من كتاب القرآن والسلطان ( الأستاذ فهمي هويدي )
(( إن القرآن محبوس فعلا في قفص حديدي يحيط به رجال غلاظ شداد ، وأن المعتمد منه فقط هو بعض الصفحات ، بل بعض الكلمات ، التي توظف وتطوع لخدمة أوضاع قائمة ، وأكثرها علينا وليست لنا .
الذين يرفضونه يردون أن يحاكموه . والذين يخشونه سعداء لبقائه في قفص الاتهام . وعندما يطلق سراح القرآن ، سوف يطلق سراح هذه الأمة !! .
ليس من حق أحد أن يزعم بأنه يتمتع بحصانة إسلامية خصته بها السماء من دون كلِّ المسلمين ، فرفعته فوق الرؤوس ، ونزهته عن النقد والسؤال ، وأحاطته بسياج من العصمة والقداسة .
فالذي نعلمه عن الإسلام الذي انزله الله في كتابه أن يرفض التجسيد في الأشخاص والأشياء ، كما يرفض التجسيد في الأزمنة والأمكنه .
ما نعرفه عن الإسلام أنه يرسي مجموعة من القيم ، حيثما وجدت وجد معها الإسلام ، وإذا ما غابت غاب معها الإسلام . ما نعرفه عن الإسلام أنه يرفض بشكل قاطع أن تثبت رايته علي جبين فرد أو سلالة أو جنس ، فضلاً عن واجهة بناية أو مدينة أو هيكل .
إن القداسة والعصمة بنص القرآن من الصفات المطلقة لله وحده ( الملك القدوس ) . وإضفاء هذه الصفة أو تلك علي أحد من البشر فيه شبهة الشرك بالله . أما إضفاؤها علي مكان بذاته فهو الوثنية بعينها .
ومحمد عليه الصلاة والسلام في القرآن الكريم ليس إلا " بشراً رسولا " ولاحظ الترتيب : بشراً أولا ثم رسول ثانياً . وهو في قوله عليه السلام " .. ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في مكة " اصطفاه الله سبحانه ليؤدي أمانة تبلغ الرسالة . وعندما وصفه القرآن الكريم بأنه " لا ينطق عن الهوى " لم يشأ البيان الإلهي أن يترك الحكم مطلقاً وإنما أضاف علي الفور في الآية ذاتها " إن هو إلا وحي يوحى " .
محمد الرسول هو الذي تلقى الوحي قبساً من عصمة الله سبحانه ، أما محمد البشر فهو الذي نكن له أعظم الحب والإجلال لأنه رسول الله ، لكن في غير إطار الوحي والدعوة والتبليغ يظل بشراً يصيب ويخطئ . وهو المعنى الذي أدركه الصحابة جيداً ، الأمر الذي دفع أحدهم في غزوة بدر لأن يستفسر من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اختار موضعاً إلى جوار بئر ليعسكر فيه المسلمون . ويسأله أهو منزل أنزلكه الله ، ام هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فيقول عليه السلام : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ! عندئذ يطرح الصحابي رأياً مخالفاً لرأي رسول الله ويرشح موضعاً آخر لأن الأمر هنا خرج عن دائرة الوحي الإلهي . إلى دائرة الاجتهاد الإنساني . وكان المتكلم هو محمد البشر وليس محمدا الرسول .
محمد البشر هو الذي كان يستشير المسلمين في أمورهم قائلاً : أشيروا علي أيها الناس . وهو الذي انحاز إلى رأي أبي بكر في مصير أسرى بدر ، وهو الذي عاتبه الله في القرآن " عبس وتولى أن جاءه الأعمى " . وهو الذي رفض أن يضفي أي قدر من القداسة أو التمييز للسلالة ، وأعلن أمام الجميع : " والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ! " وهو القائل بمنتهى الوضوح : " يا فاطمة بنت محمد ، لا أغني عنك من الله شيئاً " وهو المحذر لأهله : لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم " .
وفي سياق الحرص علي التجريد ورفض التجسيد يسوق لنا قصص القرآن مثلاً آخر من عهد أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، في حوار شديد التركيز والوضوح يسجل البيان الإلهي قول الله سبحانه وتعالى لسيدنا إبراهيم في سورة البقرة من الآية 124 " إني جاعلك للناس إماما . ." فيعقب أبو الأنبياء بقوله : " ومن ذريتي " ويكون الرد قاطعاً ، إذ يقول الله سبحانه " لا ينال عهدي الظالمين " فسيدنا إبراهيم هنا يطرح قضية وراثة الإمامة والقيادة في ذريته . ولكن الله سبحانه وتعالى يوجه الحوار إلى مسار آخر يطرح فيه العدل في إدانة واضحة للظلم والظالمين ، والمسألة ليست في أن تكون الإمام في ذرية إبراهيم أو لا تكون . ولكن جوهر القضية هي : هل يقف هؤلاء مع العدل أو مع الظلم ؟ .
إننا إذا تتبعنا مسيرة التاريخ الإسلامي في هذا الصدد فسوف تستوقفنا ملاحظتان هامتان :
الملاحظة الأولى : إن فكرة ربط الأشخاص بالدين ، في المنصب أو في اللقب ، لم تظهر إلا في عصور الضعف التي مهدت لعصور الانحطاط .
الملاحظة الثانية : إن هذا الاتجاه ثبت واستقر حتى تطور إلى إنشاء ما يسمى بالمؤسسة الدينية ، علي أيدي المسلمين العجم وليس العرب .
وتسجل كتب التاريخ الإسلامي أن ربط كلمة الدين بأشخاص ذوي المناصب تجسيداً أو احتماء أو تبركاً ، حدث في أواخر العصر العباسي الأول ، وهو العصر الذي اتسم بتقليص النفوذ العربي وتزايد تأثيرات أعاجم المسلمين ، فضلاً عن التدهور السياسي والفكري الذي شهدته تلك المرحلة .
وإذا كانت صفة القداسة لم ترتبط بشخص في القرآن الكريم ، لم تطلق علي أي من الأمكنة إلا في سياق القصص القرآني وبالتحديد في أثناء سرد قصة موسى عليه السلام ، عندما كلم الله في الوادي المقدس . الذي قيل أنه جبل الطور في سيناء ، وعندما دعا قومه إلى دخول الأرض المقدسة . التي قيل أنها الشام ، في امتحان لصلابة إيمانهم بالله سبحانه . والقداسة في الموضعين لم تكن مطلقة ولكنها ارتبطت بعلة معينة وموقوتة بظروفها ، فقداسة الوادي استمدت من أنه كان المسرح الذي جري عليه كلام الله لنبيه موسى وقداسة الأرض في الحالة الثانية مستمدة لكونها تطهرت من الوثنية لما بعث الله فيها من أنبياء دعاة التوحيد ، كما يقول الشيخ رضا في تفسير المنار ج 1 الذي يشير إلى أن المقصود بالأرض المقدسة هنا الأرض المباركة .
في غير هذين الموضعين ، وخارج السياق التاريخي ، فإن القرآن الكريم لم يذكر كلمة القدسية مرتبطة بمكان علي الإطلاق . وكل إشاراته بعد ذلك إلى خصوصية وتميز أماكن أو ألأشياء بذاتها استخدمت مشتقات لفظ الحرمة ، وهي اختيار دقيق له دلالته مثل الشهر الحرام والبيت الحرام والمسجد الحرام .
وحتى هذه الحرمة ليست مطلقة . فالقتال في الشهر الحرام محظور إلا إذا تخلله عدوان علي المسلمين فيجب أن يردوا ويصدوا متحللين من حرمة الشهر ، وذاك أيضاً شأن البيت الحرام ، فإنه إذا وضع في كفة ، ووضعت كرامة المسلمين في كفة أخرى ، فالرجحان عند الله من نصيب تلك الكفة الثانية . وهذا ما تقوله بوضوح الآية 217 من سورة البقرة " يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله " .
وفيما رواه ابن ماجه أن النبي عليه السلام وقف أمام الكعبة وقال : ما أطيبك وأطيب ريحك ، وما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده ، لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك ، ماله ودمه "
هنا حرمة نسبية ، وليست قداسة مطلقة ، لمكان واحد يرمز إلى تلك القيمة العظمى : عبادة الله سبحانه . إذ هو أول بيت أقيم لعبادة الله في تاريخ الإسلام ، علي يد أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام .
في غير هذه الحالة الفريدة والنادرة ، والمبررة ، فليس في التصور الإسلامي حرام وإن تعددت الأماكن واجبة الإجلال والاحترام .
وفي التصور الإسلامي . فإنه إذا كان هناك مخلوق مقدس ـ إذا جاز التعبير ـ فهو الإنسان بكل تأكيد . . ذلك الكائن الذي كرمه الله ونفخ فيه من روحه ، وسجدت له الملائكة ، وسخر الكون لأجله . لكنها تظل قداسة نسبية . ومعلقة علي شرط هو الإيمان بالله وإحسان القول والعمل .
منذ القرن السابع من وفاة الرسول تمت عملية الحفظ والتعليب ، وتحوَّ ل أغلب العلماء إلى مجرد مستقبلين وملقنين ومقلدين ، وبدأ العقل العربي إجازته الطويلة ، ولولا تلك الومضات الباهرة التي مزق بها بعض فقهائنا حجب الظلام الإجباري التي فرضت علي العقل العربي ، لكان الحال الآن أسوأ بكثير .
لقد كان هؤلاء الأعلام الكبار أئمة عصرهم ، ولكن بعضنا يظلمهم ويحملهم فوق طاقتهم ، ويريد لهم أن يصبحوا أئمة عصرنا أيضاً .
فهذا أبو داود يروي عن الإمام أحمد بن حنبل قوله : " لا تقلدوني ولا مالكاً ولا الشافعي ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا " ثم قوله : " من قلة فقه الرجل أن يقلد في دينه الرجال " .
ويرى ابن القيم أنه لهذا السبب لم يؤلف ابن حنبل كتاباً في الفقه ، وإنما دون أصحابه وتلاميذه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته عن أسئلة الآخرين .
وهذا الإمام مالك يعرض الخليفة الرشيد أن يلزم الناس بمذهبه في الفقه ، ولكن الرجل ينهاه عن ذلك ، إدراكاً منه لمخاطر الترديد والتقليد .
وهذا الإمام الشافعي يقول . إذا صح خبر يخالف مذهبي فاتبعوه ، واعلموا أنه مذهبي . ويقول أيضاً لتلاميذه : إذا ذكرت لكم ما لم تقبله عقولكم فلا تقبلوه ، فإن العقل مضطر إلى قبول الحق .
وعندما قيل لأبي حنيفة : إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه ؟ . . فإنه ذهب إلى أبعد وقال : أتركوا قولي بخبر رسول الله . فقيل له : وإذا كان قول الصحابة يخالفه ؟ عندئذ كان رده : أتركوا قولي لقول الصحابي .
والإمام محمد بن علي الشوكاني يطرح القضية علي الوجه التالي : في القرن الثالث من وفاة الرسول ، وفيه أبو حنيفة ومالك والشافي وابن حنبل ، لم يكن في عصرهم مذهب رجل معين يتدارسونه . وإن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة إنما كان بعد انقراض هؤلاء الأئمة وقد كانوا علي نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد وعدم الاعتداد به . وأن هذه المذاهب إنما أحدثها عوام المقلدة لأنفسهم ، من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين .
والإمام الشوكاني هو نفسه الذي قال " التقليد بدعة محدثة . لأننا نعلم بالقطع الصحابة رضوان الله عنهم لم يكن في زمانهم وعصرهم مذهب لرجل معين يدرك ويقلد . وإنما كانوا يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنة .
ومن أقوال ابن حزم أنه : " لا يحل لأحد أن يقلد أحد ، لا حياً ولا ميتاً وعلي كل واحد من الاجتهاد بحسب طاقته " وهو القائل أيضا التقليد كله حرام في جيمع الشرائع أولها وآخرها ".
والإمام أبو شامه الشافعي يعيب علي المسلمين أن " اشتهرت المذاهب الأربعة ، وهجر غيرها ، فقصرت همم أتباعهم إلا قليلاً منهم فقلدوا بعد ما كان التقليد لغير الرسل حراماً . بل صارت أقوال أئمتهم لمنزلة الأصيلة . وذلك معنى قوله تعالى : " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ".
هل رأيت أحدا ً يكافأ علي الخطأ ؟
نفهم أن يثاب المرء إذا أجاد ، وان غاية ما يتوقعه إذا اخطأ أن يُغْفَرَ له . وألاَّ يُعاقب ، ولكن المجتهد في الإسلام هو وحده الذي يؤجر إذا اخطأ . والحديث الشريف هو الذي يَعِد ُالمجتهد بأنه " إذا أصاب فله أجران إذا أخطأ فله أجر".
هل رأيت تحريضاً ودعوة ملحة إلى ممارسة الحرية العقلية أكثر من هذه؟ إن اغلب سور القرآن الكريم تبث هذه الدعوة في كل مناسبة . تحاول أن تهز النفوس الخامدة والعقول الجامدة ، وتتساءل : أفلا تتفكرون ؟ أفلا تعقلون ؟ .))
فهل لنا من وقفة مع ما كتبه مفكري الأمة في هذا المجال دون تحيز وتحزب , حتى نستطيع أن ننهض من عثرتنا ونفيق من غفلتنا ونسلك بذلك طريق التقدم والرقي لأمتنا التي تخلفت عن ركب الحضارة زمنا طويلا , فيا شباب الأمة الإسلامية الأمانة ملقاة عليكم والأمل معقود بجهودكم فشمروا عن سواعدكم , وأعلموا أن سلاح هذه المرحلة هو العلم , والعلم لا شئ غيره في جميع مجالات الحياة , وأعلموا ان القرآن مصدر كل العلوم ومبدأ كل عمل طيب فاعتصموا بحبل الله . يرعاكم الله ويوفقكم لما فيه خير البلاد والعباد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته