26/06/2010
د. علي الصلابي
أثر فتح القسطنطينية على العالم الأوروبي والإسلامي
كانت القسطنطينية قبل فتحها عقبة كبيرة في وجه انتشار الاسلام في اوروبا ولذلك فإن سقوطها يعني فتح الاسلام لدخول أوروبا بقوة وسلام لمعتنقيه أكثر من ذي قبل ، ويعتبر فتح القسطنطينية من أهم أحداث التاريخ العالمي، وخصوصاً تاريخ أوروبا وعلاقتها بالإسلام حتى عده المؤرخون الأوروبيون ومن تابعهم نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة([1]).
وقد قام السلطان بعد ذلك على ترتيب مختلف الأمور في المدينة، وإعادة تحصينها، واتخذها عاصمة للدولة العثمانية وأطلق عليها لقب اسلام بول أي مدينة الاسلام([2]).
لقد تأثر الغرب النصراني بنبأ هذا الفتح، وانتاب النصارى شعور بالفزع والالم والخزي ، وتجسم لهم خطر جيوش الاسلام القادمة من استنبول ، وبذل الشعراء والادباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد وبراكين الغضب في نفوس النصارى ضد المسلمين ، وعقد الامراء والملوك اجتماعات طويلة ومستمرة وتنادى النصارى الى نبذ الخلافات والحزازات وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثراً بنبأ سقوط القسطنطينية، وعمل جهده وصرف وقته في توحيد الدول الايطالية وتشجيعها على قتال المسلمين، وترأس مؤتمراً عقد في روما أعلنت فيه الدول المشتركة عن عزمها على التعاون فيما بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك. وأوشك هذا الحلف أن يتم إلا أن الموت عاجل البابا بسبب الصدمة العنيفة الناشئة عن سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين والتي تسببت في همه وحزنه فمات كمداً في 25 مارس سنة 1455م([3]).
وتحمس الأمير فيليب الطيب دوق بورجونديا والتهب حماساً وحمية واستنفر ملوك النصارى الى قتال المسلمين وحذ حذوه البارونات والفرسان والمتحمسون والمتعصبون للنصرانية، وتحولت فكرة قتال المسلمين الى عقيدة مقدسة تدفعهم لغزو بلادهم ، وتزعمت البابوية في روما حروب النصارى ضد المسلمين وكان السلطان محمد الفاتح بالمرصاد لكل تحركات النصارى، وخطط ونفذ مارآه مناسباً لتقوية دولته وتدمير أعدائه، واضطر النصارى الذين كانوا يجاورون السلطان محمد أو يتاخمون حدوده ففي آماسيا، وبلاد المورة ، طرابيزون وغيرهم أن يكتموا شعورهم الحقيقي، فتظاهروا بالفرح وبعثوا وفودهم الى السلطان في أدرنة لتهنئته على انتصاره العظيم([4]).
وحاول البابا بيوس الثاني بكل ما أوتي من مقدرة خطابية ، وحنكة سياسية، تأجيج الحقد الصليبي في نفوس النصارى شعوباً وملوكاً، قادة وجنوداً واستعدت بعض الدول لتحقيق فكرة البابا الهادفة للقضاء على العثمانيين ولما حان وقت النفير اعتذرت دول أوروبا بسبب متاعبها الداخلية، فلقد انهكت حرب المائة عام انكلتر وفرنسا، كما أن بريطانيا كانت منهمكة في مشاغلها الدستورية وحروبها الأهلية، وأما أسبانيا فهي مشغولة بالقضاء على مسلمي الأندلس وأما الجمهوريات الايطالية فكانت تهتم بتوطيد علاقاتها بالدولة العثمانية مكرهة وحباً في المال ، فكانت تهتم بعلاقتها مع الدولة العثمانية.
وانتهى مشروع الحملة الصليبية بموت زعيمها البابا واصبحت المجر والبندقية تواجه الدولة العثمانية لوحدهما؛ أما البندقية فعقدت معاهدة صداقة وحسن جوار مع العثمانيين رعاية لمصالحها وأما المجر فقد انهزمت أمام الجيوش العثمانية واستطاع العثمانيون أن يضموا الى دولتهم بلاد الصرب، واليونان والافلاق والقرم والجزر الرئيسية في الأرخبيل. وقد تم ذلك في فترة قصيرة ، حيث داهمهم السلطان الفاتح، وشتت شملهم ، واخذهم أخذاً عظيماً([5]).
وحاول البابا (بيوس الثاني) بكل ما أوتي من مهارة وقدرة سياسية تركيز جهوده في ناحيتين اثنتين : حاول أولاً أن يقنع الاتراك باعتناق الدين النصراني، ولم يقم بارسال بعثات تبشيرية لذلك الغرض وانما اقتصر على ارسال خطاب الى السلطان محمد الفاتح يطلب منه أن يعضد النصرانية، كما عضدها قبله قسطنطين وكلوفيس ووعده بأنه سيكفر عنه خطاياه ان هو اعتنق النصرانية مخلصاً، ووعده بمنحه بركته واحتضانه ومنحه صكاً بدخول الجنة. ولما فشل البابا في خطته هذه لجأ الى الخطة الثانية خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، وكانت نتائج هذه الخطة الثانية قد بدأ فشلها مسبقاً بهزيمة الجيوش الصليبية والقضاء على الحملة التي قادها هونياد المجري([6]).
وأما آثار هذا الفتح المبين في المشرق الاسلامي - فنقول لقد عم الفرح والابتهاج المسلمين في ربوع آسيا وأفريقيا فقد كان هذا الفتح حلم الأجداد وأمل الاجيال ، ولقد تطلعت له طويلاً وهاقد تحقق وارسل السلطان محمد الفاتح رسائل الى حكام الديار الاسلامية في مصر والحجاز وبلاد فارس والهند وغيرها؛ يخبرهم بهذا النصر الاسلامي العظيم- وأذيعت أنباء الانتصار من فوق المنابر، وأقيمت صلوات الشكر، وزينت المنازل والحوانيت وعلقت على الجدران والحوائط والاعلام والأقمشة المزركشة بألوانها المختلفة([7]).
يقول ابن إياس صاحب كتاب (بدائع الزهور) في هذه الواقعة : (فلما بلغ ذلك ، ووصل وفد الفاتح، دقت البشائر بالقلعة، ونودي في القاهرة بالزينة، ثم أن السلطان عين برسباي أمير آخور ثاني رسولاً الى ابن عثمان يهنئه بهذا الفتح)([8]).
وندع المؤرخ أبا المحاسن بن تغري بردي يصف شعور الناس وحالهم في القاهرة عندما وصل إليها وفد الفاتح ومعهم الهدايا واسيران من عظماء الروم، قال : (قلت ولله الحمد والمنة على هذا الفتح العظيم وجاء القاصد المذكور ومعه اسيران من عظماء اسطنبول وطلع بهما الى السلطان (سلطان مصر إينال) وهما من أهل القسطنطينية وهي الكنيسة العظيمة باسطنبول فسر السلطان والناس قاطبة بهذا الفتح العظيم ودقت البشائر لذلك وزينت القاهرة بسبب ذلك أياماً ثم طلع القاصد المذكور وبين يديه الأسيران الى القلعة في يوم الاثنين خامس وعشرين شوال بعد أن اجتار القاصد المذكور ورفقته بشوارع القاهرة. وقد احتفلت الناس بزينة الحوانيت والأماكن وأمعنوا في ذلك الى الغاية وعمل السلطان الخدمة بالحوش السلطاني من قلعة الجبل..) ([9]).
وهذا الذي ذكره ابن تغري بردي من وصف احتفال الناس وأفراحهم في القاهرة بفتح القسطنطينية ماهو إلا صورة لنظائر لها قامت في البلاد الاسلامية الاخرى. وقد بعث السلطان محمد الفاتح برسائل الفتح الى سلطان مصر وشاه ايران وشريف مكة وأمير القرمان، كما بعث بمثل هذه الرسائل الى الأمراء المسيحيين المجاورين له في المورة والأفلاق والمجر والبوسنة وصربيا وألبانيا والى جميع أطراف مملكته([10]).
من رسالة الفاتح الى سلطان مصر:
واليك مقتطفات من رسالة الفاتح الى أخيه سلطان مصر الأشرف اينال وهي من إنشاء الشيخ أحمد الكوراني: (..إن من أحسن سنن أسلافنا رحمهم الله تعالى أنهم مجاهدون في سبيل الله ولايخافون لومة لائم ونحن على تلك السنة قائمون وعلى تيك الأمنية دائمون ممتثلين بقوله تعالى : {قاتلوا الذين لايؤمنون بالله}، ومستمسكين بقوله عليه السلام: (من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) فهممنا في هذا العام عممه الله بالبركة والإنعام معتصمين بحبل الله ذي الجلال والاكرام ومتمسكين بفضل الملك العلام الى أداء فرض الغزاء في الاسلام مؤتمرين بأمره تعالى:{قاتلوا الذين يلونكم من الكفار...} وجهزنا عساكر الغزاة والمجاهدين من البر والبحر لفتح مدينة ملئت فجوراً وكفراً التي بقيت وسط الممالك الاسلامية تباهي بكفرها فخراً .
فكأنها حصف على الخد الأغر
وكأنها كلف على وجه القمر
......... هذه المدينة الواقع جانب منها في البحر وجانب منها في البر، فأعددنا لها كما أمرنا الله بقوله : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة .. } كل أهبة يعتد بها وجميع أسلحة يعتمد عليها من البرق والرعد والمنجنيق والنقب والحجور وغيرها من جانب البر والفلك المشحون والجوار المنشآت في البحر كالأعلام من جانب البحر ونزلنا عليها في السادس والعشرين من ربيع الأول من شهور سنة سبع وخمسين وثمانمائة
فقلت للنفس جدي الآن فاجتهدي
وساعديني فهذا ما تمنيت
فكلما دعوا إلى الحق أصروا واستكبروا وكانوا من الكافرين فأحطنا بها محاصرة وحاربناهم وحاربونا وقاتلناهم وقاتلونا وجرى بيننا وبينهم القتال أربعة وخمسين يوماً وليلة
إذا جاء نصر الله والفتح هين
على المرء معسور الأمور وصعبها
فمتى طلع الصبح الصادق من يوم الثلاثاء يوم العشرين من جمادي الأولى هجمنا مثل النجوم رجوماً لجنود الشياطين سخرها الحكم الصديقي ببركة العدل الفاروقي بالضرب الحيدري لآل عثمان قد من الله بالفتح قبل أن ظهرت الشمس من مشرقها { سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر }، وأول من قتل وقطع رأسه تكفورهم اللعين الكنود فأهلكوا كقوم عاد وثمود فحفظهم ملائكة العذاب فأوردهم النار وبئس المآب فقتل من قتل وأسر من به بقى وأغاروا على خزاينهم وأخرجوا كنوزهم ودفافينهم موفوراً فأتى عليهم حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين فيومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، فلما ظهرنا على هؤلاء الأرجاس الأنجاس الحلوس طهرنا القوس من القسوس وأخرجنا منه الصليب والناقوس وصيرنا معابد عبدة الأصنام مساجد أهل الإسلام وتشرفت تلك الخطة بشرف السكة والخطبة فوقع أمر الله وبطل ما كانوا يعملون......([11]).
وأرسل السلطان الفاتح رسالة إلى شريف مكة عن طريق سلطان مصر وقد رد سلطان مصر على خطاب السلطان محمد وهداياه بمقطوعة من النثر الأدبي الرفيع وجاءت فيها بعض الأبيات الشعرية المعبرة مثل قول الشاعر:
خطبتها بكراً وما أمهرتها
إلا قنا وقواضباً وفوارسا
من كانت السمر العوالي مهره
جلبت له بيض الحصون عرايسا
الله أكبر ما جنيت ثمارها
إلا وكان أبوك قبلك غراسا([12])
وقد جاء في رسالة سلطان مصر أيضاً هذا البيت: قال الشاعر:
الله أكبر هذا النصر والظفر
هذا هو الفتح لا ما يزعم البشر([13])
وقال شاعر سلطان مصر بمناسبة فتح القسطنطينية:
كذا فليكن في الله جل العزايم
وإلا فلا تجفو الجفون الصوارم
كتائبك البحر الخضم جيادها
إذا ما تهدت موجه المتلاطم
تحيط بمنصور اللواء مظفر
له النصر والتأييد عبد وخادم
فيا ناصر الإسلام يا من بغزوه
على الكفر أيام الزمان مواسم
تهنَّ بفتح سار في الأرض ذكره
سرى الغيث يحدوه الصبا والنعايم([14])
رسالة السلطان محمد الفاتح إلى شريف مكة :
وجه السلطان محمد الفاتح رسالة إلى شريف مكة المكرمة بمناسبة فتح القسطنطينية بشره فيها بالفتح، وطلب الدعاء، وأرسل له الهدايا من الغنائم، وهذه بعض فقراتها:
بعد مقدمة في المدح والثناء على شريف " مكة المكرمة " يقول : " فقد أرسلنا هذا الكتاب مبشراً بما رزق الله لنا في هذه السنة من الفتوح التي لا عين رأت ولا أذن سمعت، وهي تسخير البلدة المشهورة بالقسطنطينية، فالمأمول من مقر عزكم الشريفة أن يبشر بقدوم هذه المسرة العظمى والموهبة الكبرى، مع سكان الحرمين الشريفين، والعلماء والسادات المهتدين، والزهاد والعباد الصالحين، والمشايخ، والأمجاد الواصلين، والأئمة الخيار المتقين، والصغار والكبار أجمعين، والمتمسكين بأذيال سرادقات بيت الله الحرام، التي كالعروة الوثقى لا انفصام لها والمشرفين بزمزم والمقام، والمعتكفين في قرب جوار رسول الله عليه التحية والسلام داعين لدوام دولتنا في العرفات، متضرعين من الله نصرتنا، أفاض علينا بركاتهم ورفع درجاتهم، وبعثنا مع المشار اليه هدية لكم خاصة ألفي فلوري من الذهب الخالص التام الوزن والعيار المأخوذ من تلك الغنيمة، وسبعة آلاف فلوري أخرى للفقراء، منها ألفان للسادات والنقباء، وألف للخدام المخصوصين للحرمين، والباقي للمساكين المحتاجين في مكة والمدينة المنورة، زادهما الله شرفاً، فالمرجو منكم التقسيم بينهم بمقتضى احتياجهم وفقرهم، وإشعار كيفية السير إلينا، وتحصيل الدعاء منهم لنا، دائماً باللطف والإحسان إن شاء الله تعالى، والله يحفظكم ويبقيكم بالسعادة الأبدية والسيادة السرمدية إلى يوم الدين([15])
وقد رد شريف مكة على رسالة السلطان محمد الفاتح:
( وفتحناها بكمال الأدب، وقرأناها مقابل الكعبة المعظمة بين أهل الحجاز وأبناء العرب فرأينا فيها من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، وشاهدنا من فحاويها ظهور معجزة رسول الله خاتم النبيين وماهي إلا فتح " القسطنطينية " العظمى وتوابعها التي متانة حصنها مشهورة بين الأنام، وحصانة سورها معروفة عند الخواص والعوام وحمدنا الله بتيسير ذلك الأمر العسير وتحصيل ذلك المهم الخطير، وبششنا ذلك غاية البشاشة، وابتهجنا من إحياء مراسم آبائكم العظام والسلوك مسالك أجدادكم الكرام، روّح الله أرواحهم، وجعل أعلى غرف الجنان مكانهم، في إظهار المحبة لسكان الأراضي المقدسة([16])
([1]) انظر : تاريخ الدولة العثمانية ، يلماز أوزيونا، ص384.
([2]) انظر: تاريخ الدولة العلية، محمد فريد بك، ص164.
([3]) انظر: السلطان محمد الفاتح ، ص136،137.
([4]) المصدر السابق نفسه، ص140.
([5]) انظر: السلطان محمد الفاتح، ص140.
([6]) انظر: السلطان محمد الفاتح، ص141.
([7]) المصدر السابق نفسه، ص142.
([8]) المصدر السابق نفسه، ص142.
([9]) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (16/71).
([10]) انظر: محمد الفاتح، ص142.
([11]) محمد الفاتح، ص163 الى 167.
([12]) محمد الفاتح ، ص175.
([13]) المصدر السابق، ص176.
([14]) محمد الفاتح ، ص177.
([15]) الدولة العثمانية ، الدكتور جمال عبدالهادي ، ص47.
([16]) المصدر السابق نفسه، ص48.
المفضلات