ما لايُدرك كلُّه لايُترك جُلُّه
فإذا سُقط في أيديهم، ورُدّت مبرراتهم، وأقام المرء عليهم الحجة بذكر الآيات الدالة على وجوب تحكيم شرع الله ، قالوا نحن لا ندعوا إلى الكفر، بل ندعوا إلى الإسلام لكن على مراحل، فنحن الآن لسنا بصدد الدعوة إلى تطبيق الإسلام، فهو ليس من أولوياتنا بل ندعو إلى تطبيق القانون المدني ـ أي قانون الكفرـ ثم بعد مدة نحاول تطبيق شيء من الإسلام، وهكذا... ويستدلون بــ( ما لايُدرك كلُّه لايُترك جُلُّه ).
هذه العبارة التي تلوكها ألسنة كثير من الناس، سواء الذين يصنفون في خانة أهل العلم، أم الذين يعتبرون من عامة الناس. وهذه القاعدة قائمة على أن المسلم إذا عجز عن القيام بأمر الشارع كله، لكنه يستطيع القيام ببعضه أو جلّه ( أكثره )، فانه يقوم بهذه الأمر ولا يتركه. قال تعالى: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ))، وقال رسول الله : (( إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ))، لكن لابد هنا من توضيح أمور ثلاثة هي:
1- أن المولى حين يقول: (( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )) ، ويقول: (( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ))، فهذا يعني أنه يكلفنا ما هو في استطاعتنا ووسعنا، والوسع هو أقصى الطاقة وليس أدناها أو أوسطها. أي اتقوا الله بقدر كل استطاعتكم وليس بقدر نصفها أو ثلاثة أرباعها.
2- أن عدم إمكانية القيام بما أمرنا به الشارع لايعني أن نسلك الطرق المحرمة شرعاً للوصول إليه، أي أن هذا الأمر الذي لانستطيع إدراكه كله ( لانستطيع عمله أو القيام به كله )، لكننا نستطيع القيام ببعضه أو أكثره، هذا الجزء الذي نستطيع القيام به هل نقوم به على ضوء أهوائنا وأمزجتنا، أم نرجع فيه إلى شرع الله ؟!. لاريب أننا ملزمون بالرجوع فيه إلى الشرع، لأننا ملزمون بالتقيد بالحكم الشرعي. فمثلاً إذا فقدنا الماء، أمرنا الشارع أن نستعمل الصعيد الطيب ( التراب )، فهل يجوز مثلاً إذا فقدنا الماء أن نستعمل بدلاً عنه النفط؟!.
3- أن كثيراً من أمور الشرع غير قابلة للتجزئة؛ لذا فهي غير خاضعة لمثل هذه القاعدة، مثل تحكيم شرع الله ؛ لأن الله أمرنا أمراً جازماً أن نحكّم شرعه ولا نحيد عنه، ولو بعضاً منه، قال تعالى: (( وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ .
إن النصوص الشرعية، وسيرة المصطفى العطرة، تؤكد وتدل بصورة قطعية على وجوب العمل بالإسلام والدعوة إليه كاملاً غير منقوص. فقد عرض سادة قريش على رسول الله الحكم والملك مشروطاً بالتخلي عن الدعوة، لكنه رفض ذلك قائلاً: (( ما جئتُ بما جئتُكم به أطلبُ أموالكم ولا الشرف فيكم ولا المُلك عليكم ولكنَّ الله بعثني رسولاً وأنزل عليَّ كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلّغتُكم رسالات ربّي ونصحتُ لكم فإنْ تقبلوا مني ما جئتُكم به فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تَرُدّوه عليَّ أصبرْ لأمر الله حتى يحكُم الله بيني وبينكم )).
وكذلك رفَض رسول الله التناوب على الحكم يوم عرضته عليه قريش. فقد أورد القرطبي في تفسير سورة الكافرون: " قل يأيها الكافرون "، ذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس :radia-ico : أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة, والعاص بن وائل, والأسود بن عبد المطلب, وأمية بن خلف، لقوا رسول الله فقالوا: يا محمد, هَلُمَّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي جئتَ به خيراً مما بأيدينا، كنا قد شاركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه. فأنزل الله عز وجل: " قل يا أيها الكافرون ". وغير ذلك كثير فقد عرض عليه بني عامر، وبني شيبان، وثقيف، ... أنصاف الحلول لكنه رفض كل هذه الحلول الجزئية.
ويُستنبط مما تقدم حرمة المشاركة في أنظمة الكفر أو التناوب على الحكم معها. وهذا يشمل كلُّ نظام حكمٍ يخالف نظام الإسلام، مثل الديمقراطية ( التي تعطي البشر صلاحية التشريع من دون الله )،...الخ. ولا يقولنَّ متقول: إن الحديث الذي دار بين رسول الله والمشركين كان يتعلق بالعبادة، لايقال ذلك؛ لأن عدي بن حاتم الطائي عندما سمع هذه الآية: (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ))، وكان قد تنصر في الجاهلية، قال: فقلت إنهم لم يعبدوهم فقال ـ أي رسول الله ـ: (( بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم ))، وهكذا فإن القبول بتشريع غير تشريع الله عز وجل هو عبادة لغير الله تعالى.
كما أن واقع الذين يرددون هذه العبارة: ( ما لايُدرك كلُّه لايُترك جُلُّه ) يدل على أنها كلمة حق أُريد بها باطل؛ وذلك لثلاثة أمور:
1- أنهم لم يبذلوا الوسع في تحقيق ما أمر الله به وفرضه على الأمة من وجوب تحكيم شرعه، بل أخذوا يميعون القضية، ويزرعون في نفوس الناس الإحباط واليأس عندما يزعمون ويدّعون عدم إمكانية تحقيق هذا الواجب، مع العلم أنهم لو بذلوا من أجل إقامة هذا الدين معشار الجهود التي يبذلونها في إرضاء الكافر والخضوع له والترويج للمشاركة في حكم الكفر، لأقيم الدين، لكن الأمر يحتاج إلى الصدق مع الله ورسوله. وكيف ينصر الله قوماً، انهزموا في أنفسهم؟!.
2- أنهم لم يتقيدوا في الجزء الممكن من التطبيق ـ حسب ادعاءهم ـ بحكم الشرع، بل سلكوا فيه منهجاً بعيداً كل البعد عن الإسلام.
3- أنهم استعملوا هذه العبارة فيما لايجوز فيه التجزئة، إلا وهو الحكم بما أنزل الله .
نحن نعلم يقيناً أن الدين الذي يقبله الله ولا يقبل سواه هو الإسلام، قال تعالى: (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ ))، وقال وقوله الحق:(( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ )). إذاً فهناك أمرين لا ثالث لهما، الإسلام أو الكفر، ولا توجد بينهما منزلة أو حالة وسط، فإما أن يكون الإنسان في دائرة الإسلام، وإلا فانه سيكون في دائرة الكفر. وإما أن يكون المسلم داعياً إلى الإسلام، وإلا فإنه سيكون داعياً إلى الكفر. فالدعوة إلى إقامة دولة المؤسسات، ودولة القانون المدني ....الخ. هي دعوة إلى غير الإسلام، هي دعوة لتطبيق أنظمة الكفر. فملة الكفر واحدة، ولا يغرنَّكم التلاعب بالألفاظ. يقولون الدعوة إلى تطبيق الإسلام ليس من أولوياتنا!!. فإن لم تكن الدعوة إلى الإسلام وتطبيقه من الأولويات، فما هي الأولويات التي يجب أن ندعو إليها إذاً؟!!. هل حمل رسول الله غير الدعوة إلى الإسلام أولوية، ألم يحاصر رسول الله هو ومن معه في شعاب أبي طالب، ألم يقاسوا ويعانوا من ظلم قريش وطغيانها وجبروتها، فهل جعلهم هذا ينحرفون ويبحثون عن أنصاف الحلول ويقولون تطبيق الإسلام ليس من أولوياتنا؟!!.
إن واقع المشاركة في أنظمة الكفر والقبول بأن تكون هناك أولويات غير الإسلام والدعوة إليه، تعني القبول بوجود تشريع بشري إلى جانب التشريع الإلهي، وبالتالي القبول بوجود مشرع للأحكام غير الشرعية، إلى جانب الأحكام الشرعية، هذا إن وجدت أحكام شرعية أصلاً. وتعني كذلك القبول بتعدد مصادر التشريع، لذلك تراهم يقولون للتلبيس على الناس: الإسلام هو دين الدولة الرسمي، والإسلام هو المصدر الأساسي، أو الإسلام مصدر أساسي، أو أحد مصادر التشريع، بينما عقيدتنا توجب علينا أن يكون الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع ولا يجوز أن يكون معه أي مصدر آخر. ولا ادري أين ذهب عنهم مفهوم وحدانية المعبود، التي تقتضي وحدانية العبادة ظاهراً وباطناً؟!!. إن هؤلاء يروجون ـ سواء علموا أم لم يعلموا ـ إلى ما تعمل له أمريكا والكفر كله من إفراغ الإسلام من محتواه السياسي وحصر الإسلام في المساجد، وأن يصبح مقياس المسلم هو المقياس الغربي، مقياس المصلحة والمنفعة، وليس مقياس الإسلام، مقياس الحلال والحرام.
المفضلات