بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أن الأسلام دين السلام فتحية المسلمين تبدأ بالسلام والرسول الكريم نبي الرحمة والسلام {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107
استقبلت المدينة المنوّرة رسول الله استقبال الحب والإيمان .. استقبلوه بالأفراح والأناشيد ، فهو المصلح والمنقذ والهادي . . لقد انفتحت له القلوب والعقول قبل البلاد ، وأسلم الناس بالاستجابة إلى دعوة الفكر والحوار . . وحين استقرّ الرسول بالمدينة المنورة وجد أن كل عناصر الدولة ومقوماتها متوفرة بصورة فعلية . . الأرض والشعب والقانون والقيادة . . ولكي يتماسك البناء الاجتماعي والسياسي وينتشر الأمن والسلام . . وينتقل الناس من الفكر القبلي إلى فكر الدولة والمجتمع المدني المتحضر ، استبدل العلاقات القبلية بالعلاقات الانسانية والعقيدية والقانونية . . وأقام مبدأ المؤاخاة ، بين المهاجرين والأنصار ، وأزال الخلاف والأحقاد التي كانت بين قبيلتي الأوس والخزرج في المدينة . .
ثمّ خطا الرسول خطوات سياسية سلمية أخرى في منهاج الدعوة الإسلامية ، وهي كتابة وثيقة السلام وعدم اعتداء ، وتثبيت الحقوق والواجبات بين المسلمين من جهة ، وبين المسلمين واليهود في المدينة من جهة أخرى . . وكانت الوثيقة عبارة عن ميثاق للأمن والسلام ، والتعايش في ظل العدل والتفاهم وتحديد الحقوق والالتزامات المتبادلة . . من المفيد أن نورد بعض نصوص هذه الوثيقة التأريخية ذات الطبيعة الشرعية ، فإنّها أساس قانوني وتشريعي في الفكر الإسلامي ، لكونها صادرة عن الرسول .
جاء في هذه الوثيقة :
«بسم الله الرّحمن الرّحيم ،
هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنّهم أمّة واحدة من دون الناس .. »
ثم تبنت هذه الصحيفة المبادئ التي تحل بها المشاكل والنزاعات بطريقة سلمية . . فقد جاء في هذه الصحيفة أن كل قبيلة من قبائل المهاجرين والأنصار (يتعاقلون بينهم ويفدون عانيهم بالمعروف والقسط) .
وإنّهم جميعاً يواجهون العدوان ويدفعون المعتدين والظالم . . جاء في هذه الوثيقة:
«وإنّ المؤمنين المتّقين على مَن بغى منهم أو ابتغى دسيسة ظلم أو إثم أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين ، وإن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم .. » .
ثمّ جاء في الصحيفة :
«وإن يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم».
ثمّ جاء في هذه الصحيفة أن لبقيّة قبائل اليهود ومَن يرتبط بهم ما لقبيلة بني عوف وهم يهود بني النجّار ويهود بني الحارث ويهود بني ساعدة ويهود بني جُشم ويهود بني الأوس ، ويهود بني ثعلبة .
وتشير أحداث التأريخ أنّ المسلمين وقّعوا معاهدات صلح ، وعقدوا العهود والمواثيق الكثيرة بينهم وبين الآخرين . . مثل ميثاق السلام الذي وقعه الرسول مع اليهود في السنة الأولى من الهجرة ، وصلح الحديبية ، والصلح مع أساقفة نجران والروم في معركة تبوك . . الخ ، والمواثيق ، والمؤكدة على احترامها من قبل المسلمين ، والمبرزة لجانب التعايش والسلام مع الآخر . .
قال تعالى : (وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولا ) الإسراء / 34.
(يا أيُّها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) المائدة / 1.
وقال يثني على الذين يُعرفون بالعهد والأمانة : (والذين هم لعهدهم وأماناتهم راعون .. ) المؤمنون / 8.
(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان . . ) النحل / 90.
وقال سبحانه : ( .. إنّما يتذكّر أولو الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ) الرعد / 21 ـ 22.
وقال : (ولكنّ البر مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيِّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) البقرة / 177.
(إلاّ الذين عاهدتم من المشركين ثمّ لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إنّ الله يحبّ المتقين) التوبة / 4.
(وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثمّ أبلغه مأمنه ذلك بأ نّهم قوم لا يعلمون * كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنّ الله يحبّ المتقين * كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمّة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون) التوبة / 7 ـ 8.
(لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة وأولئك هم المعتدون) التوبة / 10.
(وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون * ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول * وهم بدأوكم أوّل مرّة . .) التوبة / 13.
(أوَ كلّما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) البقرة / 100.
وهكذا نقرأ تشريع نظام العهود والمواثيق ، والتأكيد على احترامها والالتزام بها ، لتحقيق الأمن والسلام ، ويشكل نظام العهود والمواثيق واحترامها أبرز ظواهر الحياة الحضارية ، والتعايش السلمي بين الناس .
وحين وصل رسول الله المدينة المنوّرة عمل على بناء المجتمع المدني ، على أسس ومبادئ للمواطنة والتعايش بين المسلمين وبينهم وبين اليهود . . غير أنّ اليهود نقضوا فيما بعد هذه الصحيفة وتآمروا على الرسول والدعوة والدولة ، وخططوا مع قريش وحلفائها للقضاء على الاسلام .
وجاء في هذه الصحيفة :
«إن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وإن بينهم النصر على مَن حارب أهل هذه الصحيفة ، إن بينهم النصح والنصيحة ، والبرّ دون الإثم ، وإنّه لم يأثم امرؤ بحليفه ، وإنّ النصر للمظلوم .. » .
« .. وانّه لا تجار قريش ، ولا مَن نصرها ، وان بينهم النصر على مَن دهم يثرب ، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه ، فإنّهم يصالحونه ويلبسونه .. » .
«وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة .. » .
«وأ نّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم ، وانّه مَن خرج آمن ، ومَن قعد آمن بالمدينة ، إلاّ مَن ظلم أو أثم ، وإنّ الله جار لمن برَّ واتّقى ومحمد رسول الله
...» .
لنعيد قراءة ما جاء في هذه الصحيفة ، قراءة تحليلية واعية ولنلتقط بعض نصوصها ، وعندئذ سنجدها حقاً وثيقة أمن وسلام وتعايش ، ودعوة إلى الصلح ، ونصرة المظلوم ، وسنعرف أنّ الجهاد هو دفاع وردٌّ للاعتداء . . وتلك المبادئ هي أسمى ما في القيم الانسانية ، ومبادئ المجتمع المدني المتحضر . .
يمكننا أن نستخلص من هذه الوثيقة المبادئ الآتية :
1 ـ إنّ أيدي المؤمنين جميعاً ومَن عاهدهم من اليهود على مَن بغى وظلم وأفسد ، ولو كان ابن أحدهم .
2 ـ إنّ اليهود الذين أقروا هذه الصحيفة أمّة مع المؤمنين .
3 ـ لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم .
4 ـ إن أهل هذه الصحيفة من المسلمين واليهود بينهم النصر على مَن حاربهم ، وعلى مَن دهم يثرب (هاجمها) فهم ملزمون بالدفاع عن المدينة ، وردّ الاعتداء عنها . .
5 ـ إنّ النصر للمظلوم .
6 ـ على أطراف الصحيفة توقيع الصلح مجتمعين ممن يطلب منهم الصلح .
7 ـ إن يثرب حرام جوفها على أهل هذه الصحيفة . . أي يحرم على الجميع أن يرتكب ما يخل بالأمن والسلام ، أو يرتكب الظلم والبغي والإثم والعدوان ، فهي مدينة أمن وعدل وسلام .
8 ـ وانّه مَن خرج آمن ، ومَن قعد آمن في المدينة . . فالأمن حق للجميع .
9 ـ إنّ الله ورسوله نصيران وحاميان لمن يفي بنصوص هذه الصحيفة ، وإنّ الله سبحانه والرسول جار لمن ينفذ ذلك . . يعني انّ الدولة والأمّة والأفراد مسؤولون عن تنفيذ هذه المبادئ والعمل بها . .
والدراسة التحليلية لهذه الصحيفة لا تكشف عن الاعتراف بالديانات الإلهية ، والتعايش مع معتنقيها بأمن وسلام وتعاون فحسب ، بل وتعطينا نظرية في حقوق المواطنة ، وأن هذه الحقوق هي للمسلمين وغيرهم ، ما زالوا ملتزمين بالروح التي حوتها هذه الصحيفة . .
المصدر : البلاغ
المفضلات