لا يُفتى ومالك في المدينة
إلى كل مدّاح وممدوح
قتل المدّاحون الممدوحين فقالوا لهم: لا يُفتى وأمثالكم في المدينة
معذرة أخي الحبيب لستَ بمالك ولسنا أهل المدينة
إخوتي الكرام
كان أحد الولاة يزور الإمام مالك بن أنس :radia-ico في بيته، ويسأله النصيحة... فأثنى على الوالي بعض الحاضرين، فغضب مالك، وكان بعيد الغضب، وصاح في الوالي - وقلما كان يصيح -: "إياك أن يغرك هؤلاء بثنائهم عليك، فإن من أثنى عليك وقال فيك من الخير ما ليس فيك، أوشك أن يقول فيك، من الشر ما ليس فيك .. إنك أنت أعرف بنفسك منهم ..
ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احثوا التراب في وجوه المداحين"
وكان عليه الصلاة والسلام يعظ صاحبته أن كثرة المدح تضيع الممدوح.
========
جاء في كتاب إحياء علوم الدين /أبو حامد الغزالي "الآفة الثامنة عشرة المدح : وهو منهي عنه في بعض المواضع. أما الذم فهو الغيبة والوقيعة وقد ذكرنا حكمها.
والمدح يدخله ست آفات: أربع في المادح، واثنتان في الممدوح.
فأما المادح،
فالأولى: أنه قد يفرط فينتهي به إلى الكذب. قال خالد بن معدان: من مدح إماماً أو أحداً بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه.
والثانية: أنه قد يدخله الرياء فإنه بالمدح مظهر للحب، وقد لا يكون مضمراً له ولا معتقداً لجميع ما يقوله فيصير به مرائياً منافقاً.
الثالثة: أنه قد يقول ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الإطلاع عليه، وروي أن رجلاً مدح رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه السلام "ويحك قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح" ثم قال "إن كان أحدكم لا بد مادحاً أخاه فليقل أحسب فلاناً ولا أزكى على الله أحداً حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك " وهذه الآفة تتطرق إلى المدح بالأوصاف المطلقة التي تعرف بالأدلة كقولة إنه متق وورع وزاهد وخير وما يجري مجراه، فأما إذا قال رأيته يصلي بالليل ويتصدق ويحج فهذه أمور مستيقنة. ومن ذلك قوله إنه عدل رضا فإن ذلك خفي فلا ينبغي أن يجزم القول فيه إلا بعد خبرة باطنة.
سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يثني على رجل فقال: أسافرت معه؟ قال: لا، قال: أخالطته في المبايعة والمعاملة؟ قال: لا. قال: فأنت جاره صباحه ومساءه؟ قال: لا. فقال: والله الذي لا إله إلا هو لا أراك تعرفه.
الرابعة: أنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق " وقال الحسن: من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصي الله تعالى في أرضه، والظالم الفاسق ينبغي أن يذم ليغتم ولا يمدح ليفرح.
وأما الممدوح فيضره من وجهين؛
أحدهما: أنه يحدث فيه كبراً وإعجاباً وهما مهلكان. قال الحسن رضي الله عنه كان عمر رضي الله عنه جالساً ومعه الدرة والناس حوله إذ أقبل الجارود بن المنذر، فقال رجل: هذا سيد ربيعة، فسمعها عمر ومن حوله وسمعها الجارود، فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال: ما لي ولك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما لي ولك أما سمعتها؟ قال: سمعتها فمه، قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطئ منك.
الثاني: هو أنه إذا أنثى عليه بالخير فرح به وفتر ورضي عن نفسه ومن أعجب بنفسه قل تشمره وإنما يتشمر للعمل من يرى نفسه مقصراً. فأما إذا انطلقت الألسن بالثناء عليه ظن أنه قد أدرك ولهذا قال عليه السلام "قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح" وقال صلى الله عليه وسلم "إذا مدحت أخاك في وجهه فكأنما أمررت على حلقه موسى وميضاً " وقال أيضاً لمن مدح رجلاً "عقرت الرجل عقرك الله " وقال مطرف: ما سمعت قط ثناء ولا مدحة إلا تصاغرت إلى نفسي. وقال زياد بن أبي مسلم: ليس أحد يسمع ثناء عليه أو مدحة إلا تراءى له الشطيان، ولكن المؤمن يراجع، فقال ابن المبارك: لقد صدق كلاهما أما ما ذكره زياد فذلك قلب العوام، وأما ما ذكره مطرف فذلك قلب الخواص. وقال صلى الله عليه وسلم "لو مشى رجل إلى رجل بسكين مرهف كان خيراً له من أن يثني عليه في وجهه
وقال عمر رضي الله عنه: المدح هو الذبح. وذلك لأن المذبوح هو الذي يفتر عن العمل والمدح يوجب الفتور، أو لأن المدح يورث العجب والكبر وهما مهلكان كالذبح؛ لذلك شبهه به.
فإن سلم المدح من هذه الآفات في حق المادح والممدوح لم يكن به بأس بل ربما كان مندوباً غليه. ولذلك أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة فقال "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالم لرجح " وقال في عمر "لو لم أبعث لبعثت يا عمر "
وأي ثناء يزيد على هذا؟ ولكنه صلى الله عليه وسلم قال عن صدق وبصيرة. وكانوا رضي الله عنهم أجل رتبة من أن يورثهم ذلك كبراً وعجباً وفتوراً.
بل مدح الرجل نفسه قبيح لما فيه من الكبر والتفاخر إذ قال صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" أي لست أقول هذا تفاخراً كما يقصد الناس بالثناء على أنفسهم. وذلك لأن افتخاره صلى الله عليه وسلم كان بالله وبالقرب من الله لا بولد آدم وتقدمه عليه؛ كما أن المقبول عند الملك قبولاً عظيماً إنما يفتخر بقبوله إياه وبه يفرح لا بتقدمهعلى بعض رعاياه. وبتفصيل هذه الآفات تقدر على جمع بين ذم المدح وبين الحث عليه قال صلى الله عليه وسلم "وجبت لما أثنوا على بعض الموتى. وقال مجاهد: إن لبني آدم جلساء من الملائكة فإذا ذكر الرجل المسلم أخاه المسلم بخير قالت الملائكة: ولك بمثله، وإذا ذكره بسوء قالت الملائكة: يا ابن آدم المستور عورتك أربع على نفسك واحم الله الذي ستر عورتك. فهذه آفات المدح.
بيان ما على الممدوح
اعلم أن على الممدوح أن يكون شديد الاحتراز عن آفة الكبر والعجب وآفة الفتور، ولا ينجو منه إلا بأن يعرف نفسه ويتأمل ما في خطر الخاتمة ودقائق الرياء وآفات الأعمال، فإنه يعرف من نفسه ما لا يعرفه المادح ولو انكشف له جميع أسراره وما يجري على خواطره لكف المادح عن مدحه وعليه أن يظهر كراهة المدح بإذلال المادح. قال صلى الله عليه وسلم "احثوا التراب في وجوه المادحين " وقال سفيان بن عيينة: لا يضر المدح من عرف نفسه. وأثنى على رجل من الصالحين فقال: اللهم إن هؤلاء لا يعرفوني وأنت تعرفني. وقال آخر لما أثنى عليه: اللهم إن عبدك هذا تقرب إلي بمقتك وأنا أشهدك على مقته. وقال علي رضي الله عنه لما أثنى عليه: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيراً مما يظنون.
وأثنى رجل على عمر رضي الله عنه فقال: أتهلكني وتهلك نفسك؟ وأثنى رجل على علي كرم الله وجهه في وجهه -وكان قد بلغه أنه يقع فيه- فقال: أنا دون ما قلت وفوق ما في نفسك." أهـ.
منقول للأفادة ................ يتبع باذن الله
المفضلات