بسم الله الرحمن الرحيممادة "ضلل" استعملت في القرآن واللغة في المفارقة وشدة البعد للأماكن والأشياء والأعمال؛
ووجدك ضالا فهدى .. شهادة تبرئة من الله
فالضلال يؤدي إلى البعد، والمفارقة، والغيبة، والنسيان، والضياع،
يقال؛ أضللت الشيء إذا غيبته، وأضل الميت إذا دفنه وغيبه، وضل ذهب عنك، ومات، وهلك.
(وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) السجدة، أي بعد تحولهم إلى تراب ينتشر ويغيب بين التراب،
وقال تعالى في غياب من أشركوا به عن المشركين يوم القيامة: (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) الأنعام.
ومن ذلك ضلال الأعمال: أي ضياعها، وعدم رجوع منفعتها على صاحبها؛ فلا تحسب في ميزان حسناته؛ قال تعالى: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) الكهف،
وقوله تعالى: (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) غافر، (وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) غافر أي في ضياع.
فالمفارقة إما أن تكون للمكان والطريق، فيضل المكان أو الطريق إلى حيث لا يعلم،
وإما أن تكون المفارقة للناس، والأفعال؛ فيترك الضال ويهجر ما اجتمع عليه قومه، وجماعته، وأهل بلدته،
ومن ذلك قول قوم نوح عليه السلام له : (قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (60) .. . لخروجه عما ألفوه من الكفر والشرك فقال لهم: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) الأعراف.
ومن ذلك نفي الله تعالى وصف الكافرين لنبيه بالضلالة: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) النجم.
ومن ذلك تقريب يعقوب ليوسف عليهما السلام أكثر من إخوته فأبعدوا بهذا التقريب عن أبيهم، فوصفوا أباهم بأنه في ضلال: (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) يوسف
ثم أكدوا ذلك: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95) يوسف.
ولما خرجت امرأت العزيز عن طبع الحرة في مراودتها لفتاها اتهمت بالضلال؛ (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) يوسف،
وفي سورة الشعراء؛ لما اتهم فرعون موسى عليه السلام بأنه من الكافرين للنعمة التي أنعم عليه فرعون بتربيته بين الفراعنة: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) ... كان رد موسى عليه السلام: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) .. أي أنا من بني إسرائيل؛ المبعدين عن فرعون المستعبدين ... وأكد ذلك بقوله: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) الشعراء، أي قربتني وأنعمت علي من بينهم وظلوا هم مستعبدين.
ومن ذلك قوله تعالى في نسيان الشاهد ما شهد عليه بعد طول وبعد من الزمن؛ قال تعالى: ((أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى (282) البقرة،
ونفي الله تعالى بعده وغيبته عن الأشياء أو غيبتها عنه؛ قال تعالى: (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52) طه،
وكل من يترك ويبتعد عن أمر أنزله الله تعالى أو رسالة أرسلها فهو ضال بهذا البعد، وعدم العمل به؛ قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) التوبة، فبإنزال الأمر يضل الله تعالى بهذا الإنزال من يبتعد عنه ويكفر به، ويهدي من يتبعه ويعمل به، وقال تعالى: (فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (12) المائدة
وأما وصف الله تعالى للكفار؛ (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) الأعراف، أي أبعد منها في الاستجابة لما أنزله الله تعالى؛ بعدم انتفاعهم بما جعله الله لهم.
ولم ألحظ أن الله تعالى وصف كفار مكة بالضلال قبل نزول الوحي؛ لأنهم لم يكن هناك أمر من الله أمروا باتباعه قبل ذلك، إلا في آية واحدة يمن الله تعالى فيها على المؤمنين بعد تغير حالهم؛ قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (164) آل عمران،
أما قوله تعالى -وهو موضوع حديثنا-: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) الضحى، فإنه لما كان المشركون من أهل مكة مجتمعين على الكفر والشرك، فالخروج عنهم، ونبذ ما هم عليه، ومفارقة ما اجتمعوا عليه؛ يعد لغة ضلالاً ... فهذا الإثبات من الله بالحالة التي كان عليها نبيه باللغة التي نزل بها القرآن شهادة من الله تعالى بأنه كان مبرأً من الكفر والشرك الذي كان عليه قومه... وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب الخلوة، ومن ذلك خلوته في غار حراء.
ويقال أيضًا للشجرة المنفردة في خلاء بعيدة عن الأشجار: ضالة.
وقد هالني جواب الدكتور عبد الصبور شاهين في إحدى حلقات قناة المستقلة، عندما سئل عن تفسير الآية، فقال: كان القوم كلهم ضالين،
وقد استشهد أحد القسيسين -في مجلس جمعنا من قريب- بهذه الآية على أن الأنبياء يخطئون، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة هذه الآية قد كان منه ضلال -بالمعنى المفهوم بعد نزول الأمر وليس قبله- فلما بينت له الأمر أحسست منه أنه أول مرة يسمع بمثل هذه الإجابة .. مما يدل على أنه أثار الموضوع مع غيري من جملة شبهات أثارها في ذلك المجلس.
وفُسرت الآية في التفاسير الأربعة بأن الله تعالى وجده على غير ما هو عليه اليوم، وأن الله وجده في قوم ضلال فهداه.. وفي القرطبي زيادات كثيرة بإمكانك الرجوع إليها.
أرجو أن يكون الأمر بهذا الاختصار واضح وبين، فيستطيع كل من يقرأه أن يدفع هذه الشبهة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم... والله تعالى أعلم.
أبو مسلم/ عبد المجيد العرابلي
المفضلات