بسم الله الرحمن الرحيمجاء أحد الصحابة يستشير الرسول صلى الله عليه وسلم في جواز عتق جارية له أعجمية عن رقبة عليه، أو كفارة لطمه لها، فلما أحضرها للنبي صلى الله عليه وسلم ليختبر إيمانها؛ "سألها أين الله؟ فقالت في السماء، وسألها من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله"، وفي رواية قال لها؛ "من ربك قالت: الله ربي"، وفي رواية؛ "فمد النبي يده إليها وأشار إليها مستفهما مَن في السماء"، وفي رواية عندما سألها أين الله؟ أشارت إلى السماء بإصبعها، وفي بعضها تحديد الإصبع بالسبابة، وعندما سألها من أنا؟ أشارت إليه وإلى السماء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقها فإنها مؤمنة.
سؤال الجارية: ....... أين الله ؟
وفي رواية؛ قال لها: (( أتشهدين أن لا إله إلا الله )) قالت: نعم، قال: (( أتشهدين أني رسول الله )) قالت: نعم، قال: (( أتؤمنين بالبعث بعد الموت )) قالت: نعم.
وقد استوعب تلك الألفاظ بأسانيدها الحافظ البيهقي في السنن الكبرى بحيث يجزم الواقف عليها أن اللفظ المذكور هنا مروي بالمعنى حسب فهم الراوي.اهـ
هذه القصة رواها الجميع إلا البخاري والملاحظ في هذه الروايات؛ أن من روى القصة بنفسه كما جاء عن "معاوية بن الحكم"رضي الله عنه أو "رجل من الأنصار" لم يذكر أنها أشارت إلا السماء، وجعل جوابها عن السؤال أن الله في السماء، ومن روى القصة ممن حضرها كأبي هريرة رضي الله عنه وغيره، ذكر إشارة الجارية برفع رأسها، والإشارة بإصبعها السبابة إلى السماء، وإشارتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى السماء عن سؤال النبي لها من أنا ؟.
وهذه القصة دلت على أن صاحب الجارية لم يعرف حالها من الإيمان بنفسه، لعلة فيها، ولا يعرف كيف يستنطقها لبيان ما في نفسها، فهو يجهل الحال التي هي عليه، فأحضرها للرسول صلى الله عليه وسلم ليتولى بنفسه معرفة حالها من الإيمان. لأنه جاء في رواية؛ "فإن كنت ترى هذه مؤمنة فاعتقها"
واختبار هذه الجارية الخرساء، أو الأعجمية، التي لا تفصح، أو اختبار عدة جوار مثلها بهذا الأسلوب، هو بسبب أعجمية المختبَرة أو المختبَرات، فإن كان الراوي هو مالكها ترجم إشاراتها إلى أقوال، لقدرته على فهمها من طول التعامل معها، وتفسير إشاراتها، وأما من حضر غير مالكها، فهو يصف الإشارة، أو الإشارة وتفسيرها، لقلة معايشة مثل هذا الموقف.
لذلك جاء تفسير إشارتها إلى السماء؛ بأن الله في السماء.
والحقيقة أن الإشارة إلى الأعلى إلى جهة السماء ليس إشارة إلى السماء أو السموات وحدها، بل هو أيضًا إشارة أيضًا إلى ما فوق السموات من الآفاق، وإلى آخر حدود الكون المرئي، وغير المرئي، وما بعد ذلك مما لا يعلمه إلا الله، فالإشارة إلى أعلى إشارة إلى المطلق الذي لا حدود له ينتهي عندها، خلاف الإشارة إلى الأرض فتتحدد بمحدودية الأرض... وهذا هو الأنسب والذي يقبل ممن لا يستطيع أن يبين ما في نفسه بالكلمة..
وإلا فإن في الأصول يجب النطق بالشهادتين؛ أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وكان في إشارتها تبرئة لها من عبادة الأصنام التي كانت تعبد في جزيرة العرب، فإلـهها ليس من هذه التي نصبت في الأرض.
ففي السماء لا يعبد إلا الله عز وجل، أما في الأرض فيعبد الله عز وجل، ويعبد غير الله.
وهذه الإشارة هي قدر لا يكفي في ثبوت إسلام المرء دون النطق بالشهادتين لمن كان قادرًا على النطق والكلام، لكنها نابت عن إقرارها، ودلت على ما في قلبها من الإخلاص ومعرفة الله.
والقول هو الإبانة عما في النفس بالكلام وبالإشارة؛ فإن فهم مراد الإشارة كان كالقول بالكلمة.
وقيل بأن "أين" التي هي للاستفهام عن المكان؛ استعملت في استعلام الفرق بين الرتبتين في المنـزلة والدرجة فنقول أين فلان من فلان؟ وسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية يحتمل أن يكون من هذا الباب.. وليس عن المكان .... فكانت إجابتها تفيد؛ أن الله في سمو وارتفاع وعلو منـزلته وقدره، فعبرت عن الجلال والعظمة والشرف لا المكان التي أشارت إليه. أو أن ربها هو خالق هذه السماء التي أشارت إليها.
فقد يكون في سؤالها وإجابتها إثبات وجود الله لا إثبات الجهة.
ونحن نتوجه في صلاتنا لله نحو الكعبة، وفي دعائنا نرفع أيدينا نحو السماء؛ فالكعبة هي قبلة صلاتنا، والسماء هي قبلة دعائنا؛ فلا الكعبة ولا السماء انحصر الله فيهما.
وقد قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (ج5 /ص22) : [في شرح حديث الجارية ما نصه : كان المراد امتحانها هل هي مؤمنة موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده، وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة وليس ذلك لأنه منحصر في السماء كما أنه ليس منحصرا في جهة الكعبة بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين. أو هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان التي بين أيديهم فلما قالت: في السماء علم أنها موحدة وليست عابدة للأوثان].
وقد جاء في فتح الباري (ج13/ص402) .
[قوله صلى الله عليه وسلم للجارية أين الله قالت في السماء فحكم بإيمانها مخافة أن تقع في التعطيل لقصور فهمها عما ينبغي له من تنـزيهه مما يقتضى التشبيه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا].
فجواب الجارية إن كان بالإشارة أو بترجمة الإشارة إلى قول لا يعقد عليه تحديد وجود الله في السماء، وكان اختبارًا خاصًا لمن لا يستطيع النطق أو الإفصاح عما في قلبه من الاعتقاد.
وفي باب الحديث عن سؤال الجارية يستحضر قوله تعالى: (ءأمنتم من السماء أن يخسف بكم الأرض) لتقوية أن الحديث يؤخذ على ظاهره.
فقد فسر أن المقصود "من في السماء" عند بعض المفسرين؛ بالله عز وجل ... وفي هذا التفسير نظر؛
- أن "في" تفيد الظرفية، والله تعالى غير مظروف، فقد كان ولم يكن مع شيء، ثم أوجد السموات والأرض بمشيئته سبحانه وتعالى ... وفي ذلك تجسيد لله، وأن الله عز وجل هو دونها ... تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
- أن "مَن" تدل على المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، وبالقرينة يحدد المقصود، وهذا لا يصلح مع الله تعالى.
أن " مَن" تستعمل للدلالة على العاقل، أو تختص بالعاقل؛ وهي تأتي اسمًا موصولا؛ كما في قوله تعالى : (ولله يسجد مَن في السموات ومَن في الأرض)؛ أي الذي في السموات والذي في الأرض، وفي السموات والأرض العاقل وغير العاقل، وتأتي شرطًا؛ كما في قوله تعالى: (ومَن يعمل من الصالحات وهو مؤمن)، فمنهم من يعلم الصالحات عن إيمان وبغير إيمان، ومنهم لا يعمل الصالحات، وتأتي اسم استفهام؛ كما في قوله تعالى: (قالوا مَن فعل هذا بآلهتنا) .. وسؤالهم كان عن فرد هو واحد منهم .. فـ"مَن" بفتح الميم تستعمل مع التبعيض كما أن "مِن" بكسر الميم حرف جر للتبعيض .... والله تعالى لا يصح أن يكون بعضًا من السماء أو بعض من في السماء.
- أن "مَن" دلت أيضًا على غير المذكور، لاحتمال أن يكون واحدًا منهم، فساوت بينهم، أو هناك مثله في مكان آخر، فحدد هو بهذا المكان، وهذا لا يصح مع الله تعالى.
أن "مَن" تدل على نكرة، والله تعالى لا يصح أن يكون نكرة في أي حال من الأحوال.
فـ"من في السماء" ليس لها تفسير إلا بالملائكة الذين يكلفهم الله تعالى بالعذاب متى شاء، وفي قصة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الطائف أنه نزل مع جبريل ملك الجبال يعرض عليه إطباق الأخشبين (جبلي مكة) على أهل مكة، وفي قصة هلاك قوم لوط؛ جاءت ملائكة ففعلت بهم ما فعلت؛ فجعلت عالي القرية سافلها... فالمقصود في هذه الآية الملائكة .. ولا يصح أن يكون الله عز وجل هو المقصود فيها.
فلا استدلال بهذه الآية على الأخذ بظاهر جواب جارية أعجمية يدل حالها على أنها خرساء؛ لعدم معرفة صاحبها حالها مع الإيمان.. وأنها قادرة على فهم القول كان كلامًا أو إشارة، لأنها أدت إجابة بعد السؤال. ولو كانت في حال تنطق فيه بكلام مبين لما قبل منها غير النطق بالشهادتين.. ودلت القصة على أنها غير مكلفة شرعًا لعلة فيها تدل عليها القصة فقبل منها إيمان من أن تكلف.
والله تعالى أعلم.
أبو مسلم/ عبد المجيد العرابلي
المفضلات