لابد أن أبدأ هذا المقال بتأكيد أهمية الحوار بين أبناء الوطن الواحد، وإلا سقطنا كلنا في صراع يستنزف قوانا. ومن هنا الإصرار علي التغيير والإصلاح الدستوري وإطلاق حرية تأسيس الأحزاب وإلغاء الأحكام العرفية، حتي يمكن لكل ألوان الطيف السياسي أن تعبر عن الإرادة الشعبية دون خوف من البطش الأمني ومن خلال حوار ديمقراطي سلمي. ولكن هذه الحرية، شأنها شأن أي شكل آخر من أشكال الحرية، ليست مطلقة، إذ إن أي تيار أو تنظيم سياسي يريد أن يشارك في العملية السياسية الديمقراطية عليه أن يلتزم بقواعد اللعبة، وبتداول السلطة، ولا يحاول أن يجلس علي العرش مدي الحياة، وكأنه إمبراطور الصين العظيم. ولذا من الضروري أن تُسن القوانين وتوضع الضوابط والآليات التي تضمن التزام الجميع بهذه القواعد.
كما أود أن أؤكد احترامي للسيد الوزير فاروق حسني، فأنا معجب به عن بعد، فلم ألتق به سوي بضعة لقاءات قليلة قصيرة عابرة في مناسبات رسمية. فأنا أعرف الجهود التي تبذلها وزارته في عملية ترميم الآثار الفرعونية والقبطية والإسلامية وبناء المتاحف وحماية الآثار الفرعونية من السرقة.
بعد كل هذه المقدمات أحب أن أتوجه إلي تصريحات السيد الوزير بخصوص الحجاب، وأنا مثله، ومثل الكثيرين من أبناء جيلي، لا أعرف الكثير عن الرأي الفقهي في مسالة الحجاب. وحين أقول «الرأي الفقهي»، فأنا لا أتحدث عن «احتكار السلطة والتشريع» كما قد يظن البعض، فأنا كمتخصص في النقد الأدبي، أدرك تماماً ضرورة أن يكون الناقد علي إلمام بقواعد النقد ولغته وتراثه ونظرياته وآلياته حتي يكون مؤهلاً لأن يقدم رؤية مركبة مستندة إلي قراءة متفحصة للنص الذي يدرسه، وإلا كان نقده عبارة عن انطباعات متناثرة ذاتية. وأزعم أنني متابع جيد للحركة الفنية التشكيلية، ومعجب بأعمال كثير من الفنانين، ولكنني حينما يسألني أحد الصحفيين عن رأيي في هذا الفنان أو ذاك، فإنني أنبهه أنني لست متخصصاً، وأن ما أقوله هو رأي انطباعي لأنني غير مؤهل لإصدار حكم نقدي مركب، بعد كل هذه التحفظات أدلي برأيي باعتباري أحد المهتمين الهواة وحسب. وهذه ليست دعوة لاحتكار السلطة النقدية وإنما توضيح لحدود أحكامي التي أصدرها في هذا المجال.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للنقد الأدبي والنقد الفني، فلابد وأن نطبق نفس القواعد علي أمر في أهمية الشؤون الدينية، أليس كذلك؟! لكل هذا سألت أحد أصدقائي عن الرأي الفقهي في قضية الحجاب، وصديقي هذا ليس من رجال الدين ولكنه يعرف هذه الأمور أكثر مني فقال: «الحديث النبوي الأكثر شيوعاً حول شكل الحجاب وحدوده هو حديث النبي (صلي الله عليه وسلم) للسيدة أسماء بنت أبي أبكر الصديق رضي الله عنهما، وهو بالمعني: إذا بلغت المرأة المحيض، فلا ينبغي أن يري منها إلا هذا وهذا، وأشار عليه الصلاة والسلام إلي الوجه والكفين». هذه الرواية أو الحديث فيه ضعف من حيث أنه «منقطع»، أي أن الصحابي الذي روي عن السيدة أسماء مجهول.
ثم استطرد صديقي قائلاً: «بيد أن التوصيف العام لما ينبغي أن يستر من المرأة - في رواية أسماء - متفق بشكل عام مع التوجيهات والأوامر القرآنية حول الموضوع». ومنها الآية التالية: «وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن علي جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ... ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلي الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون» (سورة النور: ٣١). والجيوب هي الفتحات، فتحات العنق والصدر، والإبطين، والساقين. والخمر جمع خمار هي أغطية الرأس والصدر.
ومن الآيات الأخري آية «وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي ...» (الأحزاب: ٣٣)، وآية «يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدني أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما» (الأحزاب: ٥٩). والجلابيب، كما نعرف، هي القمصان الطويلة المسدلة إلي القدمين.
وقد استنتج صديقي من كل هذا ما يلي: «هذه الآيات مجتمعة تحدد الإطار العام للستر المنافي لتبرج الجاهلية والمانع للإثارة والاستفزاز الذي يختزل إنسانية المرأة وعقلها وشخصيتها ويلغي دورها الاجتماعي والإنساني إلي مجرد مصدر للاستفزاز الغرائزي». ويجب أن أشير إلي أن هناك من المدافعين عن الحجاب من يري أنه بالفعل فرض ولكنه جزء من كل، وأنه في إطار فقه الأولويات لا يعد أولوية كبري، فهناك أولويات إسلامية أخري مثل إقامة العدل في الأرض والحرب ضد الفساد ومقاومة المستعمر..إلخ. وكما قال فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين: «الجميع يعلم أن الحجاب فريضة إسلامية، ومع هذا فالقضية أخذت أكثر مما تستحق. فمصر تعاني من مشاكل وأزمات أكبر وأخطر ألف مرة من الحجاب مثل الاستبداد والفقر والبطالة والفساد والتدهور الخطير في التعليم والصحة».
وحيث إن الوزير فاروق حسني ليس من المتفقهين في أمور الدين مثلي، فأنا أصدقه تماماً حين قال إنه لم يكن يصدر حكماً دينياً. إذن، كيف يمكن تصنيف تصريحه أو دردشته (علي حد قوله)؟ أعتقد أنني لن أجانب الصواب كثيراً حين أقول إنه كان يصدر حكماً ثقافياً حضارياً، فالتخلف مقولة اجتماعية حضارية، والجاهلية والردة تماماً مثل النهضة والاستنارة هي مصطلحات ذات مضمون ثقافي وحضاري غير ديني في الخطاب التحليلي المصري المعاصر. ولذا فلنتناول الموضوع من هذا المنظور!
إن من يصفون الحجاب بأنه مظهر من مظاهر التخلف يزنون كلماتهم، ووزير الثقافة واحد منهم. وحيث إنه يحاول أن يدفع هذا البلد في طريق التقدم، فإنه بلا شك يعرف مؤشرات التقدم، ومن ثم يعرف أيضاً مؤشرات التخلف، وقد جعل الحجاب إحداها!
ولنحاول أن نحلل خطاب السيد الوزير وكل من يحذو حذوه. إنهم يتحدثون عن حرية التعبير والإبداع، باعتبارهما «مطلق» لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهذه صيحة يطلقونها في وجه كل من يتجرأ ويحتج علي رأي ما. قد لا يعرف الكثيرون أن أحد اهتماماتي هو تطور الأزياء، وبالذات أزياء النساء، إذ أحاول رصد تطورها كتعبير عن تطور الرؤية للإنسان في الغرب. وقد لاحظت أن ملابس النساء تزداد في الغرب انكماشاً يوماً بعد يوم من الميني سكيرت إلي المايكرو إلي البلوزة التي تكشف البطن
demi-ventre إلي أن وصلنا إلي ما سماه أحد
الصحفيين (the well-undressed woman أي المرأة قليلة الهندام، في مقابل المرأة حسنة الهندام (the well-dressed woman. ولعل أحسن ترجمة لهذه العبارة، هي عبارة عادل إمام الشهيرة «لابسة من غير هدوم». وحين أخبرت أحد مصممي الأزياء عن اعتراضي علي الأزياء التي لا علاقة لها بأي دين أو ثقافة أو ذوق، قال: إن هذه أعمال فنية، وأن اعتراضي هذا يعد شكلاً من أشكال الرقابة علي حرية الفكر والإبداع، هذا المطلق العلماني الجديد. وهنا سألته: أليس من حق المجتمع أن يدافع عن نفسه ضد أي اتجاهات تفكيكية عدمية؟ وقد صُدم صاحبنا من هذا الطرح الذي لم يطرأ له علي بال، لأنه لا يدرك (شأنه شأن المثقفين الذين يدافعون عن الحرية المطلقة للإبداع) إنها رؤية برجوازية تجعل من الفرد مرجعية ذاته (تماماً مثل رأس المال الذي يتحرك في السوق بكامل حريته لا يخضع إلا لقوانين مادية آلية غير إنسانية غير اجتماعية هي قوانين العرض والطلب والربح والخسارة). ولكن المجتمع ليس هو السوق، فالمجتمع كيان مركب متماسك يتسم بقدر من الوعي، وله أسبقيته علي الفرد مهما بلغت درجة إبداع هذا الفرد، فالفرد ينتمي إلي المجتمع وليس المجتمع هو الذي ينتمي إلي الفرد، إلا إذا كان مجتمعاً شمولياً. إن بعض المثقفين الثوريين انساقوا وراء هذه الدعوة للحرية المطلقة للإبداع والمبدعين، دون أن يدركوا تضميناتها الفلسفية المعادية للإنسان وللمجتمع. عندئذ لزم مصصم الأزياء الصمت، خاصة وأنه كان يعرف أن خمسة من كبار مصممي الأزياء ماتوا منذ عدة أعوام - من مرض الإيدز - وكانوا جميعهم من «الشذاذ جنسياً» فسارعت مصانع الأزياء بالتعمية علي الخبر حتي لا تتأثر أرباحهم سلباً، أي أنهم أدركوا البعد غير الاجتماعي غير الأخلاقي غير الإنساني لإبداع مصممي الأزياء، باعتباره إبداعاً لا ينتمي إلي المجتمع.
وهؤلاء الذين يدافعون عن حرية التعبير والذين جعلوا الفن مطلقاً، سحبوا الإطلاق من الدين وأي قيم مطلقة (أخلاقية كانت أم إنسانية) وجعلوا من الدين شأناً خاصاً، وأمراً من أمور الضمير، وتصوروا أن الدين يوجد في قسم خاص في وجدان الإنسان منفصل تماماً عن عالم السياسة وعالم الاقتصاد وعالم الاجتماع الإنساني، (وكأن الضمير الفردي لا علاقة له برقعة الحياة العامة). ولذا حين يتم تناول ظاهرة ما، فهي إما أن تكون ظاهرة دينية أو غير دينية، انطلاقاً من تعريف العلمانية أنها فصل الدين عن الدولة (أي الدنيا ومجمل حياة الإنسان). ولكن هذا رؤية سوقية للعالم وللنفس البشرية، فالإنسان كائن مركب، وكذا الفعل الإنساني. فالديني يتداخل مع السياسي والاقتصادي والنفسي. وهنا يمكن أن نطرح السؤال التالي: الفدائي الفلسطيني الذي يذهب ليهاجم مستوطنة إسرائيلية: هل يفعل ذلك لأسباب دينية أم أسباب اقتصادية أم أسباب اجتماعية أم نفسية؟ الرد السليم علي هذا السؤال أن دوافعه مركبة، فهو حين يقوم بفعله الفدائي فإن ما يحركه هو كل هذه الدوافع مجتمعة. ويري هؤلاء الذين يفصلون الدين عن بقية مجالات الحياة، أنه لو ظهر في الحياة العامة فإن هذا مظهر من مظاهر التخلف، وفي ذهنهم بطبيعة الحال المشروع العلماني الغربي وما يسمي مشروع النهضة العربي الذي جعل شعاره اللحاق بأوروبا، بحلوها ومرها، وخيرها وشرها، وكأننا ببغاءات عقلها في أذنيها. ومن هنا كان الاقتراح المشؤوم الخاص بالاحتفال بالذكري المئوية الثانية للحملة الفرنسية علي مصر وغزو قوات الثورة الفرنسية لمصر المحروسة، باعتبار أن هذا هو بداية التقدم نحو الغرب والاستنارة علي طريقة الغرب. لم يدرك هؤلاء أن الحملة الفرنسية علي مصر هي بداية الاستعمار الغربي لبلادنا الذي يحاول تحطيم تراثنا وتحويلنا إلي مادة استعمالية يوظفها لصالحه. لقد تناسوا المقاومة النبيلة التي أبداها الشعب المصري لهذا الاستعمار وتناسوا ثورة القاهرة الأولي والثانية التي اندلعت من الأزهر، كما تناسوا الأزهري سليمان الحلبي الذي اغتال كليبر قائد الحملة، وعلماء الأزهر الذين رفضوا التعاون مع الاستعمار. لقد أخرجوا الحملة الفرنسية من سياقها التاريخي والاجتماعي المصري والفرنسي، وحين يفعل أي باحث أو مفكر ذلك يصبح بوسعه فرض أي معني يشاء علي الظاهرة التي يدرسها، ولذا حولوا الحملة الفرنسة إلي مؤشر علي التقدم وحولوا المقاومة (بالتالي) إلي مظهر من مظاهر التخلف. (وهذا لا يختلف كثيراً عما يفعله الغرب الآن مع المقاومة حين يسمي المقاومة الفلسطينية «إرهاباً»، ويصنف حزب الله وحماس والجهاد علي أنها «منظمات إرهابية»، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
وأعتقد أن أصحاب هذا الخطاب قد فعلوا شيئاً من هذا القبيل، حين جعلوا من الحجاب رمزاً للتخلف. فقد نزعوه من سياقه الاجتماعي والتاريخي والإنساني، واستقوا مؤشرات التقدم والتخلف من النموذج الغربي. وهنا يمكنني أن أسأل هؤلاء: ما مؤشرات التقدم بالنسبة لهم؟ السؤال هنا خطابي، فالمؤشرات هنا واضحة وهو أن خلع الحجاب علامة علي التقدم والاستنارة، أما ارتداء الحجاب فهو علامة علي التخلف والردة والظلمة..إلخ. ولكن هل المسألة بهذه البساطة والسذاجة؟ فلنأخذ علي سبيل المثال لا الحصر فتاة متبرجة متحررة ومستنيرة لا ترتدي الحجاب، ترتاد نادي الجزيرة أو أي ناد آخر، وتلعب التنس بالشورت، وتلبس المايوه، وترتاد قاعات الديسكو، وتجيد التحدث بلغة أعجمية أو لغة عربية معظم مفرداتها إنجليش أو فرنش، تماماً مثل مذيعات قناة LBC التي يطلق عليها بعض المصريين قناة «إلبسي» إشارة إلي المذيعات الجميلات اللبنانيات والتي تحاول بعض مذيعاتنا اللحاق بهن وبركب التقدم. مثل هذه الفتاة التي تتمتع بمستويات استهلاكية عالية ولا تعرف شيئاً عن مصر الحقيقية، مصر الفقراء والكادحين والمتعبين، ولا تشترك بطبيعة الحال في أي حركة سياسية، هي أكثر تقدماً من فتاة محجبة تعيش في مصر الحقيقية بين أهلها وتعرف همومهم، ولا تتمتع بمعدلات الاستهلاك الشيطانية التي أمسكت بتلابيب المجتمع المصري والتي ستقضي علي كل محاولات التنمية؟ وغالبية المحجبات يشاركن في العمل العام، السياسي والمدني. ألم يلاحظ المتحدثون عن الحجاب باعتباره علامة التخلف، الوجود الملحوظ للمحجبات في المظاهرات؟ ألم يشاهدوا الصورة التاريخية لبعض المحجبات وهن يصعدن علي السلم الخشبي للوصول إلي لجنة الانتخابات وصندوق الاقتراع، بعد أن تصدي لهن رجال الأمن الحكومي؟ ألم يسمعوا عن تلك المحجبات اللائي اضطررن لخلع الحجاب حتي يمكنهن الوصول لصندوق الاقتراع؟ حينما أذهب إلي دمنهور (المدينة التي نشأت فيها) أري المجتمع المدني هناك في غاية الحيوية والنشاط، وكثير من القائمين علي بعض جمعياته (غير الرسمية وغير المعلنة) فتيات محجبات. أعرف إحدي هذه الجمعيات وتخصصها هو توفير أجهزة غسيل الكلي لمرض الفشل الكلوي. وتقوم تلك الفتيات المحجبات بجمع الأموال من القادرين، بل ومن بعض الأقارب المقيمين في الولايات المتحدة لتمويل مشروعهم الخيري. بالله عليكم، من هو أكثر تقدماً، فتاة نادي الجزيرة المتحررة وأمثالها أم هؤلاء المحجبات؟
يجب أن ينظر إلي الحجاب في سياق اجتماعي وتاريخي، وإذا كان الديني يختلط بالسياسي بالاقتصادي بالاجتماعي بالتاريخي كما أسلفت، فيجب أن ننظر للحجاب بهذه الطريقة. فمن ناحية يري الكثيرون أنه فرض ديني، ولكن يجب ألا ننسي أنه أصبح أيضاً عرفاً اجتماعياً. ويري علماء الاجتماع أن كل مجتمع له dress code شفرة أو لغة الملابس الخاصة به، وهي لغة، شأن أي لغة، أمر اجتماعي، فالمجتمع هو الذي يحددها وليس الأفراد. وينضوي تحت هذا ما يكشف وما لا يكشف من جسد الرجل أو جسد المرأة، وما يلبس وما لا يلبس في كل مناسبة. هل كانت إحدي الفتيات تتجرأ علي لبس بلوزة تكشف عن بطنها منذ عامين في الشرق أو الغرب، والآن هل يجرؤ أحد أن يعترض علي هذا الزي؟! ولذا فإن شكوي البعض من أنهن يضطررن إلي ارتداء الحجاب بسبب الضغوط «الدينية» عليهن، قد يكن علي حق، وإن كان عليهن أن يدركن أن هذه الضغوط قد تكون دينية في الأصل، ولكنها تحولت إلي عرف اجتماعي ومن ثم أصبحت الضغوط اجتماعية. هل تجرؤ سيدة أن تذهب إلي مأتم مرتدية فستاناً أحمر بهيجاً، أو أن تذهب إلي عرس ترتدي فستاناً أسوداً حزيناً؟
والحجاب إلي جانب كل هذا تعبير عن التمسك بالهوية (أعرف بعض الصديقات العلمانيات اللائي تحجبن تمسكا بالهوية، وهو ما حدث أيضاً في إيران أثناء الثورة الإسلامية ضد شاه إيران)، وهو كذلك تعبير عن مقاومة الاستعمار الأجنبي. وهناك كذلك الجانب الاقتصادي، فالحجاب دون شك تعبير عن رفض النموذج الاستهلاكي (نموذج الموضات وضرورة تبني الجديد ونبذ القديم، بناء علي أوامر القرد الأعظم في باريس أو لندن أو إيطاليا). حينما عدنا أنا وزوجتي من الولايات المتحدة عام ١٩٧٩، كان الانفتاح قد اكتسح مصر المحروسة، وكان راتبنا الشهري لا يتجاوز ١٨٠ جنيهاً مصرياً. وحين ذهبت زوجتي لشراء حقيبة وحذاء، وجدت أن مجموع ثمنهما هو ١٥٠ جنيهاً بالتمام والكمال (هذا أيام الرخص)، فعادت وقالت: إن الفتيات في مصر أمامهن حل واحد من حَلَين لا ثالث لهما لمواجهة هذا التضخم: إما الحل التايلاندي (أي أن يبعن أنفسهن كما حدث في تايلاند) أو الحل الإسلامي، أي ارتداء الحجاب، وتنبأت بأن الأرجح هو انتشار الحجاب. وهي بذلك اكتشفت البعد الاقتصادي في ظاهرة الحجاب، ولكنها لم تردها إليه، فهو بعد واحد ضمن أبعاد أخري، لأنه لو كان البعد الاقتصادي هو البعد الوحيد الحاكم، فإن الحل التايلاندي أضمن وعائده أسرع. ولكنهن اخترن الحل الإسلامي لأن الاسلام هو الإطار المرجعي لجماهير هذا المجتمع (هو عقيدة بالنسبة للمسلمين وحضارة بالنسبة للمسلمين وغير المسلمين) وهو الذي حماها من الاختراق الاستعماري والاستهلاكي.
إن اختزال الحجاب في البعد الديني، ثم عزل البعد الديني عن الأبعاد الاجتماعية والإنسانية الأخري، فيه دليل علي القصور التحليلي لمن حولوه إلي مؤشر علي التخلف. حينما كنت صبياً في دمنهور، ذهبت في رحلة مدرسية إلي القاهرة، وبهرت بلافتات النيون، فقررت أن أجعل من عدد لافتات النيون مؤشراً علي التقدم. وكنت أقوم بإحصائها في دمنهور كل شهر، لأنني تصورت أنه كلما ازداد عدد لافتات النيون فيها، كلما ازدادت تقدماً واقتراباً من نموذج القاهرة المضيئة، (أي أوروبا). ولكنني نضجت واكتشفت اختزالية مؤشري الصبياني المضحك.
جاء في العهد الجديد (رسالة بولس الأولي للكورنثيين) ما معناه «حينما كنت طفلاً، كنت أتحدث كالأطفال وأفكر كالأطفال، ولكنني بعد أن أصبحت رجلاً، تركت خلف ظهري الأشياء الطفولية»، فلماذا بالله يا إخوتي لا ننضج وننفض عن أنفسنا المؤشرات الاختزالية، وننظر لواقعنا بعيون لا تغشيها غشاوات أجنبية تعمينا عن رؤية الحقيقة الثرية المركبة بكل أبعادها المادية وغير المادية المتداخلة.
والله أعلم.
نقلا عن جريدة المصري اليوم
http://www.almasry-alyoum.com/articl...rticleID=39427
المفضلات