.4- منهج القصّة القرآنية:
قد علم- مما مرّ من الكلام عن أغراض القصّة في القرآن- أنّ الغرض الأساسي لها: هو الهداية إلى الله عزّ وجلّ، ولقد كان لخضوع القصّة القرآنية لهذا الغرض أثر بين في مادتها وطريقة عرضها، مما جعل لها منهجا خاصا بها، يقوم على أروع مظاهر الجمال الفني والإشراق البياني. ويتجلّى هذا المنهج بالمظاهر التالية:
.أ- التكرار:
قد تأتي القصّة القرآنية لغرض من الأغراض التي سبق ذكرها، ولكنها- في الوقت نفسه- تنطوي بمجملها على أغراض أخرى متعدّدة، ويشتمل جانب منها- أو بعض الجوانب- على فوائد متعدّدة، وعظات جمة، وعبر متنوعة، وقد يقتضي غرض الدعوة الديني أن تعاد القصّة أو جانب منها أو أكثر، في موطن آخر، أو مواطن متعددة، لمناسبات خاصة بالعبرة التي تساق القصة- أو بعض جوانبها- من أجلها، فتكرّر القصة أو بعض الجوانب منها تلبية لهذا الغرض، ولهذا التكرار فائدة وجمال.
.1- فائدة التّكرار وتناسقه:
على أنّ الملاحظ- غالبا- أن جسم القصّة كلّه لا يكرّر إلا نادرا، وإنما يتناول التكرار بعض الحلقات فيها، ومعظمه إشارات سريعة لموضع العبرة فيها كما ذكرنا.
كما يلاحظ- أيضا- أن هذا التّكرار متناسق كل التناسق مع السياق الذي وردت فيه، مما يجعل القارئ المتأمّل لكتاب الله تعالى يشعر وكأنّه أمام قصّة أو خبر لم يكن ليسمع به من قبل، ويتنبّه إلى فوائد وعبر لم تكن لتخطر منه على بال.
وخذ مثالا على ذلك: قصّة موسى عليه السلام- مع فرعون وقومه أو مع بني إسرائيل- وهي أكثر قصص القرآن تكرارا، وانظر كيف أنها في كل موطن ذكرت فيه- أو أشير إليها- أفادت موعظة خاصّة، وعبرة فريدة، اقتضاها السياق القرآني، تختلف عما أفيد منها في موطن آخر.
.2- جمال القصة في التكرار:
وقصّة موسى عليه السلام نموذج للقصص القرآني- ومثلها غيرها- فمن تأمّلها بإمعان ودقة علم أن التّكرار في القرآن ليس تكرارا مطلقا، من شأنه أن يبعث الملل في نفس القارئ أو السامع، بل إنه تكرار أكسب القصّة القرآنية جمالا فنيا وروعة أسلوب. وخذ مثالا على ذلك: قصص الأنبياء، فإنّ عرض هذا الشريط من قصصهم مرّات متعدّدة بتعدد أغراضها، يخيّل للمتأمّل أنه نبيّ واحد، وأنها إنسانية واحدة، على تطاول الأزمان وتباعد الديار، كلّ نبيّ يبعث يمرّ وهو يقول كلمته الهادية: {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، فتكذّبه هذه الإنسانية الضّالّة، ثم يمضي ويجيء تاليه، فيقول نفس الكلمة، ثم يمضي، وهكذا لا يختلف الموقف ولا تختلف النتيجة من نصرة الحق ودحر الباطل.
.ب- العرض بالقدر الذي يحقق الغرض:
تبعا للغرض الذي سيقت من أجله القصة القرآنية، نجد القرآن تارة يذكر القصة بكامل تفصيلاتها، وتارة يكتفي بذكر ملخص عنها أو إشارة إليها، وتارة يتوسط بين هذا وذاك، وربما اكتفى أحيانا بعرض حلقة من حلقاتها، أو مشهد من مشاهدها، وكل ذلك خاضع- كما قلنا- لما في حلقات القصة وجوانبها من أهمية وعظة.
* فمن أمثلة ما ذكر مفصلا: قصة موسى ويوسف عليهما السلام، وكذلك قصة مريم وولادتها عيسى عليهما السلام، فإن هذه القصص قد ذكرت تفصيلا دقيقا بكل جوانبها، وقد كان هذا التفصيل مقصودا، والغرض منه- على الإجمال- إثبات رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، إلى جانب أغراض دينية أخرى ذات أهمية وشأن، كتصحيح ما ادعاه أهل الكتاب من بنوة عيسى ابن مريم لله عز وجل.
* ومن أمثلة ما توسط في تفصيله أو اختصر قصة نوح وداود عليهما السلام، وكذلك قصص هود وصالح وزكريا ويحيى عليهم السلام.
* ومن أمثلة ما اقتصر فيه على مشهد من المشاهد أو أكثر قصة أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، وكذلك قصة نزول آدم عليه السلام إلى الأرض، إذ لم يتحدث القرآن عنها بأكثر من قوله تعالى: {قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى} [طه: 123].
ولهذا المظهر في منهج القصة القرآنية غرض بيّن؛ إذ من شأنه أن يجمع على القارئ شتات ذهنه، ويصرف انتباهه إلى المقصد الأساسي من القصة، فيستطلع الغرض الديني الذي تستهدفه، ولا يغفل عن العبرة والعظة التي سيقت من أجلهما القصة، وبالتالي تنصاع نفسه لما انطوت عليه من هداية وتوجيه.
.ج- بث العظات والتوجيهات في سياق القصة:
إن القصة القرآنية: لا تدع القارئ يتفاعل معها وينصرف إليها بكل تفكيره، دون أن تفصل بين حلقاتها بفواصل من العظات والعبر، وتبث في جوانبها النصائح والتوجيهات، أو تحيطها بأطر من الإرشادات التي من شأنها أن تنبه القارئ إلى المقصد الأساسي من قصها، وتكون بمثابة مصابيح هداية يقف أمامها وقفة الفاحص المتأمل، الذي يسبر أغوار الحوادث والأمور، ليفيد منها في حياته وسلوكه.
وهذه اللمسات من العظات والعبر تكون:
.1- تارة في ثنايا القصة وخلالها:
وخذ مثلا على ذلك ما ذكر في سورة طه أثناء عرض قصة موسى عليه السلام مع فرعون، حيث يقول الله تعالى: {قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى} [طه: 49- 54].
فالقصة حوار بين موسى وفرعون حول وجود الخالق سبحانه وتعالى، ولكنها تتحول عن ذكر حوادث القصة وسردها إلى التذكير بما يتناسب مع السياق من العظات والتوجيهات، فتذكر بعظمة الله تعالى وتلفت النظر إلى مظاهر ألوهيته، وتنصب الدلائل على وجوده ووحدانيته، وتبعث في النفس الشعور بوجوب شكره على عظيم آلائه ووافر فضله، ولا تغفل أن تذكر بالموت ثم البعث والنشور والوقوف بين يدي هذا الخالق، يوم لا تغني نفس عن نفس شيئا والأمر يومئذ لله.
.2- وتارة تكون في مقدمة القصة أو قبلها:
ومثال ذلك ما ذكر في سورة الحجر من قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49- 50]. ثم سرد القصص التي تدل على الرحمة: كقصة إبراهيم عليه السلام وتبشيره بالغلام بعد كبر سنه، وكذلك القصص التي تدل على العذاب: كقصة لوط عليه السلام مع قومه وما حاق بهم من العذاب.
.3- وتارة تكون بعد ذكر القصة:
ومثال ذلك ما جاء من هذه العظات والتنبيهات الرائعة في سورة يونس عليه السلام من قوله تعالى:
{وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 99- 103].
هذه اللفتات المدهشة والتوجيهات الرائعة جاءت في أعقاب ذكر قصة نوح عليه السلام مع قومه، وموسى وهارون عليهما السلام مع فرعون ثم مع بني إسرائيل، وما كان من هؤلاء الأقوام، وما كان من عقاب من عاند، وجزاء من انصاع إلى الحق، ونصرة من دعا إلى الله عزّ وجلّ.
.5- خصائص القصة القرآنية:
إن القصة في القرآن تقوم على أسس وخصائص فنية رائعة، فهي تحقق الغرض الديني عن طريق جمالها الفني، الذي يجعل ورودها إلى النفس أيسر، ووقعها في الوجدان أعمق.
وأهم هذه الخصائص ما يلي:
.أ- العرض التصويري:
إن القرآن الكريم عند ما يأتي بالقصة لا يخبر بها إخبارا مجردا، بل يعرضها بأسلوب تصويري، يتناول جميع المشاهد والمناظر المعروضة، فإذا بالقصة حادث يقع ومشهد يجري، لا قصة تروى ولا حادثا قد مضى.
.ألوانه وأمثلته:
والتصوير في مشاهد القصة القرآنية ألوان تبدو في قوة العرض والإحياء، وفي تخييل العواطف والانفعالات، كما تبدو في رسم الشخصيات. وهذه الألوان ظاهرة في مشاهد القصص القرآني جميعا، لا ينفصل بعضها عن بعض، وقد يبرز أحدها في بعض المواقف عن بعض، فيطبع المشهد باسمه.
فمن أمثلة القصص التي برزت فيها قوة العرض والإحياء: قصة أصحاب الجنة، ومشهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء الكعبة، ومشهد نوح عليه السلام وابنه في الطوفان، وقصة أصحاب الكهف.
ومن أمثلة ما برز فيه تصوير العواطف والانفعالات: قصة صاحب الجنتين وصاحبه الذي يحاوره، وقصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح، وقصة مريم عند ميلادها عيسى عليهما السلام.
وأما أمثلة اللون الثالث وهو: رسم الشخصيات وبروزها في القصة القرآنية: فهو القصص القرآني كله، واقرأ على سبيل المثال: قصة موسى عليه السلام مع فرعون، وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه، وقصة يوسف عليه السلام، وقصة سليمان عليه السلام مع بلقيس، فكلها قصص يبرز فيها تصوير الشخصيات ورسمها على أدق ما يكون الرسم وأبرع ما يكون التصوير.
.نموذج تحليلي:
وإليك تحليلا موجزا للعرض التصويري الذي عرضت فيه مشاهد قصة أصحاب الكهف:
.المشهد الأول:
يصور لنا أصحاب الكهف وهم فتية يتشاورون في أمرهم، بعد ما اهتدوا إلى الله عزّ وجلّ بين قوم كافرين: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً} [الكهف: 13- 16].
.والمشهد الثاني:
مشهد مليء بالحركة التصويرية العجيبة، يعرض لنا حالهم وقد نفذوا ما عزموا عليه وكأننا نراهم يقينا رأي العين: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْذ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف: 17- 18].
.وأما المشهد الثالث:
فإنه يعطي الصورة الحية بكل ما فيها من خلجات نفسية، ومخاوف، وإيمان وثقة، وأخذ بالأسباب للنجاة: {وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف: 19- 20].
.ثم يأتي المشهد الرابع:
ليصوّر لنا كيف اكتشف حالهم، والناس قد تحوّلوا من كفر إلى إيمان، فإذا بهم يصبحون حديث الناس، وموضع اهتمامهم، ومثار جدلهم على مر الأزمان: {وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف: 21- 22].
ثم تأتي المناسبة للتوجيهات في ثنايا القصة وأعقابها على طريقة القرآن في قصصه:
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً}[الكهف: 23- 27].
.ب- التنويع في الاستهلال بالقصة ووضع المدخل إليها:
من أبرز الخصائص الفنية للقصة القرآنية تنوع طريقة العرض في ابتداء القصة، وذلك أن عنصر التشويق أمر أساسي في القصة، فينبغي أن يتجلى بأبهى مظاهره في مطلعها، حتى ينشدّ القارئ إلى متابعة حلقاتها، ويفتح آفاق ذهنه وجوانب نفسه إلى استطلاع أغراضها ومقاصدها. وأهم مظاهر براعة الاستهلال في القصة القرآنية هي:
1- البداءة بأغرب مشهد يلفت النظر فيها؛ حتى لو كان هذا المشهد متأخرا في سلسلة الحوادث؛ لأن المشهد الغريب من شأنه أن يثير الانتباه أكثر من غيره، حتى إذا تفتح الذهن وأقبل على القصة، عمد البيان إلى استدراك ما فات من المشاهد، وتحين المناسبة لعرضه بشكل متناسق ومتساو مع جمال العرض وأداء الغرض.
وخذ مثالا على ذلك قصة موسى عليه السلام في سورة (طه) حيث افتتحت بهذا المشهد: {وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} [طه: 9- 10].
ثم يعود السياق بعد هذه البداءة ليستدرك جوانب القصة ومشاهدها.
2- التقديم للقصة بخلاصة عنها، وذلك بأن ينتزع من مشاهد القصة أهم مظاهر العبرة فيها، فتصاغ بشكل خلاصة تجعل مدخلا للقصة وبداية لها، ثم تعرض التفصيلات بعد هذا المدخل. وهذا مظهر من مظاهر التشويق، التي تضع في مخيلة القارئ صورة مختصرة عن القصة، تبعث فيه الرغبة إلى التوسع في معرفة جوانبها. وخير مثال على ذلك قصة أصحاب الكهف إذ بدئت بتلك الخلاصة:
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً. ثم يبدأ التفصيل بقوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف: 9- 12].
3- الاستهلال بذكر الأسباب والنتائج، وما يكشف عن مغزى القصة وحكمة أحداثها؛ فتتجسد العبرة التي ينبغي أن تؤخذ منها، وتتشوق النفس لمعرفة الطريقة التي تتحقق بها الغاية المرسومة المعلومة، حتى إذا بدأ سرد القصة كان فكر القارئ متنبها لمواطن العبرة فيها.
وخذ مثالا على ذلك قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة القصص، إذ استهلت بهذه الآيات:
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 4- 6].
4- ذكر القصة مباشرة بلا مقدمة ولا تلخيص، ويكتفى بما في ثناياها من مفاجآت خاصة بها، وذلك مثل قصة مريم عند ولادتها عيسى عليهما السلام، وقصة سليمان عليه السلام مع بلقيس، وغيرهما من القصص.
5- العرض التمثيلي: وهو العرض الذي يقوم على إبراز المشاهد الرئيسية، والحلقات الأساسية من القصة، بشكل واضح وجلي أمام الناظر أو المتخيل، بينما يترك له بين كل مشهد وآخر من هذه المشاهد أو الحلقات فجوات يطوي فيها ما بين المشاهد من الروابط البدهية، ويفسح المجال للخيال حتى يملأها، ويستمتع بإقامة القنطرة بين المشهد السابق والمشهد اللاحق.
وهذه الطريقة من العرض سمة بارزة في القصص القرآني، إذ من شأنها أن تعطي القيمة الفنية للقصة، وتضفي عليها الحيوية وتبعث فيها الحياة، بينما تقل هذه القيمة وتضعف أكثر فأكثر كلما شغل الذهن بعرض تلك الروابط البدهية، وذكر تلك التفصيلات التي غالبا ما تمل النفوس سماع الحديث عنها.
ومن أمثلة هذه الخاصة الهامة:
1- قصة نوح التي وردت في سورة هود- عليهما السلام- بقوله تعالى:
{وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ} [هود: 36- 38].
فالقصة تضع أمامنا مشهد نوح عليه السلام وهو يتلقى الوحي الإلهي الذي يفقده الأمل من إيمان قومه، ويخبره بحلول العقاب فيهم، ويأمره بصنع السفينة التي ستكون سبب نجاته ومن معه من المؤمنين، ثم يسدل الستار ليرتفع ثانية عن مشهد نوح عليه السلام وهو يقوم بصنع السفينة، مقبلا على ذلك بكليته، تنفيذا لأمر الله عزّ وجلّ، بينما قومه الهلكى من حوله يهزءون ويسخرون.
والفجوة التي تركها العرض بين المشهدين ليملأها الخيال: هي تلك الأحداث التي لابد منها، من العزم على الصنع، وإحضار المواد الأولية، وإنما طويت حتى لا تفسد بذكرها العرض الفني للقصة.
2- قصة مريم عليها السلام: التي تضعنا أمام مشهد يصور لنا تلك العذراء البتول، وقد أتاها الروح القدس في هيئة إنسان ليقول لها:
{إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا} وتجيبه مستغربة دهشة:
{قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فيخبرها بأنه فعل الذي لا يعجزه شيء، ويطلعها على الحكمة من ذلك:
{قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا}. ثم يسدل الستار ليرتفع عن مشهد هذه العذراء وقد أثقلها حملها، فتنحت جانبا من القوم وهي قلقة خائفة، وإذا بالمخاض يلجئها إلى جذع نخلة تستقر تحتها لتلد النور والهداية لتلك البشرية الضائعة في ذلك الجيل:
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا}[مريم: 22- 23].
ويلاحظ بين المشهدين فجوة فنية كبرى، تترك للخيال أن يتصورها كما يشاء له التصور.
المفضلات