الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للناس كافة ، و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا .. و بعد ،،،
قال الله في كتابه العزيز : قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتّىَ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ، و نتعلم من الآية الكريمة أن الله تعالى قد فرض الجزية على أهل الكتاب الذين يعيشون في بلاد المسلمين و الذين آثروا البقاء على دينهم و رفضوا الدخول في الإسلام عندما دعوهم إلى ذلك ، و الجزية تعرف بمفهوم العصر الحديث كضريبة الدفاع مقابل حماية ممتلكاتهم و أموالهم و أنفسهم من الأعداء و الأخطار ، و أيضا عوضا عن التجنيد في الجيش الإسلامي الذي يجاهد في سبيل الله و ينشر دين الإسلام ، و بالطبع هو أمر لن يقبله أهل الكتاب ! ؛ و لذا وَجَب عليه أن يدفع الجزية أو ضريبة الدفاع عوضا عن ذلك كما يدفع المسلم القاعد عن الجهاد ضريبة الخراج ، و يكون ذلك عن يدٍ أي بأيديهم لا يوكِلون بها و لا يدفعها عنهم أحد ، و هم صاغرون أي قابلين لحكم المسلمين غير متمردين عليهم ؛ فالصِغار أي جريان أحكام الاسلام عليهم كما قال الامام الشافعي و لا يُفهم من الآية أي إذلال لأهل الكتاب لأنه يتناقض مع التسامح و الأمان الذي أقره الإسلام لهم ، فالتمرد هنا قد يؤدي إلى فتنة و هو أمرغير مقبول من المسلم قبل غير المسلم .
هذا وقد ذهب بعض المفسرين الي أن الأمر في الآية الكريمة ليس على إطلاقه بل أن الذين تُفرض عليهم الجزية من أهل الكتاب هم الذين لا زالوا ينساقون مع المشركين ضد المسلمين من نقض للعهد أو اثارة العدو ومعونته أو الإغارة على اطراف البلاد ، كما فعل النصارى في الشام ، فجاء الأمر الإلهي بقتالهم حين بدأوا الإسلام بالشر حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ، و إن كان هذا لم يطبق من الناحية العملية ، إذ يسجل التاريخ على مدار الدولة الإسلامية جباية الجزية من عموم النصارى المستقرون في ربوع البلاد سواءا كانوا رعايا أم معادين ، و لكن لم يسجل التاريخ أبدا تشدد المسلمين في تحصيل الجزية من أهل الكتاب ، فنعرف أنها قد غير مقررة على الأحبار و الرهبان و رجال الدين و ذلك لتفرغهم للعبادة و انقطاعهم عن الدنيا ، كذلك كانت تسقط عن عدم القادرين على دفعها كما فعل عمر بن الخطاب عندما اشتكى إليه يهوديا فقيرا فأسقط عنه الجزية و منحه من بيت المال فضرب بذلك أروع مثال لتسامح الإسلام مع الضعفاء من أهل الكتاب ، و في القرون الوسطى كذلك عندما انخرط بعض الأقباط في جيوش السلطان صلاح الدين الأيوبي في حروبه مع الصليبيين في الشام و نصروه على أعدائه فأسقط عنهم الجزية كما يحكي المؤرخ ابـن الأثير في كتابه ( الكامل في التاريخ ) بل و منحهم دير في بيت المقدس كان يدار بواسطة الصليبيين فأسموه ( دير السلطان ) و لا يزال تابعا للكنيسة المصرية إلى اليوم .
و في العصر الحديث و عندما أراد محمد علي باشا والي مصر في مطلع القرن التاسع عشر بناء الدولة الحديثة بسواعد المصريين رفض تحصيل الجزية من الأقباط و أخضعهم للضرائب التي تفرض على سائر المصريين مخالفا بذلك قوانين الدولة العثمانية و التي ظلت تجبي الجزية من سائر ولاياتها بعد ذلك حتى سقوطها في مطلع القرن العشرين ، و كان ذلك إيذانا بتجنيدهم في الجيش المصري الذي صار للدفاع عن البلاد بعد انتهاء عصر الفتوحات ، و لم يراجعه أي من علماء المسلمين في ذلك الأمر إلى اليوم ؛ ففرض الجزية لا معنى له الأن و قد صار لأهل الكتاب كافة حقوق المواطَنة الكاملة في أرجاء البلاد الإسلامية .
و اليوم نرى أهل الكتاب من يهود و نصاري يعيشون في ربوع الدول الإسلامية ، فما نرى نظام يفرض الجزية عليهم حتى في ظل الحكومات التي تطبق الشريعة الإسلامية في الدستور كإيران و دول الخليج و ليس القانون المدني كمصر و سائر الدول بل هم مواطنين من الدرجة الأولى لهم كافة الحقوق و عليهم كافة الواجبات . و هكذا فإننا نرى أن الجزية ضريبة عادية كانت في مرحلة زمنية معينة و سقطت بإنقضاء زمانها و الحاجة إليها و ليست كما يقول النصارى حقنا لدماء أهل الكتاب ؛ بدليل أنه يجوز إسقاطها عن عدم القادرين عليها مع الحفاظ على أرواحهم ، و لا أن المسلمين قد فرضوها ثمنا للكفر و الإشراك بالله فهذا كلام غير مقبول أبدا حتى و لو قيل على سبيل التلميح !
و أخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم ..
كتبه الأخ / طارق
المفضلات