على الرغم من أن خبر التحوّل الفكري والعقدي للصحفية البريطانية الشهيرة ( إيفون ريدلي ) والتي أسرتها حركة طالبان خلال الحملة المهيئة لحرب الولايات المتحدة على أفغانستان لم يكن جديداً عليّ ، إلاّ أن قراءة تفاصيله المثيرة والتي نُشرت خلال الأسبوع الماضي أعاد التذكير بقضايا رئيسة مهمة هي محل تباين ومواجهة بين فلسفة الشرق الإسلامي وفلسفة الغرب الليبرالي العقدية ورؤيته للمرأة ، والشراكة في الحياة .
تقول ( إيفون ) : حين كنتُ أقوم بالتغطية الصحفية لجريدة ( صانداي أكسبرس ) في أفغانستان في محاولةٍ لرصد الحركات الإسلامية هناك وتحديدًا الجماعات الحاكمة في طالبان - وكان ذلك قبل أحداث 11 سبتمبر - إلا أنه بعد هذه التفجيرات وتحديدًا في يوم 28 من سبتمبر 2001م تمَّ إلقاء القبض عليَّ في أفغانستان من جانب حكومة طالبان بسبب دخولي بطريقةٍ غير شرعية أو قانونية ، وظللتُ رهينةَ الاعتقال لمدة عشرة أيامٍ مُخيفة كنتُ أخشى أن أُقتل في أي وقت ، وفي اليوم السادس فوجئت بزيارة أحد الشيوخ لي ، وعرض عليَّ أن أدخل الإسلام بعد عودتي إلى لندن فقلتُ إنه مستحيل ، ولكني وعدتُهم أن أقرأ عن الإسلام إنْ أطلقوا سراحي " حتى تكون فرصةً لخروجي من السجن؛ لأني كنتُ أُريد الخروج بأي طريقةٍ من تلك الأزمة " .
وقد نجحت بالفعل تلك الطريقة أو الخدعة إن صحَّ التعبير ، وقاموا بإطلاق سراحي أنا وَمن معي ، وأعطى الملا عمر أوامر بإطلاق سراحي لأسبابٍ إنسانية . ولكن بعد عودتي قررتُ أن أبقى على وعدي معهم فتعلمتُ قراءةَ القرآن ودرستُ الإسلامَ دراسةً أكاديمية لمدة ( 30 ) شهرًا من إطلاق سراحي ، وكنت أشعرُ بالفعل بأنني في رحلةٍ روحيةٍ ثم اعتنقتُ الإسلام بعدها ونطقتُ بالشهادتين . ثم تضيف عن معاملة طالبان لها : " رفضتُ أنْ أكلمهم وأضربتُ عن الطعام ، وكنتُ كلما ازددت رفضًا لتصرفاتهم ازدادوا لطفًا معي ، وكانوا يقولون أنتِ أختنا وضيفتنا ، ونريدُ أن تكوني سعيدةً ، وكنتُ لا أصدق كلامهم ، وكنتُ أقول في نفسي ربما لو عاملتهم بلطفٍ سيعاملونني بقسوةٍ ، وستبدأ رحلة التعذيب بالكهرباء والاغتصاب وغير ذلك ، وكنتُ أتصور أنهم سيفعلون معي كل ما يفعله الأمريكان في المسلمين بجوانتانامو أو أبو غريب . . ولكني لم أرَ رجلاً واحدًا نظر إليَّ أو تحرّش بي " .
هذه الحقيقة الكبرى التي فجّرتها ( إيفون ) تحمل في طياتها قضيتين أولاهما بأن الملا عمر وحركة طالبان طبّقا مفهوم الأسر حيث كانت هناك شكوك بأن ( إيفون ) تقوم بدور استخباري لمصلحة الولايات المتحدة ، وهو ما دفع الحركة لاعتقالها وأن الحركة و زعيمها الملا عمر أصدر فور تحققهم من مهمة ( إيفون ) قراراً بإطلاقها بعد أن أكرموا معاملتها ، وكانوا - وكما قالت ( إيفون ) - غاية في التأثر والانزعاج؛ لأنها تُضرب عن الطعام . هذا الموقف هو الذي يمثل التشريع الإسلامي الخالد وثقافة المستضعفين الأنقياء ، وليس عمليات مجموعة العنف الوحشي التي تتفنن بذبح الرهائن والتمثيل بالجثث ، ولو كان ذلك من باب الرد على جرائم العدوان الأمريكي وحلقاته المتعددة في المنطقة . لكن طالبان والتي تنتمي إلى مدرسة أهل السنة في أساسها العقدي والمنهجي بغض النظر عن بعض مواقفها الفقهية المتشددة ، جاءت في زمن عصيب واجهته الإمارة الإسلامية ، فهي هناك حين ترجع تماماً كما ترجع الحواضر العلمية للأمة في مصر والشام واليمن والعراق والخليج والحجاز والمغرب العربي ، فإنها ترجع إلى هذه المدرسة الموحدة في أصولها على الكتاب والسنة ، ولكنها نسبت إلى أئمة الاعتقاد والفقه والسلوك الذين تولوا الرعاية والحماية الفكرية والفلسفية والفقهية لتسلسل التشريع الإسلامي التاريخي المنزل والمنقول بالأسانيد خلفاً عن سلف ، وهم كما حدّدهم الإمام السفاريني الحنبلي رحمه الله : الإمام أبي الحسن الأشعري ، والإمام أبو منصور الماتوريدي و مدرسة أهل الأثر بصدارة الإمام أحمد بن حنبل أي المنهج السلفي العلمي ، وليس مفهوم الفلسفية الطائفية الذي يُضلل ويُكَفّر ويهاجم الكثير من المسلمين ، وفقاً لرؤيته الخاطئة لما ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذه المدرسة أيضاً ينتسب إليها أكثر من 90% من طبقات ورجال المذاهب الأربعة في تاريخ التشريع الإسلامي . وإنما استطردت لأبين بأن ما ذكرته ( إيفون ) من حسن معاملة لم يكن بدعاً على حركة طالبان ، وإنما هو موقف شامل كان سائداً في أقطار الوطن العربي والعالم الإسلامي ، وهم المدارس المتقدمة كانوا قادة المسيرة الفكرية التي ولّدت حركة المقاومة في المغرب عبر زوايا السنوسيين وابنها القائد عمر المختار ، وثورة المهدي ، والإمام شامل الداغستاني الأول في آسيا الوسطى ، والشيخ قاسم بن مهزع في البحرين وغيرهم ، وهم اليوم قدوة لأبطال حماس وللمقاومة العراقية الإسلامية بقيادة علماء العراق وزعيمهم الشيخ الجنابي قائد معركة الفلوجة الكبرى . وهي كذلك كانت الأصل الطبيعي لانطلاقة حركة التجديد الإسلامي التي كان أبرزها الإمام البنا في الوطن العربي والأستاذ المودودي والإمام الندوي في آسيا وغيرهم .
( إيفون ريدلي ) في كلمتها في الأزهر الشريف وتصريحاتها التي نُشرت مؤخراً أعلنت بأنها حين قررت حركة طالبان أن تطلقها طلبوا منها أن تأخذ وعداً على نفسها بأن تقرأ عن الإسلام ، وتقول ( إيفون ) بأنني وافقتهم ، وكنت أضمر في نفسي ألاّ ألتفت لهذا الوعد ، ولكن خشيت أن يؤثر هذا الموقف على إطلاق سراحي . ولكن بعد أن أمضيت مدة زمنية - وكما تقول - قررت أن أفي بوعدي مختارة حرة . لماذا لا أفعل ؟ وتقول : ما الذي أخشى منه ؟ أي أنها في لحظة القرار كانت مستقلة تماماً عن التأثر بالمبادئ التي قرأتها . والحقيقة بان ما ذكرته ( إيفون ) هو حديث متواتر عن عدد من نساء الغرب المتحوّلات للإسلام ، وليس خاصاً بموقف ( إيفون ) الذي يرى البعض أنها منذ أن أعلنت إسلامها كان لها مواقف عاطفية حادة ومنفعلة . فتقول بدأت بترجمة معاني كتاب الله - عز وجل - فانسابت روحها تحلق مع السماء ، شعرت بارتفاع الروح وعلو المبدأ واحترام الإنسان من خلال منهج واضح وفلسفة راشدة من قبل الولادة وحتى بعد النهاية . ( هذا هو السؤال ماذا بعد النهاية ) ؟ فأشرق القلب بنور ربه ، وقرأت في الكتب الإسلامية الأخرى وتساءلت : ماذا عن المرأة ؟ فقرأت وأدركت من خلالها فلسفة حقوق المرأة بين طريقين : طريق يحثها على تحرير المرأة لكي تكون سلعة للرجل ، وطريق يحدثها عن المرأة بأنها معزولة محرومة لا يجوز لها المشاركة في أي شيء حسب زعمهم في فهم الإسلام .
أما الطريق الثالث فكان طريق أستاذتنا الكبرى المجاهدة الحقوقية المناضلة زينب الغزالي - رضي الله عنها - عاشت ( إيفون ) مع كتابها ( أيام من حياتي ) ، وأدركت معنى الفكر والروح والسمو والإصرار على المشاركة في المهمة المقدسة ، لا منحة من الرجل ولكن واجباً وشريعة بين الأشقاء والشقائق لتبليغ رسالة السماء وإعلان مبادئ الحقوق الأصلية لكي تسعد البشرية . فكان القرار وكان الحجاب ، فتقدمت بلا تردد ، فأشفق عليها زملاؤها وزميلاتها . . . لماذا تفعلين يا ( إيفون ) ؟ لا تتعجلي . . ! ! إنها صدمة نفسية بعد الإطلاق وسوف يتغير الأمر ، وتعودين إلى مفهوم المرأة ولكن عبر الطريق الأول إنه طريق أوروبا . لكن ( إيفون ) أصرت وتمسّكت ، وها هي اليوم بين الشرقيين تعلن قيمها واعتزازها بهذا الانتقال ، وهذا الدستور الثقافي الإسلامي لحرية المرأة وكرامة المرأة ونجاح المرأة . إنه زمن العجائب . . . هناك تُعلن المبادئ ويُعلن النصر بدوافع من التفكير والقناعة العقلية والأسس الفلسفية الحقة ، وهنا هنا في أرضنا العربية المجيدة برسول الله يُكفَر بمبادئ المرأة المسلمة وخطاب الرعاية المقدس ، وأنا هنا لا أقصد من لم تتحجب لأي أمر كان ، ولكن لمن تُعلن حربها على الحجاب ، وتعلن بأنها تتقدم . نعم ، تتقدم . . . ولكن إلى أين ؟ !
http://www.almesryoon.com/ShowDetail...D=27446&Page=5
المفضلات