بها.
ولما كانت ظروف مجتمعنا الحالي تستدعى وجود علاقات مهنية في العمل أو خارجه ، فمن هنا تبدأ ظهور المشاكل والمآسيي والانهيارات فوضعُ المرأةِ العاملةِ مثلاً يمكنُ أن يستثيرَ لدى زوجها كما من الوساوس لا حد له ، وترى الكثيرين يفضلونَ إبقاءَ زوجاتهم في البيت ومنعهن من العمل بسبب عدم قدرتهم على التعامل مع مشاعر الغيرة ، وقد عالجتُ من كانَ لا يستطيعُ البقاءَ في مكانِ عمله أكثرَ من ساعتين ، وتهاجمهُ بعد ذلك أفكارٌ تسلطيةٌ تتعلقُ بزوجته ورئيسها في العمل ، وكانَ لا يجدُ الخلاص من أفكاره تلك إلا بالاتصال بها أو الذهاب بأي حجةٍ إلى مكانٍ عملها للتحقق بأي شكلٍ من أنها لا تخونهُ في هذه اللحظة ، وعندما كنتُ أغلظُ عليه في السؤال كانَ يقولُ أنهُ رغم ثقته في زوجته إلا أنهُ لا يستطيعُ الخلاص من وساوسه ، وكانَ الحل الذي يراه لهذه المشكلة هو أن تتركَ زوجته العمل.
الـــــــSHARKـــــاوى
إن المناصب لا تدوم لواحد ..... فإن كنت فى شك فأين الأول؟
فاصنع من الفعل الجميل فضائل ..... فإذا عزلت فأنها لا تعزل
-
انه موضوع رائع ومفيد جدا يا أخ شرقاوى
للأسف أنا بخاف من وجود أى مرض حتى ولو كان مرض جسديٍّ عاديٍّ أو بسيطٍ
ولكن أنا تعبت ونعست من كثرة القراءة الموضوع كبير جدا
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات