ويحمي الإسلام فيما يحميه من حقوق أهل الذمة حق الحرية.
وأول هذه الحريات: حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه،
لا يُجبر على تركه إلى غيره، ولا يُضغط عليه ليتحول منه إلى الإسلام.
وأساس هذا الحق قوله تعالى: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي)، (البقرة: 256)
وقوله سبحانه: (أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين)؟ (يونس: 99).
قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه.
وسبب نزول الآية كما ذكر المفسرون يبين جانبًا من إعجاز هذا الدين،
فقد رووا عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة -قليلة النسل- فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّدَه (كان يفعل ذلك نساء الأنصار في الجاهلية) فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقال آباؤهم: لا ندع أبناءنا (يعنون: لا ندعهم يعتنقون اليهودية) فأنزل الله عز وجل هذه الآية: (لا إكراه في الدين).
(نسبه ابن كثير إلى ابن جرير، قال: "قد رواه أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن حيان في صحيحه وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم أنها نزلت في ذلك . . " تفسير ابن كثير ج ـ 1 ص 310).
فرغم أن محاولات الإكراه كانت من آباء يريدون حماية أبنائهم من التبعية لأعدائهم المحاربين
الذين يخالفونهم في دينهم وقوميتهم، ورغم الظروف الخاصة التي دخل بها الأبناء دين اليهودية وهم صغار،
ورغم ما كان يسود العالم كله حينذاك من موجات التعب والاضطهاد للمخالفين في المذهب،
فضلاً عن الدين، كما كان في مذهب الدولة الرومانية التي خيَّرت رعاياها حينًا بين التنصر والقتل،
فلما تبنت المذهب "الملكاني" أقامت المذابح لكل مَن لا يدين به من المسيحيين من اليعاقبة وغيرهم.
رغم كل هذا، رفض القرآن الإكراه، بل مَن هداه الله وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بيِّنة،
ومَن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مُكرَهًا مقسورًا
ـ كما قال ابن كثيرـ . فالإيمان عند المسلمين ليس مجرد كلمة تُلفظ باللسان أو طقوس تُؤدَّى بالأبدان، بل أساسه إقرار القلب وإذعانه وتسليمه.
ولهذا لم يعرف التاريخ شعبًا مسلمًا حاول إجبار أهل الذمة على الإسلام، كما أقر بذلك المؤرخون الغربيون أنفسهم.
وكذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم،
بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية حرية العبادة، وذلك في قوله تعالى:
(أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا). (الحج: 39 - 40).
وقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران،
أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم.
وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نص على حُريتهم الدينية،
وحرمة معابدهم وشعائرهم:
"هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود . . " كما رواه الطبري . (تاريخ الطبري ط . دار المعارف بمصر ج ـ 3 ص 609).
وفي عهد خالد بن الوليد لأهل عانات: "ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم" .(الخراج لأبي يوسف ص 146).
وكل ما يطلبه الإسلام من غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين، وحُرمة دينهم، فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم في الأمصار الإسلامية، ولا يحدثوا كنيسة في مدينة إسلامية لم يكن لهم فيها كنيسة من قبل، وذلك لما في الإظهار والإحداث من تحدي الشعور الإسلامي مما قد يؤدي إلى فتنة واضطراب.
على أن من فقهاء المسلمين مَن أجاز لأهل الذمة إنشاء الكنائس والبِيَع وغيرها من المعابد في الأمصار الإسلامية،
وفي البلاد التي فتحها المسلمون عنوة، أي أن أهلها حاربوا المسلمين ولم يسلموا لهم إلا بحد السيف إذا أذن لهم إمام المسلمين بذلك، بناء على مصلحة رآها، ما دام الإسلام يقرهم على عقائدهم.
وقد ذهب إلى ذلك الزيدية والإمام ابن القاسم من أصحاب مالك (انظر: أحكام الذميين والمستأمنين ص 96 - 99).
ويبدو أن العمل جرى على هذا في تاريخ المسلمين، وذلك منذ عهد مبكر،
فقد بُنِيت في مصر عدة كنائس في القرن الأول الهجري،
مثل كنيسة "مار مرقص" بالإسكندرية ما بين (39 - 56 هـ) .كما بُنِيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم، في ولاية مسلمة بن مخلد على مصر بين عامي (47 - 68 هـ )
كما سمح عبد العزيز بن مروان حين أنشأ مدينة "حلوان" ببناء كنيسة فيها،
وسمح كذلك لبعض الأساقفة ببناء ديرين.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة، وقد ذكر المؤرخ المقريزي في كتابه "الخِطط" أمثلة عديدة، ثم ختم حديثه بقوله:
وجميع كنائس القاهرة المذكورة محدَثة في الإسلام بلا خلاف (انظر: الإسلام وأهل الذمة للدكتور علي حسني الخربوطلي ص 139، وأيضاً: "الدعوة إلى الإسلام" تأليف توماس . و . أرنولد ص 84 - 86 ط . ثالثة . ترجمة د . حسن إبراهيم وزميليه).
أما في القرى والمواضع التي ليست من أمصار المسلمين فلا يُمنعون من إظهار شعائرهم الدينية
وتجديد كنائسهم القديمة وبناء ما تدعو حاجتهم إلى بنائه، نظرًا لتكاثر عددهم.
وهذا التسامح مع المخالفين في الدين من قوم قامت حياتهم كلها على الدين، وتم لهم به النصر والغلبة،
أمر لم يُعهد في تاريخ الديانات، وهذا ما شهد به الغربيون أنفسهم.
يقول العلامة الفرنسي جوستاف لوبون:
"رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفًا
أن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية،
وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص،
وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته"
وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوروبا المرتابون أو المؤمنون القليلون
الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب، والعبارات الآتية التي أقتطفها من كتب الكثيرين
منهم تثبت أن رأينا في هذه المسألة ليس خاصًا بنا.
قال روبرتسن في كتابه "تاريخ شارلكن":
"إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم
وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرًا لدينهم،
تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحرارًا في التمسك بتعاليمهم الدينية"
. (حاشية من صفحة 128 من كتاب "حضارة العرب" لجوستاف لوبون)
حرية العمل والكسب
لغير المسلمين حرية العمل والكسب، بالتعاقد مع غيرهم، أو بالعمل لحساب أنفسهم،
ومزاولة ما يختارون من المهن الحرة، ومباشرة ما يريدون من ألوان النشاط
الاقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين.
فقد قرر الفقهاء أن أهل الذمة في البيوع والتجارات وسائر العقود والمعاملات المالية كالمسلمين،
ولم يستثنوا من ذلك إلا عقد الربا، فإنه محرم عليهم كالمسلمين وقد رُوِي أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- كتب إلى مجوس هجر: "إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله".
كما يمنع أهل الذمة من بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين،
وفتح الحانات فيها لشرب الخمر وتسهيل تداولها أو إدخالها إلى أمصار المسلمين
على وجه الشهرة والظهور، ولو كان ذلك لاستمتاعهم الخاص،
سدًا لذريعة الفساد وإغلاقًا لباب الفتنة.
وفيما عدا هذه الأمور المحدودة، يتمتع الذميون بتمام حريتهم، في مباشرة التجارات والصناعات والحِرَف المختلفة .
وهذا ما جرى عليه الأمر، ونطق به تاريخ المسلمين في شَتَّى الأزمان .
وكادت بعض المهن تكون مقصورة عليهم كالصيرفة والصيدلة وغيرها .
واستمر ذلك إلى وقت قريب في كثير من بلاد الإسلام .
وقد جمعوا من وراء ذلك ثروات طائلة
معفاة من الزكاة ومن كل ضريبة إلا الجزية، وهي ضريبة على الأشخاص القادرين
على حمل السلاح، كما سيأتي، وهي مقدار جد زهيد.
قال آدم ميتز:
"ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال،
وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة،
فكانوا صيارفة وتجارًا وأصحاب ضياع وأطباء، بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم،
بحيث كان معظم الصيارفة الجهابذة في الشام مثلاً يهودًا .
على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى . وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة،
وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده " "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري"
للأستاذ آدم ميتز أستاذ اللغات الشرقية بجامعة "بازل" بسويسرا . ترجمة الأستاذ محمد عبدالهادي أبو ريدة الطبعة الرابعة، فصل: "اليهود والنصارى" ج1 ص86).
تولي وظائف الدولة
ولأهل الذمة الحق في تولى وظائف الدولة كالمسلمين .
إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية كالإمامة ورئاسة الدولة والقيادة في الجيش،
والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات ونحو ذلك.
فالإمامة أو الخلافة رياسة عامة في الدين والدنيا، خلافة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
ولا يجوز أن يخلف النبي في ذلك إلا مسلم، ولا يعقل أن ينفذ أحكام الإسلام ويرعاها إلا مسلم.
وقيادة الجيش ليست عملاً مدنيًا صرفًا، بل هي عمل من أعمال العبادة في الإسلام
إذ الجهاد في قمة العبادات الإسلامية.
والقضاء إنما هو حكم بالشريعة الإسلامية، ولا يطلب من غير المسلم أن يحكم بما لا يؤمن به.
ومثل ذلك الولاية على الصدقات ونحوها من الوظائف الدينية.
وماعدا ذلك من وظائف الدولة يجوز إسناده إلى أهل الذمة
إذا تحققت فيهم الشروط التي لا بد منها من الكفاية والأمانة والإخلاص للدولة .
بخلاف الحاقدين الذين تدل الدلائل على بغض مستحكم منهم للمسلمين،
كالذين قال الله فيهم: (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) (آل عمران: 118).
وقد بلغ التسامح بالمسلمين أن صرح فقهاء كبار -مثل الماوردي في "الأحكام السلطانية"- بجواز تقليد الذمي "وزارة التنفيذ". ووزير التنفيذ هو الذي يبلغ أوامر الإمام ويقوم بتنفيذها ويمضي ما يصدر عنه من أحكام.
وهذا بخلاف "وزارة التفويض" التي يكل فيها الإمام إلى الوزير تدبير الأمور
السياسية والإدارية والاقتصادية بما يراه.
وقد تولى الوزارة في زمن العباسيين بعض النصارى أكثر من مرة، منهم نصر بن هارون سنة 369 هـ، وعيسى بن نسطورس سنة 380هـ .
وقبل ذلك كان لمعاوية بن أبي سفيان كاتب نصراني اسمه سرجون.
وقد بلغ تسامح المسلمين في هذا الأمر أحيانًا إلى حد المبالغة والجور على حقوق المسلمين،
مما جعل المسلمين في بعض العصور، يشكون من تسلط اليهود والنصارى عليهم بغير حق.
وقد قال المؤرخ الغربي آدم ميتز في كتابه "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" (الجزء الأول ص105):
"من الأمور التي نعجب لها كثرة عدد العمال (الولاة وكبار الموظفين)
والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية، فكأن النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في بلاد الإسلام والشكوى من تحكيم أهل الذمة في أبشار المسلمين شكوى قديمة".
يقول أحد الشعراء المصريين (هو الحسن بن خاقان، كما في "حسن المحاضرة" للسيوطي 2 ص117 وانظر الحضارة الإسلامية لآدم ميتز ج1 ص118)
في يهود عصره وسيطرتهم على حكامه:
غاية آمالهم وقد ملكـوا
يهود هذا الزمان قد بلغــوا
ومنهم المستشار و الملك.
المجد فيهم والمال عندهمــو
تهودوا، قد تهود الفلك.
يا أهل مصر، إني نصحتُ لكم
وقال آخر بيتين تمثَّل بهما الفقيه الحنفي الشهير "ابن عابدين"
لما رأى من استئثار غير المسلمين في زمنه على المسلمين،
حتى إنهم يتحكمون في الفقهاء والعلماء وغيرهم. قال (حاشية ابن عابدين ج3 ص379):
وأمرّ منها رفعة السفهـاء.
أحبابنـا، نوب الزمان كثيرة
وأرى اليهود بذلة الفقهاء.
فمتى يفيق الدهر من سكراته
وهذا من أثر الجهل والانحراف، والاضطراب الذي أصاب المجتمع الإسلامي
في عصور الانحطاط، حتى انتهى الأمر إلى عزة اليهود وذلة الفقهاء.
وآخر ما سجَّله التاريخ من ذلك ما سارت عليه الدولة العثمانية في عهدها الأخير
بحيث أسندت كثيرًا من وظائفها الهامة والحساسة إلى رعاياها من غير المسلمين،
ممن لا يألونها خبالاً، وجعلت أكثر سفرائها ووكلائها في بلاد الأجانب من النصارى.
وصايا نبوية بأقباط مصر خاصة
وأما أقباط مصر فلهم شأن خاص ومنزلة متميزة، فقد أوصى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وصية خاصة، يعيها عقل كل مسلم ويضعها في السويداء من قلبه.
فقد روت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أوصى عند وفاته فقال: "الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانًا في سبيل الله"
(أورده الهيثمي في مجمع الزوائد ج10 ص62، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).
وفي حديث آخر عن أبي عبد الرحمن الحبلي ـ عبد الله بن يزيد ـ، وعمرو بن حريث،
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "...فاستوصوا بهم خيرًا، فإنهم قوة لكم، وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله" يعني قبط مصر (رواه ابن حبان في صحيحه كما في الموارد (2315) وقال الهيثمي ج10 ص64: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح).
وقد صدَّقَ الواقع التاريخي ما نبأ به الرسول - صلى الله عليه وسلم -،
فقد رحب الأقباط بالمسلمين الفاتحين، وفتحوا لهم صدورهم،
رغم أن الروم الذين كانوا يحكمونهم كانوا نصارى مثلهم،
ودخل الأقباط في دين الله أفواجًا، حتى إن بعض ولاة بني أمية فرض الجزية على مَن أسلم منهم،
لكثرة من اعتنق الإسلام.
مصر بوابة الإسلام إلى إفريقيا كلها، وغدا أهلها عُدَّة وأعوانًا في سبيل الله.
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إنكم ستفتحون أرضًا يُذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا".
وفي رواية: "إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط (القيراط: جزء من أجزاء الدرهم والدينار وغيرهما،
وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به،
بل هم لا يزالون كذلك بالنسبة للمساحة والصاغة وغيرها، وكل شيء قابل لأن يقسم إلى 24 قيراطًا)،
فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحمًا"، أو قال: "ذمة وصهرًا"
(الحديث بروايتيه في صحيح مسلم رقم (2543)، باب وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل مصر، وفي مسند أحمد ج5 ص174).
قال العلماء: الرحم التي لهم: كون هاجر أم إسماعيل عليه السلام منهم، والصهر: كون مارية أم إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم. (ذكر ذلك النووي في رياض الصالحين: حديث (334) ط . المكتب الإسلامي).
ولا غرو أن ذكر الإمام النووي هذا الحديث في كتابه "رياض الصالحين"
في باب: "بر الوالدين وصلة الأرحام" إشارة إلى هذه الرحم التي أمر الله ورسوله بها أن توصل بين المسلمين وبين أهل مصر، حتى قبل أن يسلموا.
وعن كعب بن مالك الأنصاري قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"إذا فُتِحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم دماً ورحمًا" . وفي رواية: "إن لهم ذمة ورحمًا"
يعني أن أم إسماعيل منهم .(أورده الهيثمي ج ـ 10 ص 62، وقال: رواه الطبراني
بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح، كما رواه الحاكم بالرواية الثانية
وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ج ـ 2 ص 753، وعند الزهري: "الرحم" بأن أم إسماعيل منهم).
والرسول يجعل للقبط هنا من الحقوق أكثر مما لغيرهم، فلهم الذمة أي عهد الله ورسوله
وعهد جماعة المسلمين وهو عهد جدير أن يُرعَى ويُصان .
ولهم رحم ودم وقرابة ليست لغيرهم، فقد كانت هاجر أم إسماعيل أبي العرب المستعربة
منهم بالإضافة إلى مارية القبطية التي أنجب منها عليه الصلاة والسلام ابنه إبراهيم.
ضمانات الوفاء بهذه الحقوق
لقد قررت الشريعة الإسلامية لغير المسلمين كل تلك الحقوق، وكفلت لهم كل تلك الحريات،
وزادت على ذلك بتأكيد الوصية بحسن معاملتهم ومعاشرتهم بالتي هي أحسن.
ولكن مَن الذي يضمن الوفاء بتنفيذ هذه الحقوق، وتحقيق هذه الوصايا؟
وبخاصة أن المخالفة في الدين كثيرًا ما تقف حاجزًا دون ذلك؟
وهذا الكلام حق وصدق بالنظر إلى الدساتير الأرضية والقوانين الوضعية
التي تنص على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات،
ثم تظل حبرًا على ورق، لغلبة الأهواء والعصبيات، التي لم تستطع القوانين أن تنتصر عليها؛
لأن الشعب لا يشعر بقدسيتها، ولا يؤمن في قرارة نفسه بوجوب الخضوع لها والانقياد لحكمها.
ضمان العقيدة
أما الشريعة الإسلامية فهي شريعة الله وقانون السماء، الذي لا تبديل لكلماته،
ولا جور في أحكامه، ولا يتم الإيمان إلا بطاعته، والرضا به .
قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب: 36).
ولهذا يحرص كل مسلم يتمسك بدينه على تنفيذ أحكام هذه الشريعة ووصاياها،
ليرضي ربه وينال ثوابه، لا يمنعه من ذلك عواطف القرابة والمودَّة، ولا مشاعر العداوة والشنآن
..قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) (النساء: 135).
وقال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون) (المائدة: 8).
ضمان المجتمع المسلم
والمجتمع الإسلامي مسئول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة، وتطبيق أحكامها في كل الأمور،
ومنها ما يتعلق بغير المسلمين ؛ فإذا قصَّر بعض الناس أو انحرف أو جار وتعدى،
وجد في المجتمع مَن يرده إلى الحق، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر،
ويقف بجانب المظلوم المعتدَى عليه، ولو كان مخالفًا له في الدين.
قد يوجد هذا كله دون أن يشكو الذمي إلى أحد، وقد يشكو ما وقع عليه من ظلم،
فيجد مَن يسمع لشكواه، وينصفه من ظالمه، مهما يكن مركزه ومكانه في دنيا الناس.
فله أن يشكو إلى الوالي أو الحاكم المحلي، فيجد عنده النُصفة والحماية،
فإن لم ينصفه فله أن يلجأ إلى مَن هو فوقه ؛ إلى خليفة المسلمين وأمير المؤمنين،
فيجد عنده الضمان والأمان، حتى لو كانت القضية بينه وبين الخليفة نفسه،
فإنه يجد الضمان لدى القضاء المستقل العادل، الذي له حق محاكمة أي مُدَّعىً عليه،
ولو كان أكبر رأس في الدولة (الخليفة)! وضمان آخر: عند الفقهاء،
الذين هم حماة الشريعة، وموجهو الرأي العام.
وضمان أعم وأشمل يتمثل في "الضمير الإسلامي" العام، الذي صنعته عقيدة الإسلام وتربية الإسلام، وتقاليد الإسلام.
والتاريخ الإسلامي مليء بالوقائع التي تدل على التزام المجتمع الإسلامي بحماية أهل الذمة
من كل ظلم يمس حقوقهم المقررة، أو حرماتهم المصونة، أو حرياتهم المكفولة.
فإذا كان الظلم من أحد أفراد المسلمين إلى ذمي، فإن والي الإقليم سرعان ما ينصفه
ويرفع الظلم عنه، بمجرد شكواه أو علمه بقضيته من أي طريق.
وقد شكا أحد رهبان النصارى في مصر إلى الوالي أحمد بن طولون أحد قوَّاده،
لأنه ظلمه وأخذ منه مبلغًا من المال بغير حق،
فما كان من ابن طولون إلا أن أحضر هذا القائد وأنَّبه وعزَّره وأخذ منه المال،
ورده إلى النصراني .
وقال له: لو ادعيتَ عليه أضعاف هذا المبلغ لألزمته به، وفتح بابه لكل متظلم من أهل الذمة،
ولو كان المشكو من كبار القوَّاد وموظفي الدولة.
وإن كان الظلم واقعًا من الوالي نفسه أو من ذويه وحاشيته ؛
فإن إمام المسلمين وخليفتهم هو الذي يتولى ردعه ورد الحق إلى أهله.
وأشهر الأمثلة على ذلك قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر ؛
حيث ضرب ابن عمرو ابن القبطي بالسوط وقال له: أنا ابن الأكرمين!
فما كان من القبطي إلا أن ذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في المدينة
وشكا إليه، فاستدعى الخليفة عمرو بن العاص وابنه،
وأعطى السوط لابن القبطي وقال له: اضرب ابن الأكرمين، فلما انتهى من ضربه
التفت إليه عمر وقال له: أدرها على صلعة عمرو فإنما ضربك بسلطانه، فقال القبطي:
إنما ضربتُ مَن ضربني . ثم التفت عمر إلى عمرو وقال كلمته الشهيرة:
"يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"؟.
ومما يستحق التسجيل في هذه القصة: أن الناس قد شعروا بكرامتهم وإنسانيتهم في ظل الإسلام،
حتى إن لطمة يُلطَمها أحدهم بغير حق، يستنكرها ويستقبحها، وقد كانت تقع آلاف مثل هذه الحادثة
وما هو أكبر منها في عهد الرومان وغيرهم، فلا يحرك بها أحد رأسًا، ولكن شعور الفرد بحقه وكرامته في كنف الدولة الإسلامية جعل المظلوم يركب المشاق،
ويتجشم وعثاء السفر الطويل من مصر إلى المدينة المنوَّرة، واثقاً بأن حقه لن يضيع،
وأن شكاته ستجد أذنًا صاغية.
وإذا لم يصل أمر الذمي إلى الخليفة، أو كان الخليفة نفسه على طريقة واليه،
فإن الرأي العام الإسلامي الذي يتمثل في فقهاء المسلمين، وفي المتدينين كافة يقف
بجوار المظلوم من أهل الذمة ويسانده.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك: موقف الإمام الأوزاعي من الوالي العباسي في زمنه،
عندما أجلى قومًا من أهل الذمة من جبل لبنان، لخروج فريق منهم على عامل الخراج .
وكان الوالي هذا أحد أقارب الخليفة وعصبته، وهو صالح بن عليٍّ بن عبد الله بن عباس .
فكتب إليه الأوزاعي رسالة طويلة، كان مما قال فيها:
"فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يُخرَجوا من ديارهم وأموالهم؟
وحكم الله تعالى: (ألا تزر وازرة وزر أخرى) (النجم: 38)، وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به .
وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قال:
"من ظلم ذميًا أو كلَّفه فوق طاقته فأنا حجيجه"… إلى أن يقول في رسالته:
"فإنهم ليسوا بعبيد، فتكونَ في حل من تحويلهم من بلد إلى بلد، ولكنهم أحرار أهلُ ذمة"
المفضلات