اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا الكتاب قد عالج مسألة هي من أخطر المسائل الاعتقادية التي تفرق المسلمون حولها منذ أن وجدت المعتزلة حتى يومنا هذا ألا وهي مسألة علو الله عز وجل على خلقه الثابتة بالكتاب والسنة المتواترة المدعم بشاهد الفطرة السليمة وما كان لمسلم أن ينكر مثلها في الثبوت لولا أن بعض الفرق المنحرفة عن السنة فتحوا على أنفسهم وعلى الناس من بعدهم باب التأويل فلقد كاد الشيطان به لعدوه الإنسان كيدا عظيما ومنعهم به أن يسلكوا صراطا مستقيما كيف لا وهم قد اتفقوا على أن الأصل في الكلام أن يحمل على الحقيقة وأنه لا يجوز الخروج عنها إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة أو لقرينة عقلية أو عرفية أو لفظية كما هو مفصل في محله ومع ذلك فإنك تراهم يخالفون هذا الأصل الذي أصلوه لأتفه الأسباب وأبعد الأمور عن منطق الإنسان المؤمن بكلام الله وحديث نبيه حقا فهل يستقيم في الدنيا فهم أو تفاهم إذا قال قائل مثلا : ( جاء الأمير ) فيأتي متأول من أمثال أولئك المتأولين فيقول في تفسير هذه الجملة القصيرة : يعني جاء عبد الأمير أو نحو ذلك من التقدير . فإذا أنكرت عليه ذلك أجابك بأن هذا مجاز فإذا قيل له : المجاز لا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة وهي ممكنة هنا أو لقرينة لا قرينة هنا ( ) سكت أو جادلك بالباطل
وقد يقول قائل : وهل يفعل ذلك عاقل ؟ قلت : ذلك ما صنعه كل الفرق المتأولة الذين ينكرون حقائق الأسماء والصفات الإلهية من المعتزلة وغيرهم ممن تأثر بهم من الخلف ولا نبعد بك كثيرا بضرب الأمثال وإنما نقتصد مثلين من القرآن الكريم أحدهما يشبه المثال السابق تماما والآخر له صلة بصلب موضوع الكتاب
الأول : قوله تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا } فقيل في تأويلها : ( وجاء ربك ) وقيل غير ذلك من التأويل . ونحو كذلك أولوا قوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر } . فقال بعضهم : يأتيهم الله بظلل . فنفى بذلك حقيقة الإتيان اللائق بالله تعالى بل غلا بعض ذوي الأهواء فقال : ( قوله تعالى : { هل ينظرون } حكاية عن اليهود والمعنى أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ليروه جهرة لأن اليهود كانوا مشبهة يجوزون على الله المجيء والذهاب ) نقله الكوثري في تعليقه على ( الأسماء والصفات ) ( ص 447 - 448 ) عن الفخر الرازي وأقره
فتأمل - هداني الله وإياك - كيف أنكر مجيء الله الصريح في الآيتين المذكورتين . وهو إنما يكون يوم القيامة كما جاء في تفسير ابن جرير لقوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } فذكر ( 12 / 245 - 246 ) في قوله : { أو يأتي ربك } عن قتادة وابن جريج : يوم القيامة ونحوه عن ابن مسعود وغيره . في ( الدرر المنثور ) ( 1 / 241 ) وانظر كلمة الإمام ابن راهويه في إثبات المجيء في الفقرة الآتية من الكتاب ( 213 )
فنفى هذا المتأول ببركة التأويل إتيان الله ومجيئه يوم القيامة الثابت في هذه الآيات الكريمة والأحاديث في ذلك أكثر وأطيب ولم يكتف بهذا بل نسب القول بتجويز المجيء على الله إلى اليهود وأن الآية نزلت في حقهم ضلال وكذب أما الضلال فواضح من تحريف الآيات المستلزم الطعن في الأئمة الذين يؤمنون بمجيء الله تعالى يوم القيام . وأما الكذب فإن أحدا من العلماء لم يذكر أن الآية نزلت في اليهود بل السياق يدفع ذلك قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان . فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا الله عزيز حكيم . هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام . . . } [ سورة البقرة : 208 - 211 ]
قلت : فأنت ترى أن الخطاب موجه للمؤمنين ولذلك قال ابن جرير في تفسيره ( 4 / 259 ) لقوله تعالى : { فإن زللتم . . } : ( يعني بذلك جل ثناؤه فإن أخطأتم الحق فضللتم عنه وخالفتم الإسلام وشرائعه من بعد ما جاءتكم حججي وبينات هداي واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنون - فاعلموا أن الله ذو عزة . . . )
نعم قد روى ابن جرير ( 4 / 255 ) عن عكرمة قوله { ادخلوا في السلم كافة } قال : نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام و و . . . كلهم من يهود قالوا : يا رسول الله يوم السبت كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه . . . فنزلت )
قلت : وهذا مع أنه في مؤمني اليهود لا يصح إسناده لإرساله ولو صح لم يجز القول بأنها ( نزلت في حق اليهود ) لأنها تعني عند الإطلاق كفارهم والواقع خلافه فتأمل هذا رحمنا الله وإياك هل تجد في هذه الآيات المصرحة بإتيان الله ومجيئه قرينة من تلك القرائن الثلاث تضطر السامع إلى فهم ذلك على نحو مجيء المخلوق وهذا تشبيه حقا اضطرهم هذا الفهم الخاطئ إلى إنكاره ونسبته إلى اليهود وصاروا إلى التأويل .
وكان بوسعهم أن يثبتوا لله تعالى هذه الصفة كما أثبتها السلف دون تشبيه كما قال تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وإلا فهم على ذلك سيتأولون السمع والبصر أيضا لأن الله تعالى قد أثبت للمخلوق سمعا وبصرا في القرآن والسنة فقد يقولون إننا إذا أثبتنا السمع والبصر لله شبهناه بمخلوقاته وهذا ما فعلته المعتزلة تماما فإنهم تأولوهما بالعلم تنزيها له تعالى عن المشابهة زعموا وبذلك آمنوا بالطرف الأول من الآية { ليس كمثله شيء ) ولم يؤمنوا بالطرف الآخر منها { وهو السميع العليم } وأما الأشاعرة وغيرهم من الخلف فقد آمنوا بكل ذلك هنا فجمعوا بين التنزيه والإثبات قائلين سمعه ليس كسمعنا وبصره ليس كبصرنا .
فهذا هو الحق وكان عليهم طرد ذلك في كل ما وصف الله به نفسه فيقال : مجيئه تعالى حق ولكنه ليس كمجيئنا ونزوله إلى السماء الدنيا حق لتواتر الأحاديث بذلك كما يأتي في الكتاب ولكن ليس كنزولنا وهكذا في كل الصفات ولكنهم لم يفعلوا ذلك مع الأسف في كثير من الصفات منها ما نحن فيه فتأولوه بما سبق أو بغيره ( ) ومنها الاستواء الآتي ذكره قريبا هذا هو المثال الأول :
وأما المثال الآخر فقوله تعالى : { إن ربكم الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } وقوله فتأولوه ( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش ) . فقد تأول الخلف الاستواء المذكور في هاتين الآيتين ونحوهما بالاستيلاء وشاع عندهم في تبرير ذلك إيرادهم قول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق بغير سيف ودم مهراق
متجاهلين اتفاق كلمات أئمة التفسير والحديث واللغة على إبطاله وعلى أن المراد بالاستواء على العرش إنما هو الاستعلاء والارتفاع عليه كما سترى أقوالهم مروية في الكتاب عنهم بالأسانيد الثابتة قرنا بعد قرن وفيهم من نقل اتفاق العلماء عليه . مثل الإمام إسحاق بن راهويه ( الترجمة 67 ) والحافظ ابن عبد البر ( الترجمة 151 ) وكفى بهما حجة في هذا الباب
ومع ذلك فإننا لا نزال نرى علماء الخلف - إلا قليلا منهم - سادرين في مخالفتهم للسلف في تفسيرهم لآية الاستواء وغيرها من آيات الصفات وأحاديثها
وقد يتساءل بعض القراء عن سبب ذلك فأقول :
ليس هو إلا إعراضهم عن اتباع السلف ثم فهمهم - خطأ - الاستعلاء المذكور في الآيات الكريمة أنه الاستعلاء اللائق بالمخلوق ولما كان هذا منافيا للتنزيه الواجب لله اتفاقا فروا من هذا الفهم إلى تأويلهم السابق ظنا منهم أنهم بذلك نجوا من القول على الله تعالى بما لا يليق به سبحانه
ولقد كان من كبار هؤلاء العلماء القائلين بالتأويل المذكور برهة من الزمن جماعة من أهل العلم منهم الإمام أبو الحسن الأشعري كما سيأتي بيانه في ترجمته من الكتاب ( 120 ) . ومنهم العلامة الجليل أبو محمد الجويني الشافعي والد إمام الحرمين المتوفى سنة ( 438 ) ثم هداه الله تعالى إلى اتباع السلف في فهم الاستواء وسائر الصفات ثم ألف في ذلك رسالة نافعة ( ) قدمها نصيحة لإخوانه في الله كما صرح بذلك في مقدمتها وقد وصف فيها وصفا دقيقا تحيره وتردده في مرحلة من مراحل حياته العلمية بين اتباع السلف وبين اتباع علماء الكلام في عصره الذين يؤولون الاستواء بالاستيلاء فقال رحمه الله تعالى ( ص 176 - 177 ) :
( اعلم أنني كنت برهة من الدهر متحيرا في ثلاث مسائل :
1 - مسألة الصفات
2 - مسألة الفوقية
3 - ومسالة الحرف والصوت في القرآن المجيد
وكنت متحيزا في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك من تأويل الصفات وتحريفها أو إمرارها والوقوف فيها أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل .
فأجد النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ناطقة منبثة بحقائق هذه الصفات وكذلك في إثبات العلو والفوقية وكذلك في الحرف والصوت
ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم منهم من يؤول الاستواء بالقهر والاستيلاء ويؤول النزول بنزول الأمر ويؤول اليدين بالقدرتين أو النعمتين ويؤول القدم بقدم صدق عند ربهم وأمثال ذلك ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى معنى قائما بالذات بالأحرف بلا صوت ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم
وممن ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين لأني على مذهب الشافعي - رضي الله عنه - عرفت فرائض ديني وأحكامه فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال وهم شيوخي ولي فيهم الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم ثم إني مع ذلك أجد في قبلي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها وأجد الكدر والظلمة منها وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقرونا بها فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره
وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول مخافة الحصر والتشبيه ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني وأجد الرسول الله صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبرا عن ربه واصفا له بها .
وأعلم بالاضطرار أنه صلى الله عليه وسلم كان يحضر مجلسه الشريف العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي والجافي ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص التي كان يصف ربه بها لا نصا ولا ظاهرا مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء مشايخي الفقهاء المتكلمين مثل تأويلهم الاستيلاء للاستواء ونزول الأمر للنزول وغير ذلك .
ولم أجد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية واليدين وغيرها ولم ينقل عنه مقالة تدل على أن لهذه الصفات معاني آخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها وأجد الله عز وجل يقول . . . )
ثم ذكر بعض الآيات في الاستواء والفوقية والأحاديث في ذلك مما هو جزء يسير مما سيأتي في الكتاب ثم قال ( ص 181 ) ( ) :
( إذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلصنا من شبهة التأويل وعماوة التعطيل وحماقة التشبيه والتمثيل وأثبتنا علو ربنا سبحانه وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته والحق واضح في ذلك والصدور تنشرح له فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره والوقوف في ذلك جهل وعي مع كون أن الرب تعالى وصف لنا نفسه بهذه الصفات لنعرفه بها فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياها فما وصف لنا نفسه بها إلا لنثبت ما وصف به نفسه لنا ولا نقف في ذلك
وكذلك التشبيه والتمثيل حماقة وجهالة . فمن وفقه الله تعالى للإثبات بلا تحريف ولا تكييف ولا وقوف فقد وقف على الأمر المطلوب منه إن شاء الله تعالى )
ثم شرع يبين السبب الذي حمل علماء الكلام على تأويل ( الاستواء ) بالاستيلاء فقال (ص 181 - 183 ) :
( والذي شرح الله صدري في حال هؤلاء الشيوخ الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء و . . . هو علمي بأنهم ما فهموا في صفات الرب تعالى إلا ما يليق بالمخلوقين فما فهموا عن الله استواء يليق به ولا . . . فلذلك حرفوا الكلام عن مواضعه وعطلوا ما وصف الله تعالى نفسه به . ونذكر بيان ذلك إن شاء الله تعالى
لا ريب أنا نحن وإياهم متفقون على إثبات صفات الحياة والسمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة والكلام لله . ونحن قطعا لا نعقل من الحياة إلا هذا العرض الذي يقوم بأجسامنا . وكذلك لا نعقل من السمع والبصر إلا أعراضا تقوم بجوارحنا فكما أنهم يقولون : حياته ليست بعرض وعلمه كذلك وبصره كذلك هي صفات كما تليق به لا كما تليق بنا فكذلك نقول نحن : حياته معلومة وليست مكيفة وعلمه معلوم وليس مكيفا وكذلك سمعه وبصره معلومان ليس جميع ذلك أعراضا بل هو كما يليق به
ومثل ذلك بعينه فوقيته واستواؤه ونزوله ففوقيته معلومة أعني ثابتة كثبوت حقيقة السمع وحقيقة البصر فإنهما معلومان ولا يكيفان . كذلك فوقيته معلومة ثابتة غير مكيفة كما يليق به واستواؤه على عرشه معلوم غير مكيف بحركة أو انتقال يليق بالمخلوق بل كما يليق بعظمته وجلال صفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت غير معلومة من حيث التكييف والتحديد فيكون المؤمن بها مبصرا بها من وجه أعمى من وجه مبصرا من حيث الإثبات والوجود أعمى من حيث التكيف والتحديد وبهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله تعالى نفسه به وبين نفي التحريف والتشبيه والوقوف وذلك هو مراد الرب تعالى منا في إبراز صفاته لنا لنعرفه به ونؤمن بحقائقها وننفي عنها التشبيه ولا نعطلها بالتحريف والتأويل ولا فرق بين الاستواء والسمع ولا بين النزول والبصر الكل ورد به النص
فإن قالوا لنا في الاستواء : شبهتم نقول لهم في السمع : شبهتم ووصفتم ربكم بالعرض فإن قالوا : لا عرض بل كما يليق به . قلنا في الاستواء والفوقية : لا حصر بل كما يليق به . فجميع ما يلزمونا به في الاستواء والنزول واليد والوجه والقدم والضحك والتعجب من التشبيه نلزمهم به في الحياة والسمع والبصر والعلم . فكما لا يجعلونها هم أعراضا . كذلك نحن لا نجعلها جوارح ولا ما يوصف به المخلوق وليس من الإنصاف أن يفهموا في الاستواء والنزول والوجه واليد صفات المخلوقين فيحتاجوا إلى التأويل والتحريف
ومن أنصف عرف ما قلنا واعتقده وقبل نصيحتنا ودان لله بإثبات جميع صفاته هذه وتلك ونفى عن جميعها التشبيه والتعطيل والتأويل والوقوف . وهذا مراد الله منا في ذلك لأن هذه الصفات وتلك جاءت في موضع واحد وهو الكتاب والسنة فإذا أثبتنا تلك بلا تأويل وحرفنا هذه وأولناها كنا كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض وفي هذا بلاغ وكفاية إن شاء الله تعالى )
قلت : لقد وضح من كلام الإمام الجويني رحمه الله تعالى السبب الذي حمل الخلف - إلا من شاء الله - على مخالفة السلف في تفسير آية ( الاستواء ) وهو أنهم فهموا منه - خطأ كما قلنا - استواء لا يليق إلا بالمخلوق وهذا تشبيه فنفوه بتأويلهم إياه بالاستيلاء
ومن الغريب حقا أن الذي فروا منه بالتأويل قد وقعوا به فيما هو أشر منه بكثير ويمكن حصر ذلك بالأمور الآتية :
الأول : التعطيل وهو إنكار صفة علو الله على خلقه علوا حقيقيا يليق به تعالى . وهو بين في كلام الإمام الجويني
الثاني : نسبة الشريك لله في خلقه يضاده في أمره فإن الاستيلاء لغة لا يكون إلا بعد المغالبة كما ستراه في ترجمة الإمام اللغوي ابن الأعرابي فقد جاء فيها :
أن رجلا قال أمامه مفسرا الاستواء معناه : استولى . فقال لهم الإمام : اسكت العرب لا تقول للرجل : ( استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيل : استولى . والله تعالى لا مضاد له ) . وسنده عنه صحيح كما بينته هناك في التعليق ( 210 ) واحتج به العلامة نفطويه النحوي في ( الرد على الجهمية ) كما ستراه في ترجمته ( 119 )
فنسأل المتأولة : من هو المضاد لله تعالى حتى تمكن ( ) الله تعالى من التغلب عليه والاستيلاء على ملكه عنه ؟
وهذا إلزام لا مخلص لهم منه إلا برفضهم لتأويلهم ورجوعهم إلى تفسير السلف ولما تنبه لهذا بعض متكلميهم جاء بباقعة أخرى وذلك أنه تأول ( الاستيلاء ) الذي هو عندهم المراد من ( الاستواء ) بأنه استيلاء مجرد عن معنى المغالبة ( )
قلت : وهذا مع كونه مخالفا لغة كما سبق عن ابن الأعرابي فإن أحسن ما يمكن أن يقال فيه : إنه تأويل للتأويل وليت شعري ما الذي دخل بهم إلى هذه المآزق أليس كان الأولى بهم أن يقولوا : استعلى استعلاء مجردا عن المشابهة .
هذا لو كان الاستعلاء لغة يستلزم المشابهة فكيف وهي غير لازمة ؟ لأن الاستواء في القرآن فضلا عن اللغة قد جاء منسوبا إلى الله تعالى كما في آيات الاستواء على العرش وقد مضى بعضها كما جاء منسوبا إلى غيره سبحانه كما قال في سفينة نوح ( استوت على الجودي ) وفي النبات ( استوى على سوقه ) فاستواء السفينة غير استواء النبات . وكذلك استواء الإنسان على ظهر الدابة واستواء الطير على رأس الإنسان واستواؤه على السطح فكل هذا استواء ولكن استواء كل شيء بحسبه تشترك في اللفظ وتختلف في الحقيقة فاستواء الله تعالى هو استواء واستعلاء يليق به تعالى ليس كمثله شيء
وأما الاستيلاء فلم يأت إطلاقه على الله تعالى مطلقا إلا على ألسنة المتكلمين فتأمل ما صنع الكلام بأهله لقد زين لهم أن يصفوا الله بشيء هو من طبيعة المخلوق واختصاصه ولم يرضوا أن يصفوه بالاستعلاء الذي لا يماثله شيء وقد قال به السلف فلا عجب بعد ذلك أن اجتمعوا على ذم الكلام وأهله وتأتيك بعض النقول عنهم في الكتاب ووافقهم على ذلك بعض الخلف
فقال السبكي في مقدمة رسالة ( السيف الصقيل ) ( ص 12 ) :
( وليس على العقائد أضر من شيئين : علم الكلام والحكمة اليونانية
وجميع الفرق الثلاث في كلامها مخاطرة إما خطأ في بعضه وإما سقوط هيبته والسالم من ذلك كله ما كان عليه الصحابة والتابعون وعموم الناس الباقون على الفطرة السليمة )
وبعد فإن ضرر التأويل على أهله وحمله إياهم على الانحراف عن الشرع مما لا حدود له في نظري فلولاه لم يكن للقائلين بوحدة الوجود اليوم وجد ولا لإخوانهم القرامطة الباطنية من قبل الذين أنكروا الشريعة وكل ما فيها من حقائق كالجنة والنار والصلاة والزكاة والصيام والحج ويتأولونها بتآويل معروفة . قال العلامة المرتضى اليماني في ( إيثار الحق على الخلق ) في صدد بيان قبح التأويل ( ص 135 ) :
( فإن المعتزلة والأشعرية إذا كفروا الباطني بإنكار الأسماء الحسنى والجنة والنار يقول لهم الباطني : لم أجحدها إنما قلت : هي مجاز مثلما أنكم لم تجحدوا الرحمن الرحيم الحكيم وإنما قلتم : إنها مجاز وكيف كفاكم المجاز في الإيمان بالرحمن الرحيم وهما أشهر الأسماء أو من أشهرها ولم يكفني في سائرها وفي الجنة والنار مع أنهما دون أسماء الله بكثير ؟ وكم بين الإيمان بالله وبأسمائه والإيمان بمخلوقاته ؟ فإذا كفاكم الإيمان المجازي بأشهر الأسماء الحسنى فكيف لم يكفني مثله في الإيمان بالجنة والنار والمعاد ؟ )
قلت : ونحوهم طائفة القاديانية اليوم الذين أنكروا بطريق التأويل كثيرا من الحقائق الشرعية المجمع عليها بين الأمة كقولهم ببقاء النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم متأسين في ذلك بنبيهم ميرزاغلام أحمد ومن قبله ابن عربي في ( الفتوحات المكية ) وتأولوا قوله تعالى : {ولكن رسول الله وخاتم النبيين } بأن المعنى زينة النبيين وليس آخرهم وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا نبي بعدي ) بقولهم : أي معي وأنكروا وجود الجن مع تردد ذكرهم في القرآن الكريم فضلا عن السنة وتنوع صفاتهم فيهما وزعموا أنهم طائفة من البشر على غير ذلك من ضلالاتهم وكلها من بركات التأويل الذي أخذ به الخلف في آية الاستواء وغيرها من آيات الصفات
وليس أدل على ضرر التأويل على أصحابه المغرمين به من القول الذي شاع بينهم ولهجت به ألسنتهم كلما أثير بحث الصفات والإيمان بها على حقائقها أو على تأويلها ألا وهو قولهم : ( مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم )
والشاب المثقف اليوم الذي لم تتلوث ثقافته الشرعية بشيء من علم الكلام ربما لا يصدق أن أحدا من الخلف يقول مثل هذا القول وحق له ذلك لخطورته وفظاعته ولكنه - مع الأسف - هو الواقع المعروف لدى طلبة الشريعة وإليك مثالا واحدا على ذلك مما يقرؤونه على مشايخهم قال الباجوري في حاشيته ( ص 55 ) تحت قول صاحب ( الجوهرة ) :
وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها
( وطريقة الخلف أعلم وأحكم لما فيه من مزيد الإيضاح والرد على الخصوم وهي الأرجح ولذلك قدمها المصنف وطريقة السلف أسلم لما فيها من السلامة من تعيين معنى قد يكون غير مراد له تعالى )
وكلام الكوثري المشهور بعدائه الشديد لأهل السنة والحديث في تعليقاته كلها يدور على هذا المعنى من التفصيل المزعوم وفي تعليقه على ( السيف الصقيل ) التصريح بذلك ( ص 132 ) وهذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة بل في غاية الضلالة قال ابن تيمية في ( العقيدة الحموية ) : ( كيف يكون هؤلاء المتأخرون لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول :
لعمري قد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نــادم
وأقروا على أنفسهم بما قالوا متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم مثل قول بعض رؤسائهم :
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالــمين ضـلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ويقول الآخر منهم :
( أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام )
ثم إذا حق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر ولا وقعوا من ذلك على عين وعلى أثر
كيف يكون هؤلاء المنقصون المحجوبون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدجى الذي بهم قام الكتاب وبه قاموا الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة
ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم ؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان ؟ )
وقال العلامة السفاريني في ( شرح العقيدة ) ( 1 / 21 - مختصره ) :
( فمن المحال أن يكون المخالفون أعلم من السالفين كما يقوله بعض من لا تحقيق له به ممن لا يقدر قدر السلف ولا عرف الله تعالى ولا رسوله ولا المؤمنين به حق المعرفة المأمور بها أن طريقة السلف أسلم [ وطريقة الخلف ] ( ) أعلم وأحكم وهؤلاء إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريق السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ذلك بمنزلة الأميين أو أن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات
فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر . وقد كذبوا وأفكوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب طريقة الخلف فجمعوا بين باطلين : الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم والجهل والضلال بتصويب طريقة غيرهم )
ثم استشهد على ذلك بكلام للحافظ ابن رجب في كتابه ( فضل علم السلف على علم الخلف ) فليراجعه من شاء
والظن الذي أتوا منه المخالفون هو مما يكرر ذكره بعض المؤيدين لمذهب الخلف على مذهب السلف ويتوهم صحته بعض الكتاب الإسلاميين الذين لا علم عندهم بأقوال السلف ويسمونه ب ( التفويض ) وهو مما يكثر الكوثري عزوه إليهم زورا فيقول في تعليقه على ( السيف الصقيل ) ( ص 13 ) : ( الذي كان عليه السلف إجراء ما ورد في الكتاب والسنة المشهورة ( ) في صفات الله سبحانه على اللسان مع التنزيه بدون خوض في المعنى ومن غير تعيين المراد )
وأعاد هذا المعنى مواضع أخرى منه ( ص 131 و 145 ) وجر على منواله قرينه المتعاون معه على تحريف نصوص كتاب ( الأسماء والصفات ) للبيهقي ذاك في التعليق عليه وهذا في التقديم له في كتابه الذي سماه ( فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان ) أعني الشيخ سلامة القضاعي العزامي فقد ذكر نحوه في مواطن منه غير أنه قال : ( أكثر السلف على الكف عن بيان المعنى المراد اللائق بالحق تعالى ) كذا قال ( ص 94 ) . ونحوه ( ص 81 و 5 ) فقد نسب إلى أكثر السلف تنزههم عن بيان المعنى اللائق بالحق تعالى . فهل كان ذلك جهلا منهم بالله أم كتما للعلم ؟ فبأيهما أجاب فهو كما قيل : أحلاهما مر . وصدق الله العظيم : { ذلك مبلغهم من العلم }
وجملة القول في التأويل الذي تمسك به الخلف أنه كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في منتصف قصيدته الرائعة ( الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية ) المعروفة بالنونية :
هذا وأصل بلية الإسلام من تأويل ذي التحريف والبطلان
ثم أفاض في سرد أضراره نظما بما لا تجده عند غيره نثرا فراجعه فإنه هام جدا . وانظرها مع شرحها للشيخ أحمد بن عيسى المسمى ب ( توضيح المقاصد وتصحيح القواعد بشرح قصيدة ابن القيم ) ( )
ثم إن عجبي لا يكاد ينتهي من الكوثري وأمثاله الذين ينسبون السلف الصالح في آيات الصفات إلى التفويض وعدم البحث عن المراد منها كما سبق النقل الصريح بذلك عنه فإنه إن لم يجد في قلبه من التعظيم للسلف وعلمهم ما يزعه عن التلفظ بها بما يمس مقامهم في المعرفة بالله تعالى وصفاته أفلم يقف على ما نقله العلماء عنهم من العبارات المختلفة لفظا والمتحدة معنى وكلها تلتقي حول شيء واحد وهو إثبات الصفات مع الرد على المعطلة النافين لها والممثلة المشبهين لها بصفات الخلق وإليك بعض النصوص في ذلك مما ستراه في الكتاب في تراجمهم إن شاء الله تعالى
1 - قال الوليد بن مسلم : سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد : عن الأحاديث التي في الصفات ؟ فكلهم قالوا لي : أمروها كما جاء بلا تفسير . وفي رواية : بلا كيف
2 - قال ربيعة الرأي ومالك وغيرهما : ( الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب )
[فأهل السنة والجماعة أو السلفيون كما أسماهم صاحب الموقع أدرى بقول مالك ولما لا وهم أهل الحديث !! ولا يقولون كما إدعى أصحاب الكلام في الموقع المشار إليه سابقا http://www.aslein.net/showthread.php?t=1477 ما إدعوه زوراً وبهتاناً على السلفيون أنهم يتقولون على الإمام مالك : ((الإستواء معلوم والكيف مجهول)) ]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( الفتوى الحموية ) ( ص 109 مطبعة السنة المحمدية )
( فقول ربيعة ومالك : الاستواء غير مجهول . . . ) موافق لقول الباقين ( أمروها كما جاءت بلا كيف )
فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة . ولو كان القوم آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا : ( الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ) ولما قالوا : ( أمروها كما جاءت بلا كيف فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم )
[ وهذا رد شيخ الإسلام إبن تيمية على تأول أهم الكلام الفاسد (المنتسبون زوراً وبهتاناً إلى أهل النسة والجماعة ) في نفى حقيقة الصفة من كلام الإمام مالك فالصفة ثابتة من كلامه ]
وأيضا فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبت الصفات .
وأيضا فإن من ينفي الصفات الجزئية - أو الصفات مطلقا - لا يحتاج إلى أن يقول ( بلا كيف ) فمن قال : ( إن الله ليس على العرش ) لا يحتاج أن يقول ( بلا كيف ) فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر فلما قالوا : ( وبلا كيف ) .
وأيضا فقولهم ( أمروها كما جاءت ) يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظا دالة على معاني فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال : ( أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد . أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن من الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة ) وحينئذ تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ ( بلا كيف ) إذا نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول ) .
3 - قال الإمام الخطابي :
( مذهب السلف في الصفات إثباتها وإجراؤها على ظاهرها
ونفي الكيفية والتشبيه عنها ) .
[وهذا يدل على أن أهل السنة والجماعة أو السلفية ينفون الكيف !!! فتأمل إقتراء أهل الكلام عليهم والله المستعان ]
4 - قال الحافظ ابن عبد البر :
( أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة وحملها على الحقيقة لا على المجاز
إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك . وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أقر بها نافون للمعبود ) .
قلت : فهذا قل من جل النصوص التي سنراها في الكتاب وهي كلها متفقة على أن السلف كانوا يفهمون آيات الصفات ويفسرونها ويعينون المعنى المراد منها على ما يليق به تبارك وتعالى .
المفضلات