-
الله - أصل العقيدة - تأليف : عباس محمود العقاد
الله
تأليف : عباس محمود العقاد
ــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية ، منذ اتخذ الإنسان ربا إلي أن عرف الله الأحد ، واهتدي إلي نزاهة التوحيد وقد بدأناه بأصل الاعتقاد في الأقوام البدائية ، ثم لخصنا عقائد الأقوام التي تقدمت في عصور الحضارة ،ثم عقائد المؤمنين بالكتب السماوية ، وشفعنا ذلك بمذاهب الفلاسفة الأسبقين ، ومذاهب الفلاسفة التابعين ، وختمناه بمذاهب الفلسفة العصرية ، وكلمة العلم الحديث في مسألة الإيمان .
وكانت عنايتنا فيه بالعقيدة الإلهية دون غيرها . فلم نقصد فيه إلي تفصيل شعائر الأديان ولا إلي تقسيم أصول العبادات ، لأن الموضوع علي حصره في نطاقه هذا أوسع من أن يستقصي كل الاستقصاء في كتاب .
وإن موضوعا كهذا الموضوع المحيط لعرضه للتشعب والتطويل كيفما تناوله الكتاب ومن أي جانب تحراه ، فلابد فيه من إيجاز ، ولابد فيه من اكتفاء .
غير أننا تحرينا الإيجاز وتحرينا معه أن يغنينا فيما قصدناه وذاك هو الإلمام بأطوار العقيدة الإلهية علي وجهتها إلي التوحيد ، وأن تكون هذا الأطوار مفهومة العلل والمقدمات .
وأن الله الذي هدي الأمم كافة علي هذا النهج البعيد ، لكفيل أن يهدينا عليه ، وأن يوفقنا لسداد النظر فيه . فلا هداية إلا به ، ولا معول إلا عليه . إنه سميع بصير مجيب .
عباس محمود العقاد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العقيدة الإلهية
أصل العقيدة
ترقي الإنسان في العقيدة كما ترقي في العلوم والصناعات .. فكانت عقائده الأولي مساوية لحياته الأولي ، وكذلك كانت علومه وصناعته . فليست أوائل العلم والصناعة بأرقي من أوائل الأديان والعبادات ، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخري .
وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات ، لأن حقيقة الكون الكبرى اشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخري .
وقد جعل الناس شأن الشمس الساطعة وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان ، ولبثوا ألي زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض ويفسرون حركتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام ، ولعلها لا تزال .
فالرجوع إلي أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولي لا يدل علي بطلان التدين ، وعلي أنها تبحث عن محال . وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى اكبر من أن تتجلى للناس كاملة في عصر واحد .
* * *
يري كثير من العلماء أن الأساطير هي أصل الدين بين الهمج . وهو رأي لا يرفض كله ولا يقبل كله . لأن العقائد الهمجية قد تلبست بالأساطير في جميع القبائل الفطرية ، فلا يسهل من أجل هذا أن نرفض القول بالعلاقة بين الأسطورة والعقيدة ، ولكن لا يسهل من جهة أخري أن نطابق بين العقيدة والأسطورة في كل شيء وفي كل خاصة ، لأن العقيدة قد تحتوي الأسطورة ولكن الأسطورة لا تحتويها ، إذ يشتمل عنصر العقيدة علي زيادة لا يشتمل عليها عنصر الأسطورة ، وهي زيادة الإلزام الأخلاقي والشعور الأدبي بالطاعة والولاء ، والأمل في المعونة والرحمة من جانب الرب المعبود .
وقد وجدت أساطير كثيرة لا تتجاوز الأوصاف الرمزية والمشابهة الفنية التي طبع عليها الخيال : فهي ترجع إلي ملكة التجسيم والتصوير ، ولا ترجع إلي ملكة الإيمان والاعتقاد .
ووجدت أساطير كثيرة سببها عجز اللغة الإنسانية في نشأتها الأولي ، كما ثبت للعلامة اللغوي ماكس موللر صاحب هذا التفسير لنشأة الأساطير ، فإن الذي يقول إن الأرض أم الثمرات كالذي يقول في العصر الحديث إن فرنسا أم الثورة ، ولكننا نعرف التلاقح الحي فلا نخلط بين الحقيقة والمجاز ، ولم يكن الأقدمون علي علم بذلك فلا يمضي الزمن علي التشبيه حتى تصبح الأمومة المجازية كأمومة الواقع بين الأحياء .
ويري تايلورTylor أن ملكة الاستحياء Animism هي أصل الاعتقاد بالأرباب .
فالطفل يضرب الكرسي إذا أوقعه كما يضرب الإنسان والحيوان تايلور يعتقد أن الإنسان الأول كان الطفل في تخيله للأشياء وتمثله لها في صور الأحياء .
ويسبق هيربرت سبنسر هذا التفسير بتفسير يوافقه في ظواهر الاستحياء ولا يوافقه في تعليل الاستحياء .
فالإنسان –الأول- علي رأي سبنسر-كان يؤمن بحياة الأرباب لأن عبادة الأسلاف هي أقدم العبادات ، وكان يري الأطياف في المنام فيحسب أنها باقية ترجي وتخشى ، وأنها تتقاضاه فروضا لها عليه كفرض الآباء علي أبناء وهم بقيد الحياه .
ولكن يرد علي القوم بعبادة الأسلاف أنها لم تستغرق عبادات الأقدمين في زمن من الأزمان ، وأن النائم يري أطياف الغربان كما يري أطياف الآباء ، ويري أطياف الأطفال الضعفاء بل يري أطياف السباع التي يخافها في يقظته فلا يعبدها لأنه يخافها وتردد عليه أطيافها ، بل يقتلها ويحول بينها وبين الطعام .
وقد شوهد منذ القدم أن طبيعة السحر غير طبيعة العبادة في أساسها ، لأن السحر منوط أبدا بالأمور الخبيثة والوسائل الدنسة والنفايات التي تعاف وتنبذ في الخفاء ، ولم تخل العبادة قط من توسل إلي الخير ورجاء في كرم المعبود ، وقلما تخلو من (تطهر) بنوع من أنواع الطهارة يناقض وسائل السحر الخبيث ، فكأنما فرق الناس بين العبادة والسحر عندما فرقوا بين الأرباب المرجوة والأرباب المرهوبة ، فاتخذوا العبادة لأرباب الخير والمحبة واتخذوا السحر لأرباب الشر والبغضاء .
* * *
والأكثرون من ناقدي الأديان يعللون العقيدة الدينية بضعف الإنسان بين مظاهر الكون وأعداءه فيه من القوي الطبيعية والأحياء ، فلا غني له عن سند يبتدعه ابتداعا ليستشعر الطمأنينة بالتعويل عليه والتوجه إليه بالصلوات في شدته وبلواه .
علي أن القول بضعف الإنسان تحصيل حاصل إن أريد به بطلان العقيدة الدينية وإثبات التعطيل . لأن الإنسان ضعيف علي كلي الفرضين فليس من شأن ضعفه أن يرجح أحد الفردين علي الآخر .
فإذا ثبت أن من خلق إله فعال قدير فهو ضعيف بالنسبة لخالقه ، وإذا لم يثبت ذلك فهو ضعيف بالنسبة إلي الكون ومظاهره وقواه . فماذا لو كان قويا مستغنيا عن قوي العالم ؟ أيكون ذلك أدعي إلي إثبات العقيدة الدينية والإيمان بالله ؟ .
إننا إذا حكمنا ببطلان العقيدة الدينية لضعف الإنسان فقد حكمنا ببطلانها علي كل حال ، ثبت وجود الله أو لم يثبت بالحس أو البرهان ..! لأنه لن يكون إلا ضعيفا بالنسبة إلي الخالق الذي يبدعه ويرعاه .
لكن الواقع أن الضعف لا يعلل العقيدة الدينية كل التعليل لأنها تصدر من غير الضعفاء بين الناس . وليس أوفر الناس نصيبا من الضعف الإنساني سواء أردنا ضعف الرأي أو ضعف العزيمة فقد كان الأنبياء والدعاة إلي الأديان أقوياء من ذوي البأس والخلق المتين والهمة العالية والرأي السديد . ومهما يكن من الصلة بين ضعف الإنسان واعتقاده فهو لا يزداد اعتقادا كلما ازداد ضعفا ولا يضعف علي حسب نصيبه من الاعتقاد ، ومازال ضعفاء النفوس ضعفاء العقيدة وذوو القوة في الخلق ذوي قوة في العقيدة كذلك .
فليس معدن الإيمان من معدن الضعف في الإنسان ، وليس الإنسان المعتقد هو الإنسان الواهي الهزيل ، ولا إمام الناس في الاعتقاد إمامهم في الوهن والهزال .
وإذا رجح الأمر بأن العقيدة (ظاهرة اجتماعية) يتلقاها الفرد من الجماعة فليس الضعف إذن بالعامل الملح في تكوين الاعتقاد . لأن الجماعة تحارب الجماعة بالسلاح المصنوع وقوة الجنان مع القوة العددية ، وتقيس النصر والهزيمة بهذا المقياس المعلوم ، فلا تلجأ إلي مقياس العقيدة المجهول إلا إذا آمنت به باعث التسلح والاستقواء .
ورأي فرويدFreud قريب من رأي هؤلاء الذين يردون العقيدة الدينية إلي شعور بالخوف في وسط العناصر الطبيعية وربما اختلط به مزيج من الغريزة الجنسية في بعض المتهوسين وذوي الأعصاب السقيمة . فإن حب الله –كما يفسره فرويد عند هؤلاء- هو بمثابة الحب الجنسي في حالة (التسامي) أو حالة الحماسة ، وتتشابه العوارض كلها مع هذا الفارق بين الحبين
ومن الواضح أن حالة (التسامي) هي آخر ما ارتقت إليه الديانات ، فلا يمكن أن يقال إنها هي ينبوع العقيدة الهمجية الأولي .
ولا يمكن كذلك أن يقال إن (العقيدة الدينية) حالة مرضية في الآحاد والجماعات . لأننا لا نتخيل حالة نفسية هي أصح من حالة البحث عن مكان الإنسان من هذا العالم الذي ينشأ فيه ، ولا يتجاهل حقيقته إلا وهو في (حالة مرضية) أو حالة من أحوال الجهالة تشبه الأمراض .
ولا بد أن نسأل : ما هو الكون في نظر الهمج الأولين ؟ لأن الهمجي إذا أدرك أن الكون (كل واحد) كان قد ارتفع بنظرته عن الجهالة البدائية وقضي دهرا طويلا وهو متدين علي مختلف الديانات فلا يقال إذن أنه بقي بغير أرباب حتي أدرك الكون العظيم ، وأدرك ضعفه وقلة حيلته بالقياس إليها .
* * *
وطائفة أخري من علماء الإنسان يقرنون بين (الطوطم) والدين ويظنون أن الطواطم هي طلائع الأديان بين الهمج الأولين .
وقد تحقق أن شعائر الطواطم منتشرة بين مئات القبائل الهمجية في أستراليا وأفريقية والأمريكتين وبعض أقطار القارة الآسيوية وجزائرها .
فلا تزال في هذه القارات قبائل كبيرة وصغيرة تتخذ لها علي الأكثر حيوانا تجعله طوطما وتزعمه أبا لها أو تزعم أن أباها الأعلي قد حل فيه ، وقد يكون الطواطم في بعض الحالات نباتا أو حجرا يقدسونه كتقديس الأنصاب .
وإذا اتخذت القبيلة طوطما لها حرمت قتله وأكله في أكثر الأحوال وحرمت الزواج بين الذكور والإناث الذين ينتمون إلي ذلك الطوطم ولو من بعيد . وقد يكون للقبيلة الكبري بطون متفرقة تتعدد طواطمها ويجوز الزواج بين المنتمين إليها ولكنهم يحرمونه في الطوطم الكبير .
ومن هذه الطوطمية يرجح المخالفون لهذه الفكرة أن الطوطمية لم تكن أصل العقيدة الدينية لأنها تنشأ بعد اتساع القبائل واعترافها بأنظمة الزواج وآداب المعاملات ، وليست هذه المرحلة أولي المراحل في تطور الاعتقاد .
ولا شك أن الناس قد عرفوا شيئا يسمي (الروح) يحل في جسد الحيوان أو يتلبس به قبل أن يعرفوا الطوطمية ، وعرفوا كذلك تقديس الأسلاف قبل أن يعرفوها وقد وجدت قبائل لا تخلع علي الطواطن صفة الأرباب علي الإطلاق.
والفيلسوف الفرنسي – هنري برجسون-يرجع بالعقيدة الدينية إلي مصدرين : أحدهما اجتماعي لفائدة المجتمع أو فائدة النوع كله والآخر فردي يمتاز به آحاد من ذوي البصيرة والعبقرية الموهوبة.
فالحاسة الدينية الأجتماعية هي (حيلة نوعية) يلجأ إليها خيال النوع الإنساني لكبح الأثرة الفردية وأقناع الإنسان بنسيان مصالحه في سبيل المصالح الأخري التي تتعلق بها حياة النوع في جميع الأجيال ، فإن الإنسان لو استوحي عقله وحده خدم نفسه وأطاع لذته ولم يحمل الألم ولا الحضارة من أجل أبنا نوعه . ولما كانت ارادة الحياة مستكنة في النوع كما هي مستكنة في آحاده علي انفراد نشأت من الغريزة النوعية ملكة يسميها برجسون بملكة الخرافة الرمزية أو ملكة اساطير وتكفلت الإنسان بخلق العوض الذي يستعيض به عن منافعه ولذاته حين يهجرها لمنفعة نوعه . فاعتقد الجزاء بعد الحياة وأحس أنه محاسب علي الأضرار بغيره مثاب علي الخير الذي يسديه إلي أبناء نوعه ، واقترنت فيه أثرة الفرد بأثرة النوع ، فاستقامت علي التوازن بينهما مصلحته ومصلحة الناس أجمعين .
أما الحاسة الدينية في الفرد الممتاز فهي الإلهام أو الكشف الذي يصل بينه وبين قوة الخلق أو دفعة الحياة Elal Vital كما يسميها برجسون ، وقد تطورت دفعة الحياة هذه في ذهن الفيلسوف حتي أصبحت في كتبه الأخيرة ذاتا إلهية تغير ولا تتغير ولكنها كونية غير منفصلة عن هذه الموجودات وهي تجلي علي أكملها وأوضحها في بديهة النخبة المختارين من كبار العباقرة الروحانيين ، وهم خالدين كما يرجح الفيلسوف أو أن خلودهم مسألة لا يمنعها العقل ولا يبعد أن تحققها الدراسات النفسية بالأساليب النفسية , ولو بعد حين .
ويسأل السائل هنا : إذا كانت للخلق قوة كونية تتجلى لبعض الملهمين فلماذا تكون الحاسة الدينية الإجتماعية وهما مختلقا أو خرافة مزخرفة أو اختراعا لا أساس له غير الحيلة النوعية لحفظ البقاء ؟ لماذا لا تكون من قبيل التلمس البديهى لتلك القوة الكونية ؟ لماذا لا تكون من قبيل الهداية المتدرجة فى طريق البحث الصادق عن الحقيقة المجهولة ؟ لماذا يكون فى هذا الوجود ذات إلهية ثم نسمى البحث عنها حيلة مختلقة أو وهما من الأوهام .
* * *
وممن يسمع له رأى راجح فى مباحث العقيدة إمام علماء اللغات المحدثين (ماكس موللر) صاحب الرأى المعدود فى اشتقاق اللغات ومعانى الأساطير وعلاقتها بالعقائد والعبادات , فهو يؤمن بأن البصيرة سمة عريقة فى الإنسان وأننا كما قال ـ فى كلامه على مقارنة الأساطير ـ ( مهما ترجع بخطوات الإنسان إلى الوراء لن يفوتنا أن نتبين أن منحة العقل السليم المستفيق كانت من خصائصه منذ أوائل عهده وأن القول بإنسانية متسلسلة على التاريخ من أعماق البهيمة إنما هو قول لن يقوم عليه دليل ).
ومصداقا لهذا الرأى يرجح موللر أن الإنسان قد تدين منذ أوائل عهده لأنه أحس بروعة المجهول وجلال الأبد الذى ليس له انتهاء , وأنه مثل لهذه الروعة بأعظم ما يراهفى الكون وهو الشمس التى تملأ الفضاء بالضياء , فهو محور الأساطير والعقائد كما ثبت له من المقايلة بين اللغات واللهجات.
وإذا قيل لموللر أن الأبد أو اللانهاية معنى لا توجد له كلمة فى اللغات الهمجية ولا الحضارة الأولى قال إن الإحساس بالمعانى يسبق اختراع الكلمات , وقد ثبت أن الإنسان الأول لم يضع فى لغاته كلمات لبعض الألوان .
وإلى هنا نحسب أننا ألممنا بأهم الفروض التى خطرت على الأذهان فى تعليل العقيدة الدينية,أو تعليل نشأتها الأولى ..
وجملة ما يقال فيها أننا لا نجد فرضا منها يستوعب أسباب العقيدة كلها ويغنينا عن التطلع إلى غيره .. وجملة ما نفهمه من ذلك أن مسألة العقيدة أكبر من أن يحصرها تعليل واحد وأنها قد تتسع لجميع تلك التعليلات معا ولا تزال مفتحة الأبواب لما يتجدد من البحوث والدراسات .
ولا بد أن تمتزج هذه الصلة بالوعى والشعور متى كان الموجود من أصحاب الوعى والشعور . ومن العجيب أن يعرف العلماء شيئا يسمى الغريزة النوعية . بل شيئا يسمى غريزة الكونية , أو ما شاءوا من الأسماء .. فمن المحقق فمن المحقق ان الصلة بين الكون وموجوداته ماثلة فى جميع الموجودات . ومن المحقق أن الوعى لا يخلو من ترجمان لهذه الصلة لا يحصره العقل . لأنه سابق له محيط به غالب عليه .. ومن المحقق أن الوعى الكونى ملكة قابلة للترقى والإتساع , لأن الحقائق التى تقبل الفهم فى الكون لا تزال على اتساع وارتفاع يفوقان كل وعى ترقى إليه بنو الإنسان .. بل هذه الحواس الجسدية ـ ودع عنك الحقائق المادية ـ لا تحيط بكل ما تحسه العيون والأنوف والآذان , فبعض الحيوان يستنشىء الرائحة على بعد أميال وهى كالعدم فى أنف حيوان آخر ولو كانت منه على مدى قراريط . وبعض الأصوات تلتقطها من وراء البحار والقفار وقد كان الظن قبل العصر الحاضر أن الصوت ( عدم) على مد البصر القريب . ومن زعم أن الموجود هو ما تناوله الحس دون غيره كذبه الحس نفسه وقامت عليه الحجة من العيون والأنوف والآذان , فضلا عن البصائر والعقول .
ففى الكون مجال للوعى الكونى أوسع من مجال الحواس والملكات وما دامت الصلة بين الإنسان وبين الكون قائمة فلابد من دخولها فى نطاق وعيه على مثال من الأمثلة ولا موجب لوقوفها دون غاية من الغايات التى تطيقها ملكات الجنس البشرى, ومنها ملكة الإعتقاد والإيمان .
وفى الكون العظيم حقائق لم تقابلها الحواس الجسدية ولا الحواس النفسية كل المقابلة إلى الآن. .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
الـــــــSHARKـــــاوى
إن المناصب لا تدوم لواحد ..... فإن كنت فى شك فأين الأول؟
فاصنع من الفعل الجميل فضائل ..... فإذا عزلت فأنها لا تعزل
-
الله - أطوار العقيدة الالهية
أطوار العقيدة الالهية
يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها بالآلهة والأرباب :
وهي دور التعددPolytheism
ودور التنيز والترجيحHenotheism
ودور الوحدانيةMonotheism
ففي دور التعدد كانت القبائل الأولي تتخذ لها أربابا تعد بالعشرات وقد تتجاوز العشرات إلي المئات ، ويوشك في هذا الدور أن يكون لكل أسرة رب تعبده أو تعويذة تنوب عن الرب في الحضور وتقبل الصلوات والقرابين .
وفي الدور الثاني وهو دور التمييز والترجيح تبقي الأرباب علي كثرتها ويأخذ رب منها في البروز والرجحان علي سائرها . إما لأنه رب القبيلة الكبري التي تدين لها القبائل الأخري بالزعامة وتعتمد عليها في شئون الدفاع والمعاش ، وإما لأنه يحقق لعباده جميعا مطلبا أعظم وألزم من سائر المطالب التي تحققها الأرباب المختلفة .
وفي الدور الثالث توحد الأمة فتجتمع إلي عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها علي غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها .
والرأي الأرجح عند علماء المقابلة بين الأديان أن الاعتقاد بالثنائيةDualism يأتي أحيانا كثيرة بعد اعتقاد الوحدانية علي الصورة التي أجملناها ، وهي الوحدانية الناقصة التي تأذن لوجود الأرباب معها أو بتنازع الوحدانية بين إله دولة وإله دولة أخري .
وهم يعللون ظهور الثنائية بعد الوحدانية بأن الإنسان يترقي في هذا الطور فيحاول تفسير الشر في الوجود بنسبة إلي إله غير إله الخير ، ولا هذا يكون من قبيل النكسة في عقيدته . لأنه لا يزال يسيغ تعدد الأرباب ويسيغ التمايز والترجيح بينها والتفاوت بين درجاتها وطبائعها .
وأثبت من هذا عندهم –أي عند علماء المقابلة بين الأديان- أن وحدة الوجود Pantheism تأتي بعد جميع هذه الأطوار توفيقا بين النقائض والضرورات ، وإثبتا لوجود الله من طريق الثبوت الذي لا شك فيه ، وهو ثبوت الكون بالحس والعقل والإيمان .
ولم تكن أرباب الأمم الماضية في جميع أطوارها نوعا واحدا أو مثلا لفكرة واحدة ، ولكنها أنواع شتي يمكن أن نجمعها في الأنواع الآتية :
وهي:
1- أرباب الطبيعة أو الأرباب التي تتمثل فيها مشاهد الطبيعة وقواها كالرعد والبرق والمطر والفجر والظلام والينابيع والبحار والشمس والقمر والسماء والربيع .
2- وأرباب الإنسانية وهي الأرباب التي تقترن بأسماء الأبطال والقادة المحبوبين والمرهوبين ، ويحسبهم عبادهم من القادرين علي الخوارق والمعجزات .
3- وأرباب وأرباب الأسرة وهم الأسلاف الغابرون ، يعبدهم أبناؤهم وأحفادهم ويحيون ذكراهم بالحفلات والمواسم المشهودة كما يحيي الناس ذكري الموتى في هذا الزمان ويزورونهم بالأقوات والألطاف ، ولكن مع هذا الفارق البين : وهو أن الرجل الهمجي لا يمنعه مانع أن يجعل الذكري عبادة وأن يجعل هدايا القبر في حكم الضحايا والقرابين .
4- أرباب المعاني كرب العشق ورب الحرب ورب الصيد ورب العدل ورب الإحسان ورب السلام .
5-أرباب البيت كرب الموقد ورب البئر ورب الجرن ورب الطعام .
6- وأرباب النسل والخصب وهي علي الأغلب الأعم في صورة الإناث ويسمونها بالأمهات الخالدات ، وقد ترقت مع الزمن إلي واهبات الخلود بعد هبة الحياة .
7- وآلهة الخلق التي ينسب إليها خلق السماوات والأرض والإنسان والحيوان .
8- والآلهة العليا وهي آلهة الخلق التي تدين عبادتها بشرائع الخير وتحاسبهم عليها وتجمع المثل العليا للمحاسن والأخلاق ، وتضمن السعادة الأبدية للأرواح في عالم البقاء .
وهذه الطبقة من طبقات العبادة هي أرقي ما بلغته الإنسانية في أطوارها المتوالية ، واستعدت بعده للإيمان بإله واحد لجميع الأكوان والمخلوقات بغير استثناء أمة من الناس .
* * *
ومن العسير جدا أن نبني من هذه الأطوار جميعا سلما متعاقب الدرجات لا تتقدم فيه درجة علي درجة ولا يتلاقي فيه نوعان أو أكثر من نوعين من المعبودات .
فقبائل الهوتنتوت الأفريقية التي لم تفارق مرتبة الهمجية حتي اليوم ، ولا يزال أناس منها يأكلون لحوم البشر تعرف إلها واحدا فوق جميع الآلهة يسمي أبا الآباء .
وقبائل البانتو الأفريقيون يقسمون المعبودات ي ثلاث أنواع : نوع هو بمثابة الأطياف الإنسانية الراحلة وهو الذي يسمونه ميزيمو Mizimu ونوع هو أرواح لم تكن قط في أجساد البشر وهو الذي يسمونه Pepo ويزعمونه قابلا للتفاهم والاتصال بالعرافين والحكماء ، ونوع مفرد لا جمع له وليس من الأطياف ولا من الأرواح المتعددة ويسمونه مولنجو Mulungo .
لا يمثلونه في وثن ولا تعويذة ولا تفلح فيه رقية الساحر ولا حيلة العراف ، وفي يديه الحياة والسطوة ووسائل النجاح في الأعمال ، ويصفونه بأعلي ما في وسعهم من صفات التجريد والتفرد والكمال .
وكفار العرب كانوا قبيل البعثة المحمدية يدين أناس منهم بالمسيحية وأناس باليهودية ويذكرون (الله) علي ألسنتهم ويسمون أبناءهم بعبد الله وتيم الله .. ويعبدون مع ذلك أسلافهم فيقولون إن أصنام الكعبة تماثيل قوم صالحين ، كانوا يطعمون الطعام ويصلحون بين الخصوم فماتوا فحزن أبناؤهم وإخوانهم عليهم وصنعوا تلك الأصنام علي مثالهم وعبدوهم من فرط الحب والذكري ، ولكنهم لم يعبدونهم إلا ليقربوهم إلي الله زلفي .
ووصل المصريون إلي التوحيد ، وبقيت أسماء الإله الواحد متعددة علي حسب التعدد في مظاهر التجلي المتعددة لذلك الإله . فكان أوزيرس هو إله الشمس باسم توت وهو في الوقت نفسه إله العالم الآخر وإله الخلق أيضا حيث ينبت منه الزرع ويصورونه في كتاب الموتي جسدا راقدا في صورة الأرض تخرج منه السنابل والحبوب ، وكانوا بعد كل هذه الأطوار يرسمون أوزيرس علي مثال مومياء محنطة ويردون أصله إلي العرابة المدفونة . كأنهم لم ينسوا بعد عبادة الإله الواحد الخالق للكون كله – عبادة الموتي أو الأسلاف .
واليهود عبدوا العجل بعد عبادة الله الواحد ، وسموا الإله الواحد باسم الجمع وهو في العبرية (الوهيم) أو الآلهة .. ثم أصبح الجمع علامة التعظيم .
فالتطور في الديانات محقق لا شك فيه ، ولكنه لم يكن علي سلم واحد متعاقب الدرجات . بل كان علي سلالم مختلفة تصعد من ناحية وتهبط من ناحية أخري .
إلا أن المشاهدات التي أحصاها علماء المقابلة قد تتوافي كلها إلي نتيجة يجمعون عليها ، وهي : أن الإيمان بالأرواح شائع في جميع الأمم البدائية ، وأن الأمم التي جاوزت هذا الطور إلي أطوار الحضارة وإقامة الدول لا تخلو من مظاهر العبادة الطبيعية أو عبادة الكواكب علي الخصوص وفي طليعتها الشمس والقمر والسيارات المعروفة ، وأن عبادة الأسلاف تتخلل هذه الأطوار المتتابعة عل أنماط أنماط تناسب كل طور منها حسب نصيبه من العلم والمدنية .
أما التوحيد فهو نهاية تلك الأطوار كافة في جميع الحضارات الكبري . فكل حضارة منها قد آمنت بإله يعلو علي الآلهة قدرا وقدره وينفرد بالجلالة بين أرباب تتضاءل وتخفت حتي تزول أو تحتفظ ببقائها في زمرة الملائكة التي تحف بعرش الإله الأعلي .
لكن الأديان الكتابية –بعد كل هذا- هي التي بلغت بالتوحيد غاية مرتقاة وعلمت الناس شيئ فشيئا عبادة الإله (الأحد) الذي خلق الوجود من العدم ووسعت قدرته كل موجود في السماوات والأرضين ، ولم يكن له شريك في الخلق ولا في القضاء .
وذاك التوحيد الإلهي الذي نشأ من توحيد الدولة لم يعرض لخلق الكون كله ، ولم يذهب بفكرة التكوين إلي أبعد من خلق الإنسان من مادة موجودة لا حاجة بها إلي موجد . ولما بحثوا في خلق الأرض والسماء كانت فكرة الخلق عندهم بمثابة فكرة التنظيم والتجميل ، لأنهم نظروا إلي مادة الأرضين والسماوات كأنها حقيقة راهنة ماثلة للحس والنظر في غني عن المبدع ولا حاجة بها إلي شيء غير التركيب والتنسيق ، وفرضوا لتركيبها أسلوبا من الصناعة كأسلوب الإنسان في تركيب مصنوعاته من موادها الحاضرة بين يديه . وظل العقل البشري محصورا في هذا الأفق إلي عهد الديانة الإغريقية قبيل الدعوة المسيحية بل بعد الدعوة المسيحية في بعض الجهات بزمن غير قليل . فلم يكن (زوس) كبير الآلهة خالقها ولا خالق الكون بما رحبمن أرض وسماء ولكنه كان بينها كرب الأسرة بين الأبناء والأحفاد ، أو كالسيد المطاع بين الأعوان والأتباع ، وبلغ من سريان هذه (الحالة العقلية) في الأزهان أن الفلاسفة أنفسهم لم يجهدوا عقولهم في البحث عن أصل للمادة الأولي أو الهيولي . كان وجودها حقيقة مفروغ منها لا توقف علي مشيئة خارجة عنها . فلما ترقي الإنسان فجاء تفكيره في خلق الكون من طريق تعظيمه لقدرة الله وإفراده بالوجود الصحيح والقدرة السرمدية علي الإيجاد فاقتحم بالإيمان بابا لم يقتحمه بالتأمل والتفكير .
فالإيمان بالأرواح كان أشيع إيمان وألزمه لبديهة الإنسان في مبدأ هدايته للتدين والاعتقاد .
ولا مانع من تعليل اهتدائه إلي (الروح) بالعلة التي شرحها سبنسر وتيلور : وهي الأحلام واستيحاء الجماد ، إذ لم يكن في طاقته أن يفهم الروح فهما أصلح من هذا الفهم في ظلمات الجاهلية وعثرات النظر بين غياهب تلك الظلمات .
فكان ينام ويري أنه كان يعدو ويرقص ويأكل ويشرب ويقاتل في منامه ، ثم يستيقظ فإذا هو في مكانه لم ينتقل منه قيد خطوة إلي مكان غيره ، فيقع في حدسه أنه فعل ذلك بالروح الذي يسكن جسده ويتركه أو يعود إليه حين يريد . وكان يري الموتي في منامه فيحسبهم أحياء يتحركون مثله كما تحرك بروحه وهو نائم بجسده وراقب الموتي فرأي أنهم يفقدون النفس حين يموتون . فوقع في حدسه من ذاك أن النفس هي الروح والنفس والنسمة ، وكلمة بسيشيPsyche اليونانية معناها النفس كمعني سبريتSpirit في اللغات الأوربية الحديثة .. وفي ذلك دلالة لا شك فيها علي أصلها الأول من بداهة الإنسان .
ونحن الآن نفهم الظل الذي يلا زمنا ونفهم الصورة التي تتراءي لنا حين ننظر في الماء ، ولكن الهمجي لم يكن يفهم هذه الظلال ولا هذه الصور كما نفهمها الآن ، بل كان يحسبها نسخا حية منه يصاب من جهتها بالسحر والطلاسم ، ويصونها من كيد أعدائه كما يصون أعضاء جثمانه ، ويحار في هذا الازدواج فيلحقه بازدواج الأشباح والأجساد علي نحو من الأنحاء .
ولم يكن جهله بالأشياء دون جهله بالظلال والأشباح . فلا يستغرب منه أن يلبسها ثوب الحياة كما يفعل الطفل حين يعطف علي ماحوله من الأشياء أو يقابلها بالرهبة والإحجام ، وكثيرون من الراشدين المثقفين في عصرنا هذا يهتاجون فيخاطبون الجماد بالزجر والسباب كما يخاطبون الأحياء وتغلبهم عاطفة الحزن أو الوجد فيعتبون علي الشيء الذي لا حس له كأنه يحس منهم العتب والدعاء .
والمهم أن الإنسان الأول قد اهتدي إلي فكرة (الروح) من نواحيه التي تلائمه ، فكانت الهداية مفرق الطريق في اغلثقافة الإنسانية سواء منها ثقافة العقل أو ثقافة الضمير .
فتسني له بذلك أن يفتح لعقله منفذا إلي ما وراء المادة المطبقة علي حسة وفكره ، ولو ظلت مطبقة عليه هذا الإطباق لفاته العلم كما فاته الدين .
وتبدلت قيم الحياة كلها منذ دخل في روعه إمكان الوجود لما لم يلمس باليد وينظر بالعين . فمن هنا كل تفرقة بين الروح والجسد ، وبين العقل والمادة وبين الحركة والجمود وبين الخير والشر ، وبين النور والظلام وبين المعاني المجردة والأجسام المحسوسة ، ومن هنا كل اتساع في أفق النظر وراء الحيوان .
وإذا حسب الإنسان مكسبه من هذه الهداية فلا ينبغي أن يحسبه بما قصد بل بما وجد ، ولا ينبغي أن يقيسه علي خطئه في التعليل بل علي صوابه بعد ذلك في التوفيق بين العلل والمعلولات .
وينفعنا هنا أن نذكر قصة الأب الذي أوصي أبناءه وهو يودعهم ويودع الحياة أن ينبشوا الأرض عن كنز دفنه فيها ونسي مخبأه منها ، فلما نبشوا الأرض لم يجدوا كنزا من الذهب أو الفضة ، ووجدوا كنزا يساوي الذهب والفضة ، ويثمر لهم في كل عام كنوزا بعد كنوز . فلما وقع الإنسان الأول علي فكرة الروح وقع عليها خطأ لا شك فيه ، ولكنه خطأ توقف عليه إلهام الصواب في عالم العقل وعالم الضمير .
* * *
وقد امتزجت عقيدة الروح بكل عقيدة دينية بعد أطوار العقيدة البدائية وفي أثنائها ، فعبادة الأسلاف لا تخطر علي بال ما لم تخطر معها فكرة بقاء الأرواح ، وإنما تترقي الأ؟نماط علي حسب الترقي في المعارف والمعقولات . فالهمجي الذي جهل أسرار التناسل قد يتخذ له جدا معبودا يتمثله في شبح الأسد أو الكلب أو الصقر أو العقاب ، ولا ينكر أن يكون أبوه من سلالة الحيوان جسدا وروحا بغير مجاز ، لأنه لا يفقه المانع الذي يمنع الروح أن تسكن جسم حيوان كما تسكن جسم إنسان . والحضري الذي تهذب واستطلع أسرار الخليقة بعض الاستطلاع يجعل أباه روحا تتجلي في الشمس ويفرق بين أبوهالأجساد وأبوه الأرواح ، وعلي هذا المثال ولا ريب زعم الكهنة أن هذا الفرعون أو ذاك من الفراعين ابن الشمس أو ابن أوزيريس ، ولم يفهموا ولا فهم أحد من ذلك أنهم ينكرون أبوته الجسدية المسجلة بالميراث ، وبحقها يجلس علي عرش أبيه .
ولا يري علماء المقابلة أن عبادة الشمس كانت معدومة في أطوار الديانات القديمة ، ولكنهم يقررون أن (ديانة الشمس) لم تنتشر في تلك الأطوار لأنها تستلزم درجة من الثقافة العلمية والأدبية لا تتيسر للهمج وأشباه الهمج في أقدم عصور التاريخ . فلا بد قبل ذلك من نظرة فلكية عالمية تحيط بعض الشيء بنظام الأفلاك وعلاقة الشمس بالفصول ومواعيد السنين .
وتستدعي ديانة الشمس غير هذا أن يرتفع العقل البشري بفكرة الخلق من أفق الأرض القريب إلي الآفاق العليا في السماوات فتتسع دنياه وتتعاظم فيها دواعي الحركة والسكون والحياة والموت ، ويقترب من الأوج الذي يستوعب فيه الكون بنظرة شاملة ، ويلتمس له سببا واحدا (للحصول) كما حصل بعد أن أصبح الكون كله في في حاجة إلي التعليل . فإنه كان قبل ذلك يعلل حياته بهذه القوة أو تلك من العلل الكونية . فإذا بالكون كله لا يستغني عن تعليل مريح .
فديانة الشمس كانت الخطوة السابقة لخطوة التوحيد الصحيح لأنها أكبر ما تقع عليه العين وتعلل به الخليقة والحياة ، فإذا دخلت هي أيضا في عداد المعلولات فقد أصبح الكون كله في حاجة إلي خالق موجد للأرض والسماء والكواكب والأقمار . وينطبق هذا الترتيب تمام الانطباق علي فحوي قصة إبراهيم في القرآن الكريم (فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ، فلما رأي القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين . فلما رأي الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون) .
ولا تزال بداءة التوحيد من طريق تأليه الشمس مسألة تخمين لا مسألة يقين . فالحضارات القديمة في الدول قد عمت الأقطار الشرقية بين مصر وبابل وفارس والهند ثمانية آلاف سنة أو تزيد ، وكلها قد عبدت الشمس وميزتها بالعبادة في دور من الأدوار . فأيها هي الأمة السابقة إلي التوحيد أهي فارس أم الهند أم بابل أم أشور أم مصر أم اليابان في مجاهل القدم قبل اتصالها بالحضارة الآسيوية ؟ ليس الجواب علي هذا كما أسلفنا مسألة يقين بل مسألة تخمين . وأغلب الظنون المدعمة بالقرائن المعقولة أن مصر بدأت بتوحيد الدين كما بدأت بتوحيد الدولة . فالمؤرخ هيرودوت القديم يقول إن الإغريق تعلموا أمور الدين من المصريين والسير اليوت سميث –وهو مرجع موثوق به في تاريخ مصر- يقول إن شعائر الهند القديمة في الجنائز نسخة محكية من كتاب الموتي ، وتفرق الديانات معقول في الدول الأخري ولكنه غير معقول في قطر يجري فيه نيل واحد ويتحد وجهاه قبل خمسة آلاف سنة علي أقل تقدير .
* * *
وجملة القول أن أطوار العقيدة الإلهية تشعبت بين الناس فلم تطرد علي مراحل متشابهة في جميع الأمم ولا في جميع الأزمان . ولكننا إذا أحطنا بوجهتها العظمي وجدنا أن عقيدة الأرواح لم تفارق أطوارها الأولي ، وأن عبادة الأسلاف امتزجت بعقيدة الأرواح ، ثم اتسعت نظرة الإنسان إلي دنياه حتي التمس لها علة في السماء فكانت الشمس هي أكبر ما رآه وتوجه إليه بالعبادة ثم أصبحت الشمس رمزا للخالق حين تجاوزت الإنسان بنظرة إلي ما هو أعظم منها وأعلي . فهي القنطرة الأخيرة بين العدوتين : عدوة التعديد ، وعدوة التوحيد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الملكات النفسانية
الملكات النفسانية التي يدور عليها بحث العلماء في الوقت الحاضر أكثر من نوع واحد في أفعالها وتجاوزها لمألوفات الحواس الإنسانية والحيوانية ، ولكنها تتلخص في بضعة أنواع هي :
الشعور علي البعد أوالـTelepathy والتوجيه علي البعد أو الـ Telergy والتنويم المغناطيسي أو الـMagnetism وقراءة الأشياء أو معرفة الأخبار عن الإنسان من ملامسة بعض متعلقاته كمنديل أو قلم أو خاتم أو علبة أو ما شاكل هذه المتعلقات Object, reading or psychometry وتفسير الأحلام Dream Interpretation والاستحياء الباطني أوAutomatism والوسواس أو Hallucination واستطلاع المستقبل أو Precognition واستطلاع الماضي أو Retrocognitlion والكشف Clairvoyance وتحضير الأرواح Spiritualism .
وكل هذه الملكات قديم معهود في جميع الأجيال والعصور لم يجد عليه إلا التسمية العصرية ومحاولة العلماء أن يحققوه بالتجربة والاستقصاء .
وربما كان أشيع هذه الملكات وأقربها إلي الثبوت وأغناها عن أدوات المعالجة والتناول بأساليب التلقين والتدريب هو الشعور هو الشعور علي البعد أو (التلباثي) كما سمي في أواخر القرن التاسع عشر –تركيبا مزجيا من كلمتي البعد والشعور في اللغة اليونانية .
وقد تواترت أحاديث الناس في (الشعور علي البعد) ، فرويت فيه روايات كثيرة يتفق أصحابها في أقوال متقاربة . وفحواها أنهم يستحضرون في أخلادهم سيرة إنسان بعيد لغير سبب يعلمونه فإذا هو ماثل أمامهم ساعة استحضار ، أو يقلقون لغير سبب في لحظة من اللحظات ثم يعلمون بعد ذلك أن إنسانا عزيزا عليهم كان يتألم أو يذكرهم في تلك اللحظة وهو في ضيق وتغويث ، وقد يسمعون هاتفا يلقي إليهم بعض الكلمات ثم يقال لهم أن هذه الكلمات قد هتف بها مريض يحبهم ويحبونه وهو غائب عن وعيه ، وندر من الناس في الحواضر والقري من لم يسمع برواية من هذا القبيل .
وقد جرب الشعور علي البعد باحثون ممتخلفون ، منهم المؤمن بالنفس ومنهم الملحد الذي لا يؤمن بغير المادة ، ومنهم المتدين الذي يلتمس لهذا الشعور علة من العلل الطبيعية ، ولا يري ضرورة للرجوع به إلي عالم الروح والعقل المجرد .
فالنفساني الكبير وليام مكدوجال –وهو من المؤمنين بالعقل المجرد- يقول في خطاب الرياسة لجامعة البحوث النفسية سنة 1920 : (إنني أعتقد أن التلباثي وشيك جدا أن يتقرر بصفة نهائية في إعداد الحقائق المعترف بها عمليا بفضل هذه الجماعة علي الأكثر ، ومتي بلغنا هذه النتيجة فإن خطرها من الوجهتين العلمية والفلسفية سيربي كثيرا عل جملة المسائل التي أدركتها معاهد التحقيق النفساني في جامعات القارتين) .
وفي سنة 1927 قال الدكتور ت و متشل في خطابه المباحث النفسية في المعهد البريطاني : (لا بد من الاعتراف بالتلباثي أو بوسيلة من الوسائل التي نسميها الآن خارقة للعادة . لأننا إذا أنكرناه وقفنا حائرين بين يدي الظواهر المعززة بأدلة الثبوت ، مما لا نستطيع له نفيا ولا تعليلا) .
والكاتب الأمريكي المشهور ابتون سنكلر Upton Sinclair يؤمن بالفلسفة المادية دون غيرها ويجرب الشعور علي البعد بينه وبين زوجته علي ملأ من الشهود والمتعقبين ، ويقرر أنه أجري مائتين وتسعين تجربة يعتبر يعتبر ثلاثا وعشرين منها ناجحة كل النجاح وثلاثا وخمسين منها ناجحة بعض النجاح وأربعا وعشرين منها مخفقة كل الإخفاق ، ويقول الدكتور والتر فرانكلين برنس صاحب كتاب ما وراء المعرفة المألوفة Beyond Normal cognition هو من المتعقبين لسنكلر وغيره من أصحاب التجارب في هذا الموضوع – (إنني –بعد سنوات من التجارب في تفسير مئات من الألغاز الإنسانية التي تشتمل عل الغش المقصود وغير المقصود وعلي الوهم والضلال- أسجل هنا اعتقادي أن سنكلر وزوجته قد أقاما الشواهد إقامة وافية علي الظاهرة المعروفة بالتلباثي) .
وقد كانت تجارب سنكلر يدور معظمها علي الرسول والأشكال فليطلب من بعض الحاضرين أن يختار له سكلا هندسيا أو حيوانيا ثم يحضر ذهنه فيه ، وزوجته في بلد آخر تتلقي عنه شعوره في تلك اللحظة . فإذا هي ترسم الشكل بعينه ، وقلما يكون الاختلاف في غير الحجم أو درجة الإتقان .
وقد سمي سنكلر هذه الظاهرة بظاهرة الإشعاع الإنساني Human Radio لأنه لا يؤمن بأسباب لنقل الأفكار والأحاسيس غير الأسباب التي من قبيل البرق والمذياع .
ومن أصحاب التجارب المتعددة في هذه المسائل جوزف سينل Joseph Sinel صاحب كتلب الحاسة السادسة(1) الذي يدل اسمه علي رأي صاحبه في تعليل هذه القدرة علي الكشف والتلقي والإيحاء وما شابهها من الصلات النفسية عن طريق غير طريق الحواس المعروفة .
فهو يقرر أن الأجسام المادية يمكن أن تحس من بعيدة لأنها تبعث حولها ذبذبات متلاحقة تسري إلي مسافات بعيدة . وقد تخترق الحوائل كم تفعل الأشعة السينية ، ويعلل غرائز الأحياء التي تهتدي إلي أمثالها أو إلي الأماكن المحجوبة عنها علي المسافات الطويلة بحاسة تتلقي هذه الذبذبات وتتبعها إلي مصادرها . أما الإنسان وسائر الحيوانات الفقارية فهي تعتمد علي الجسم الصنوبري في الدماغ للشعور بالأشياء التي لا تنتقل إليه بحاسة النظر أو الشم أو السمع أو الملامسة ، ويستبعد الأستاذ سينل أن يخلق هذا الجسم الصنوبري عطلا يغير عمل في جميع الأحياء الفقارية ،لأن ملاحظاته الدقيقة عن موضع هذا الجسم في الدماغ واختلاف حجمه بين الأحياء قد دلته علي تفسير عمله حسب اختلاف موضعه وحجمه . فهو في الأنثي أكبر منه في الذكر وفي الهمجي أكبر منه في المتحضر وفي الطفل أكبر منه في الرجل ، وفي الحيوان أكبر منه في الإنسان . وهو قريب إلي فتحات الرأس في بعض الأحياء التي تعول علي التحسس البعيد ولا تستغني عنه بالقياس العقلي أو بالرسائل الصناعية كما يفعل الإنسان ، وكلما انصرف الحي من استخدام هذا الجسم الصنوبري ضمر واقترن ضموره بضعف الشعور بالذبذبات والرسائل المتنقلة من المسافات القصيرة .
قال الأستاذ سينل : (أما الكشف كما أعرفه أنا –وكما ينبغي أن يعرف- فهو إدراك الأشعة المغنطيسية أو قل الموجات المغنطيسية المنبعثة من الأجسام المحيطة بنا والتي من شأنها أن تخترق كل جسم يعترضها بدون حاجة إلي الاستعانة بأي عنصر من أعضاء الحس المعروفة . والكاشف في رأيي هو كل من يستطيع أن يضبط جانبا من مخه ويعده لكي يستقبل الإشعاع الصادر عن الحاجز ، يعني من شيء ما بعد استبعاده كل أشعة أخري ، شأنه في ذلك شأن الجهاز اللاسلكي الذييضبط لكي يستقبل موجة منبعثة من محطة ما مع استبعاد كل موجة أخري سواها) .
وفي حسبان الأستاد سينل أن تلقي الأحاسيس علي البعد ضرورة حيوية في الأحياء الدنيا ، فهي من أجل هذا أقدر علي استخدام هذه الحاسة . ومما نقله عن العالم الطبيعي الفرنسي الكبير جان هنري فابر Fabre (إنه وجد ذات يوم يرقة نوع كبير من الحشرات فحملها إلي منزله ووضعها داخل صندوق في غرفة مكتبه ، وبينما هو جالس في غرفة الطعام ذات ليلة اذ دخل عليه خادمه فزعا وأخبره أن غرفة مكتبه امتلأت بفوج كبير من الذباب الضخم فلما ذهب ليري ما حدث وجد أن يرقته -وكانت أنثي- قد خرجت من هذا الطور وأن عددا كبيرا من ذكورها يحوم حول الصندوق . واما كانت كلها من نوع غير مألوف في هذه المنطقة فقد حكم بأنه لابد جائت من مكان سحيق . فأغلق النافذة وأمسك بها جميعا وعددها خمسة عشر ذكرا . وأراد أن يعرف هل استعانت هذه الذكور في حضورها بحاسة الشم أو لم تستعن بها ، فنزع منها ملامسها ، وهي الأعضاء التي تحمل هذه الحاسة ، ثم وضع الذكور في كيس ووضع الكيس في قمطر ، وفي صباح اليوم التالي نقلها إلي غابة تبعد نحو الميلين ، وأطلق سراح الذكران جميعا ، ولكنها لم تلبس بعد الغسق أن شوهدت كلها متجمهرة في حجرة مكتبه لم يتخلف واحد منها . عندئذ أيقن أن حاسة الشم ام تكن النبراس الذي اهتدت به الذكور إلي مكان الأنثي)(2) .
فالأستاذ سينل كما نري لا يتأثر في إ_ثباته لقدرة الكشف والشعور علي البعد بإيمانه بوجود الروح أو العقل المجرد ، ولا يعتمد في تجربة من تجاربه الكثيرة علي تعليل غير التعليل الجسدي والمباحث الطبيعية ، وقد سبقه إلي التنويه بشأن الحسم الصنوبري فيلسوف كبير من المؤمنين بالقوة الروحية والقائلين بالتفرقة بينها وبين الكائنات المادية ، وهو رينيه ديكارت الذي يلقب بأبي الفلسفة الحديثة ، فإنه اعتقد أن الجسم الصنوبري هو الجهاز (الموصل) بين الروح والجسد ، أو هو موضع التلاقي بين حركة الفكر وحركة الأعضاء .
أما الذين اعتقدوا أن الجسم الصنوبري غدة منظمة للوظائف الجنسية أو أطوار النمو الأخري فالأستاذ سينل يرد عليهم قائلا : (إذا كان هذا الجسم غدة وظيفتها تنظيم التطور أو الأمور الجنسيةكما يقولون فكيف صح أن يكون مقره وسط المخ بين المراكز التي تستقبل المرئيات ؟ ولماذا هو محمول علي ساق ؟ .. ولماذا كان في الفقاريات الدنيا فتحة تشبه النافذة في الجمجمة فتسمح لهذه الحيوانات بالاتصال بما حولها قدر المستطاع ؟) .
علي أننا إذا راجعنا أنواع التجارب التي سجلها النفسانيون لم نستغن بفكرة الإشعاع ولا بفكرة الجسم الصنوبري عن تعليل آخر يتصل بالفعل أو الروح .
فنحن نفهم أن الإشعاع ينقل المجسمات والمحسوسات ولكننا لا نفهم أن الإشعاع ينقل الفكرة أو الصورة المتخيلة ، فإذا تذبذب الشعاع بحركة الكلمات الملفوظة وصلت هذه الكلمة بحروفها و أصدائها إلي جهاز التلقي فنسمعها كلمات كما فاه بها المتكلم من محطة الإرسال ، ولكن الفكرة التي في الدماغ لا تتحول إلي كلمات بحروفها و أصدائها ولا تتأتي من تحولها حركة تهز الأثير كما تهزه حركات الأفواه . فكيف تنتقل الفكر بالأشعة من دماغ إلي دماغ ؟
وإذا فكر أحد في صورة هندسية أو حيوانية فكيف تصبح هذه الصورة حركة إشعاع كحركة المذياع ؟ لقد شوهد كثيرا أن الذي ينتقل في هذه الحالة هو معني الصورة لا شكلها ولا خطوطها التي تكونها : فإذا كان المرسل يفكر في عصفور ولا يحسن رسمه فإن المتلقي يحسن رسم العصفور إن كان من الحاذقين للرسم ولا ينقله نقلا آليا كما تمثل في الذهن الذي أرسل الصورة إليه ، وكذلك يحدث في أشكال المثلثات والدوائر والمستطيلات ، وكل شكل يختلف بالحجم والإتقان ويحافظ علي معناه مع هذا الاختلاف .
فإذا ثبت الكشف والشعور علي البعد بالتجربة التي لا شك فيها فلا بد من إثبات الأشعة العقلية أو الروحية لتعليل انتقال الأفكار بغير ألفاظ ، والصور بغير حركات في الأثير .
أما الجسم الصنوبري فإذا كان عضوا طبيعيا وجب أن يكون عمله علي أشده وأصحه في أصحاب الأجساد الطبيعية والأمزجة السوية ، ولكن الذي يشاهد في أصحاب القدرة علي التلقي أنهم يشذون عن سواء المزاج المعهود في الأصحاء ، وأن هذه الملكة فيهم لا تحيا كما تحيا الأعضاء الأثرية المهملة بل تحيا كما تحيا العبقريات الخلاقة لمعاني الفنون ومبتكرات الفهم والخيال ، وأن الذي يمتاز بها لا يكون أقرب إلي الحيوان بل أقرب إلي المثل الإنسانية التي تتجافي كثيرا عن الغرائز الحيوانية والنوازع الجسدية .
وإذا كان الجسم الصنوبري متلقيا للحس علي أسلوب العيون والآذان و الأنوف وجب أن تتساوي عنده جميع المرسلات ، و ألا يميز ذبذبة عن ذبذبة ولا مكانا عن مكان . ووجب عند جلوس عشرة في بقعة واحدة أن يتلقوا جميعا صوت الاستغاثة المنبعث من الأماكن القصية ، لأن هذا الصوت حركة مادية والأجسام الضنوبرية عند هؤلاء العشرة أجسام مادية تهتز بتلك الحركة علي السواء ، ولا يقال أن الذي يعنيه الخبر هو الذي يسمعه ، لأن العناية تتولد من سماع الخبر لا قبل سماعه ، وقد يكون المقصود بالخبر غافلا عنه غير متهيئ لسماعه في تلك اللحظة ، وإذا كانت العناية من الجانبين تضيف شيئا إلي قوة الحس فهي إذن شيء (عقلي إرادي) ينحصر في العقل والإرادة ولا يعم كل حركة تخطر في الأثير .
ولا غرابة في ندرة الظواهر الروحية بين العوامل المادية ، فيحس بالآثار الروحية آحاد ولا يحس بها الأكثرون ، لأننا قد تعودنا أن نري كائنات لا تحصي بمعزل عن فعل العقل أو الروح ولكن الغرابة البالغة أن يكون في كل دماغ جسم صنوبري وأن تنبعث الذبذبات من جميع الأجساد بغير انقطاع ثم تنحصر ظواهر الكشف أو الشعور البعيد قي آحاد معدودين .
ولا يصح أن يقاس هذا علي أجهزة المذيلع التي تسكن عن الإذاعة بغير تحريك أو توجيه ، لأن امتناع هذه الآلات عن الحركة بغير مدير يعرف تركيبها هو الحالة الطبيعية التي لا يتصور لها العقل حالة سواها . أما الأحياء فإنهم هو المحركون والمتحركون ، وهم المفاتيح ومديرو المفاتيح . فامتناع العمل الطبيعي فهم مع شيوع أسبابه عجب يحتاج إلي تفسير .
وحسب الناظر في الأمر بعد هذا أن يعرف أن تجارب الشعور البعيد وما جري مجراه تثبت عن أناس لا يعللونها بالروح ولا بالعقل المجرد ، لينتفي من ذهنه أنها وهم من أوهام العقيدة وأنها خرافة متفق عليها فلا تستحق الجد في دراستها من طلاب الحقائق علي سنن العلماء .
ويبدو للأكثرين من مراقبي هذه الظواهر النفسانية أن التنويم المغناطيسي أثبت من الشعور علي البعد وأشيع منه وأقرب إلي التصديق والتعليل ، وهو فيما نري يعرض لنا أمثلة كثيرة لا نصادفها في ظاهرة الشعور علي البعد لإثبات الاتصال العقلي بوسيلة غير وسيلة الذبذبات واستخدام الأجسام الصنوبرية . لأن النائم يتلقي عن نومه صورا لا يأتي تعليلها بالإشعاع أو ما شابهه من التيارات المادية . وكثيرا ما تكون الرسائل المغناطيسية قائمة علي تخيل لا وجود له في عالم الحس ولكنه ينتقل إلي ذهن النائم لأن المنوم لفقه وأمره يتلقيه وتصديقه . وهو يري ما في خيال المنوم ولا يري ما في خيال غيره ولو كان معه في حجرة واحدة . وقد تعددت تعليلات الاتصال بين فكر وفكر بالوسائل المغناطيسية ولكنها جميعا أعجب من القول بإمكان الاتصال بين العقل المجرد والعقل المجرد بمعزل عن الحواس والوسائط المادية . ويكفي في التجارب المتواترة أن يلقي المنوم نظرة علي كلمة مكتوبة أو صورة مرسومة أو يستحضر الكلمة أو الصورة في خلده ليراها النائم كما رآها المنوم أو تخيلها تخيلا لا يمثله شكل محسوس قابل لتحريك الأشعة أو التيارات . ولا ندري لماذا لا يتأتي تنويم الحيوان الأعجم ونقل المحسوسات إلي دماغه إذا كانت المسألة كلها مسألة الحواس والأعصاب والتيارات التي تنتقل كما ينتقل الشعاع .
ومما لا نزاع فيه أن حق الفكر الإنساني في قبول هذه الظواهر أرجح جدا من حقه في إنكارها ، والبت باستحالتها كأنها شيء لا يتأتي وقوعه بحال من الأحوال . فلا استحالة في ظاهرة من هذه الظواهر ، غير مستثني منها النادر المستغرب بالغا ما بلغ من الندرة والغرابة في جميع الأزمان .
فالاطلاع علي المستقبل غريب لم تثبته تجربةعلمية قابلة للتكرار ، ولكننا لا نستطيع أن نجزم باستحالته إلا إذا استطعنا أن نجزم بحقيقة الزمن وحقيقة المستقبل ثم جزمنا بأن هذه الحقيقة تناقض العلم بشيء قبل أن يأتي أوانه ويجري في مجراه .
فما هو الزمن ؟
نحن نتخيله في أوهامنا علي صور كثيرة لا تخلو إحداها من نقص ومناقضة لبقية المقررات المسلمة لدينا .
فنحن تارة نتخيل الزمن كأنه بحر يزداد قطرة في كل لحظة ويمتلئ شيئا فشيئا ، ويزال فيه فراغ مهيأ للامتلاء ، وهو فراغ المستقبل المعدوم . ولكن هل الماضي إذن هو الموجود ؟ وهل هو الحاصل المتجمع في بحر الزمان والمستقبل هو المعدوم ؟ وما هو (الآن) الذي ليس بماض ولا بمستقبل ولا يوصف إلا بأنه حاضر غير ماض ولا آت ؟
وتارة نتخيل الزمن كأنه خط ممتد والأوقات المتتابعة كالنقط المنطوية فيه ، ولكننا إذا تتبعنا هذا الخيال لم يذهب بنا إلي بعيد ، لأن الخط ممتد في كل جانب متعمق في كل باطن ، فلا تشابه به بينه وبين الخطوط .
وتارة نتخيل الزمن قابلا للتجزئةولكننا لا نستقر علي المقياس الذي يحكم لنا بالقرب أو البعد أو العمق بين مسافات الأجزاء .
وإذا جزأنا الزمن حكمنا بأن الزمان كله محدود لأن مجموع المحدود محدود ، ولكن ما هي حدود الحاضر ، وما هو الخارج منه والداخل فيه وما هو الفرق بين حاضر وحاضر بمقياس الزمان أو بمقياس الفضاء ؟
علي أنه إذا كان الزمان أجزاء وكان محدودا كأجزائه فقد بقي أمامنا (الأبد) الذي لا ماضي فيه ولا حاضر و مستقبل ولا ينقسم إلا أجزاء ولا يدرك له ابتداء ولا انتهاء ولا حركة بين الابتداء والانتهاء .
فمن الجائز أن (المستقبل) معدوم في الزمان المنقطع موجود في الأبد الذي ليس له انقطاع .
ومن الجائز أن يكون الزمن نفسه متعدد الأبعاد فيتلاقي فيه شيء من الحاضر وشيء من الماضي وشيء من المستقبل في بعض تلك الأبعاد .
ومن الجائز أن المستقبل يتكشف لعقل الإنسان من إيحاء العقل الأبدي المطلع عليه كما يتطلع علي ما حصل وما هو حاصل بلا اختلاف . وقد جاز أن ينتقل علم من عقل إنسان إلي عقل إنسان فينطبع فيه بالتوجيه وإيحاءكأنه منظور ومسموع . فلماذا لا يجوز أن تنتقل وقائع المستقبل إلي علم الإنسان من العقل الأبدي ؟ وهل نستطيع أن نقرر وجود العقل الأبدي دون أن نقرر أنه مطلع علي كل ما يقع في الأبد الأبيد ؟
فالذي يجزم باستحالة الاطلاع علي المستقبل عليه أولا أن يجزم بالصورة الصحيحة للزمن ويجزم بأنها لا توافق الاعتراف بوجود المستقبل علي وجه من الوجوه .
وعليه (ثانيا) أن يجزم باستحالة (العقل الأبدي) واستحالة الإيحاء منه إلي العقول الإنسانية .
وعليه أن يقوم الدليل علي هذا المستحيل أو ذاك المستحيل ، ولا دليل . وربما خطر لبعضهم -عند النظرة الأولي أن استطلاع الماضي Retrocognition ظاهرة لا تثير الاعتراض ممن يعترضون علي العلم بما سيكون . لأننا نعلم حوادث التاريخ كأنها من حوادث الوقت الحاضرالتي تنقل إلينا من مكان بعيد ، ولأن حوادث الماضي متفق علي وجودها في زمانها ، ولا اتفاق علي وجود ما سيكون قبل أن يكون .
ولكن الحقيقة أن استطلاع الماضي واستطلاع المستقبل علي حد سواء في طبيعة الملكة التي تقدر عليه . لأن القائلين بهذه الملكة لا يقصدون معرفة الماضي كما نعرف روايات التاريخ أو روايات الشهود . ولكنهم يقصدون أن صاحب هذه الملكة ينكشف له منظر مضي دون أن يبلغه من طريق القراءة والسماع . فيشهد مثلا مجلسا من المجالس المجهولة عنده وعند غيره ، ويبصر كل جالس في مكانه الذي كان فيه ، ويسمع ما قالوه ولو لم تدونه الكتب وتردده أقوال الرواة .
فالكشف عن الماضي محتاج إذن إلي التعليل الذي يحتاج إليه الكشف عن المستقبل ، لأنه دائما يتأتي بايحاء عقل إلي عقل ، أو بتقدير صوره للزمن لا ينفي فيها الماضي ولا المستقبل كل الانتفاء .
وهذه الظواهر كلها -أغربها وأقربها معا- ليست بالشيء الجديد في تاريخ الإنسان . وإنما الجديد عليها في زماننا هذا أنها دخلت في متناول البحوث العلمية ، وأن الباحثين يتخذون منها شيئا فشيئا مواقف من العطف والفهم أقرب من مواقفهم الأولي في مطلع (الثورة العلمية) علي سلطان رجال الدين .
ففي الأزمنة الماضية كان النس يصدقون هذه الظواهر بغير بحث في حقيقتها وحقيقة من يدعونها ، أو كانوا يكذبونها تكذيبا باتا بغير بحث كما يفعل المصدقون .
ومضي زمن كان العالم الطبيعي فيه يحسب الإنكار المطبق أمام هذه الظواهر أجدر شيء بوقار العلم وكرامة المباحث العلمية . ومن هؤلاء عالم في طبقة اللورد كلفن Kelvin الذي قال في بعض خطبه سنة 1883 : (والآن قد أومأت إلي حاسة سابعة محتملة وأعنى بها الحاسة المغناطيسية , ولنفاسة الوقت وضيقه عن الاستطراد وابتعاد الموضوع عما نحن بصدده أود أن أدفع الظن ـ بأننى على نحو من الأنحاء ـ أومىء إلى شيء من قبيل تلك الخرافة التعسة : خرافة المغناطيسية الحيوانية وتحرك الموائد وتحضير الأرواح ومناجاتها والتنويم المغناطيسى المعروف بالسمرية والكشف والتخاطب بالدقات والنقرات وما إلى ذلك مما سمعنا عنه فى الزمن الأخير . فليس هناك حاسة سابعة من هذا النوع الغامض ، و إنما الكشف وما إليه نتيجة خطأ في الملاحظة علي الأكثر يمتزج أحيانا بالتزوير المتعمد علي عقل بسيط نجاح إلي التصديق .. ) .
ولكن هذا الموقف يتغير عليالتدريج ، ولا يشعر العالم اليوم أنه يعطي العلمحقه من الوقار حين يبتدئ بالإنكار في هذا المجال ، أو يرجح الإنكار بغير دليل قاطع يقاوم أدلة التصديق . فمن لم يقبلها من العلماء لم يأنف من اعتبارها صالحة للقبول مع توافر الأدلة وتمحيص التجربة من الوهم وخطأ الملاحظة .
علي أنها -سواء دخلت في مقررات العلم أو لم تدخل إلي حاسة في الإنسان غير العلم بالشئ الذي هو موضوع الإيمان ، لأن الإنسان لا يؤمن علي قدر علمه وإنما يؤمن علي قدر شعوره بما يعتقد ومجاوبته النفسية لموضوع الاعتقاد ، وطبيعة الاعتقاد في هذه الخصلة مقاربة لطبيعة اثنان أمام صورة واحدة يعلمان كل شيء عنها وعن صاحبها وعن أدواتها وألوانها وتاريخها لم يكن شرطا لزاما أن يتساويا في الإعجاب بها والشعور بمحاسنها كما يتساويان في العلم بكل مجهول عنها ، وصدق من قال أن القداسة مزيج من العجب والرهبة ، ولا يتوقف العجب من الأمر المقدس علي استكناه كل ما ينطوي عليه .
وستظل هذه الظواهر تفصيلا يجوز الشك فيه لقاعدة مقررة لا يجوز الشك فيها : ونعني بالقاعدة المقررة أن الموجودات أعلم من المحسوسات .
فهناك موجودات أكثر مما نحس بل هناك موجودات قابلة للإحاطة بها من طريق الإحساس أكثر مما نحسه الآن بالآلات ووسائل التقريب والتضخيم .
ولا تزال غرائزالحيوان تدلنا علي ضروب من الإحساس الخفي لا يعللها العلماء بأكثر من تسميتها باسم الغريزة ، كأنهم إذا لجأوا إلي كلمة مبهمة لا يفهمونها كانوا أجدر بكرامة العلم من الجاهل الذي يفسر الأمر كله بقدرة إله .
وفي الغريزة عبر كثيرة لا تنسي في صدد الكلام عن الحاسة الدينية وخطأ الإنسان في التعبير عنها وتمثيل موضوعاتها .
فقد يساء استخدام الغريزة ولا يقدح ذلك في نشأتها ولا في وجهتها ، كالطير الذي يهاجر للسلام أو للغذاء فيسقط في البحر من الإعياء لأنه يختار طريقا انقطع بطغيان البحر عليه منذ عصور . فباعث الغريزة موجود ومعقول ، وحب السلامة موجود ومعقول ، وخطأ المحاولة في استخدام الغريزة لا ينفي صدق هذا ولا صدق ذاك .
والإنسان في غريزته النوعية يخدم نفسه ويضل عن الغاية من حيث يشعر أو لا يشعر بانخداعه وضلاله : يخدع نفسه حين يحسب أنه يمل للذاته أو يعمل للذته ، ويضل ضلالا بعيدا حين يقتل عشرين رجلا كبيرا ليكفل القوت أو السلامة لطفل واحد هو ابنه الذي لم يلده إل لبقاء النوع كله . يقتل عشرين رجلا مخلوقا ناميا من النوع لبقاء مخلوق منه غير موثوق بنمائه ، وهو يطاوع الغريزة النوعية بذلك ولا يناقضها في نهاية المطاف . لأن حب الأبناء لو توقف علي الحساب العددي والموازنة بين الكثرة والقلة لما حرص أناس علي الأبناء ولا ظفر النوع بالبقاء .
وأدخل من ذلك في ضلال الغريزية وثبوتها في وقت واحد أن الأب الذي يدس عليه طفل غير ابنه ولا يخالجه الشك فيه يحبه ويرعاه ويفتدي بقاءه ببقاء الكثيرين ، ولا يجوز من أجل ذلكأن يقال أن الغريزة النوعية (غير صحيحة) لأن الولد (غير صحيح) .
فالتعبيرات عن الحاسة الدينية تقبل الخطأ الكثير ، ولا يستفاد من ذلك أن الحاسة الدينية غير لازمة أو أنها مكذوبة النشأة في أساس التكوين .
وهذا الذي سميناه (بالوعي الكوني) هو الذي يحس بوطأة الكون فيترجمها علي قدر حظه من التصور والتصوير ، فيقع الخطأ الكثير في التعبير وفي محاولة التعبير ، ولا يمتنع من أجل ذلك أن نتلقي الكون بوعي لا شك في بواعثه وغاياته ، وإن أحاطت بتعبيراته شكوك وراء شكوك .
وربما كان هذا (الوعي الكوني) فرضا صادقا أو راجحا ثم ينتهي به الأمر عند ذلك ، لو لم تكن ظاهرة التدين التي تترجم عنه ملازمة لبني آدم في جميع الأماكنومن أقدم الأزمان ، ولو لم ينبغ في الناس أفراد من ذويالعبقرية تملأهم روعة المجهول .. ولكن الأديات تعم البشر ولا تغنيهم عنها غريزة حب البقاء أو غريزة حب النوع أو حب المعرفة أو دواعي السياسة الاجتماعية . وقد وجدت أديان تبشر بالفناء ولا تبشر بالبقاء وتحرم علي كهانها النسل ولا تعدهم شيئا في السماء . فهي -أي الأديان- من وعي غير وعي التحفظ والسلامة وغير وعي السياسة ودواعي الاجتماع . وقام في العالم عباقرة دينيون لا يهدأون بما يجيش في نفوسهم من قوة الشعور بالمجهول . ولو كان هذا المجهول المغيب عن النس لا يستحق أن تجيش به نفس إنسانية لصرفنا سيرة هؤلاء العباقرة بكلمة واحدة : هي كلمة الجنون الذي وصفوا به كلما ظهروا بين قبيل من المعاندين ، ولكن (المجهول المغيب) أحق من جميع الموجودات بهذا الجيشان العظيم ، فالطبائع التي امتازت باستيعابه واتسعت لدوافعه لا تمتاز بخلل خلو من المعني ، بل تمتاز باستقامة في التكوين فيها كل معني كبير من معاني الشعور العميق .
وقد أحسن الإنسان قبل أن يفكر . فلا جرم ينقضي عليه ردح من الدهر في بداءة نشأته وهو يفكر حسيا أو يفكر (لمسيا) فلا يعرف معني الموجود إلا مرادفا لمعني المحسوس أو الملموس . فكل ما هو منظور أو ملموس أو مسموع فهو واقع لا شك فيه ، وكل ما خفي علي النظر أو دق عن السمع واللمس فهو والمعدوم سواء .
وقد كان (للحاسة الدينية) فضل الإنقاذ الاول من هذه الجهالة الحيوانية . لأنها جعلت عالم الخفاء مستقر وجود ، ولم تتركه مستقر فناء في الأخلاد والأوهام . فتعلم الإنسان أن يؤمن بوجود شيء لا يراه ولا يلمسه بيديه . وكان هذا (فتحا علميا) علي نحو من الأنحاء ولم ينحصر أمره في عالم التدين والاعتقاد . لأنه وسع آفاق الوجود وفتح البصيرة للبحث عنه في عالم غير عالم المحسوسات والملموسات ، ولو ظل الإنسان ينكر كل شيء لا يحسه لما خسر بذلك الديانات وحدها ، بل خسر معها العلوم والمعارف وقيم الآداب والأخلاق .
ويجيء الماديون في الزمن الأخير فيحسبون أنهم جماعة تقدم وإصلاح للعقول وتقويم لمبادئ التفكير . والواقع أنهم في إنكارهم كل ما عدا المادة يرجعون القهقري إلي أعرق العصور في القدم ، ليقولوا للناس مرة أخري أن الموجود هو المحسوس وأن المعدوم في الأنظار والأسماع معدوم كذلك في ظاهر الوجود وخافيه ، وكل ما بينهم وبين همج البداءة من الفرق فيهذا الخطأ -أن حسبهم الحديث يلبس النظارة علي عينيه ويضع المسماع علي أذنيه !
ويحسبون علي هذا أنهم يلتزمون حدود العلم الأمين حين يلتزمون حدود النفي ويصرون عليه في مسألة المسائل الكبري ، وهي مسألة الوجود ، بل مسألة الآبادالتي لا ينقطعالكشف عن حقائقها في مئات السنين ولا ألوف السنين ولا ملايين السنين .
(لا) إلي آخر الزمان في هذه المسألة الكبري ... ونحن لا نستطيع أن نقول (لا) إلي آخر الزمان في مسألة من مسائل الحجارة أو المعادن أو الأعشاب أو مسائل البيطرة وعلاج الأجسام .
وليس النوع البشري علي أبواب محكمة يخاصم فيها من يثبتون أو ينكرون ويتحداهم وهو جالس في مكانه أن يثبتوا له ما ينفيه ولا يهتدي إليه بالعين والمجهار . ولكنه علي الأقل أمام (معمل للتجارب) يبدأ فيه البحث ويعيده ثم يبدأويعيد في كل عصر علي ضوء جديد ، وهو أمام الكون خاصة لم يكد يبدأ البحث في مسألة الآباد إلا منذ مئات معدودة من السنين . فيا له من علم بديع هذا العلم الذي يقطع بالنفي إلي آخر الزمان .. دون أن يتردد أو ينتظر مفاجآت الزمان .
والواقع أن العلم كله يقوم علي أساس الإيجاب والترقب ولا يقوم علي أساس النفي والإصرار . وما من حقيقة علمية إلا وهي تطوي في سجلها تاريخا طويلا من تواريخ الاحتمال والرجاء والأمل في الثبوت ، وإن تكررت دواعي الشك بل دواعي القنوط . فبحث الإنسان عن العقاقير وبحث عن المعادن وبحث عن الثمرات والغلات بروح ترتقب ويجابا وثبوتا ولا تنتقل من نفي إلي نفي ومن إصرار إلي إصرار ، وهذه روح العلم أمام الصغائر من شئون البيوت والأسواق ، فلماذا تكون روح العلم إصرار محضا وإنكارا متلاحقا علي غير أساس ويعقب ترقب أو انتظار في نفي كبري المسائل علي الإطلاق ؟
وأجدر الأزمنة أن تبدل فيه هذا الموقف هو الزمن الذي تكشف فيه الأجسام من عنصرها الأول ، فإذا هو إشعاع أو حركة في فضاء . فاقترب الوجود المادي نفسه من عالم المعقولات والمقدورات ، وتقرر لنا أن الحواس لا تستوعب معني الوجود في الصميم ، لأن زوال العدم هي الصفة الوحيدة اللازمة للوجود ، ولا يستلزم زوال العدم تجسما ولا تجرما ولا كثافة من هذه الكثافات التي تتمثل بها الأجسام للحواس بل يكفي فيه حركة مقدورة أو معني كأنه من طبيعة المعقولات . فما أضدق النطاق الذي بقي للحس الظاهر من أسرار الوجود . وما أحرانا أن نفسح للوعي الكوني وللبداهة مجالا يتسع مع الزمان ، ولا نحبسه في نطاق معين يضيق ثم يضيق حتي يسقط من الحسبان .
والإنسان قد رأي نور الشموس والكواكب بعينه منذ مئات الألوف من السنين ، ولو يقبس نور الكهرباء من ينبوع الضياء الكوني إلا في القرنالأخير . فتدرج من قدح الحجر إلي حك الحطب إلي فتيلة الدهن إلي غاز الاستصباح إلي نور الكهرباء في هذا الأمد الطويل من الدهور وراء الدهور .
فوعيه الباطن لم يقصر عن وعي عينيه في هذا الشوط البعيد ، لأنه تنقل من عبادة الحصي والحشرات إلي عبادة الإله الواحد في بضعة آلاف من الدورات الشمسية ، وجاز لنا أن نقول أن ضميره كان أسرع من عينيه إلي اقتباس الضياء ، وكان أقدر من فكره علي مغالبة الظلام . ورأي ظلام ؟ إنه لم يكن ظلاما كظلام الليالي والكهوف يسلم مقاده لكل قادح زند أو نافخ عود ، ولكنه كان ضلااما تجوس فيه مردة الجهل وشياطين العادات وأبالسة المطامع والشهوات . فإن دل ذلك علي شيء فإنما يدل علي حاجة الضمير إلي ذلك النور الذي اهتدي به ، وهتدي إليه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
التعديل الأخير تم بواسطة الشرقاوى ; 05-10-2005 الساعة 10:35 PM
الـــــــSHARKـــــاوى
إن المناصب لا تدوم لواحد ..... فإن كنت فى شك فأين الأول؟
فاصنع من الفعل الجميل فضائل ..... فإذا عزلت فأنها لا تعزل
-
الله في دول الحضارة القديمة
الله في دول الحضارة القديمة
مصر
علمنا أن تعميم العقائد المشتركة كان مرتهنابقيام الدول الواسعة التي تطوي فيها عقائد القبائل والشعوب وتتجاوز أطرافها حدود الأمة الواحدة ، ونسميها في عصرنا هذا بالإمبراطوريات . والدول التي كان لها القسط الأوفي من هذه المساهمة العامة هي مصر وبابل والهند والصين واليونان ، وتضاف إليها اليابان لولا أنها في عزلتها قد أخذت أكثر مما أعطت ، وقد تخلفت من جراء هذه العزلة عن بعض الأطوار التي سبقتها اليها الأمم المتصلة بالمعاملات والمبادلات ، فتلبثت ببقايا الوثنية إلي مطلع العصر الحديث .
أما مصر فتاريخها فى أطوار الاعتقاد هو تاريخ جميع الأطوار من أدناها إلى أعلاها بلا استثناء .. فشاعت فيها (الطواطم) فى كلا الوجهين قبل اتحاد المملكة وبعد هذا الاتحاد ، ويظن الكثيرون من علماء الأديان أن تقديس الصقر والنسر وابن آوى والقط والنسناس والجعل والتمساح وغير ذلك من فصائل الحيوان هى بقايا (طوطمية) تحولت مع الزمن إلى رموز ثم فقدت معنى الرموز واندمجت في العبادات المترقبة على شكل من الأشكال .
وشاعت فيها عقيدة الأرواح ، فكان المصريون من أعرق الأمم التي آمنت بالبعث والثواب والعقاب بعد الموت ، ورمزوا للروح (كا) تارة بزهرة وتارة بصورة طائر ذي وجه آدمي وتارة بتمساح أو ثعبان ، وقالوا بأن الروح تتشكل بجميع الأشكال ولكنهم لم يقوموا بتناسخ الأرواح ، ولعل اختلاف الرموز من بقايا اختلاف الطواطم في زمان سابق لزمان الاعتقاد بالبعث والثواب والعقاب .
أما أثبت العبادات وأعمها وأقواها وأبقاها إلي آخر العصور فهي عبادة الموتي والأسلاف دون مراء . فإن عناية المصري بتشييد القبور وتحنيط الجثث وإحياء الذكريات لا تفوقها عناية شعب من الشعوب . وقد بقيت آثار هذه العبادة إلي ما بعد بزوغ الديانة الشمسية وتمثيل أوزيريس بالشمس الغاربة ، ثم تغليبه علي عالم الخلود وموازين الجزاء .
فقصة أوزيريس هي قصة آدمية تشير إلي واقعة قديمة مما كان يحدث في الأسر المالكة في تلك العصور السحيقة ، وهي قصة ملك أحبه شعبه ثم نازعه أخوه (ست) عرشه فقتله . وجاءت زوجته (إيزيس) بعد ذلك بابن اسمه (حوريس) أخفته في مكان قصي حتي بلغالرشد .. فرشحته للملك فساعده أنصار أبيه علي بلوخ حقه في العرش ، وعاد (ست) ينازعه هذا الحق أمام الآلهة ويدعي عليه أنه ابن (غير شرعي) من أب غير أوزيريس ، فلم تقبل الآلهة دعواه وحكمت لحوريس بالميراث .
وتقول الاسطورة أن أوزيريس ولد في الوجه البحري ولكن رأسه دفن في الصعيد بقرية العرابة المدفونة . وأن (ست) حين قتله فرق أعضاءه بين البقاع لكيلا يعثر علي جثته أحد من المطالبين بثأره ، ولكن إيزيس جمعت هذه الأعضاء وتعهدتها بالصلوات والأسحار حتي دبت فيها الروح من جديد وحملت منه بحوريس الذي قدح عمه في نسبه . وقد حاول أوزيريس أن يعود إلي الملك فأخفق في محاولته وقنع بالسيادة علي عالم (المغرب) حيث تغيب الشمس وتنحدر إلي عالم الأموات .
وللخصب شأن لا يستغرب في ديانة مصر القديمة . فهم يرمزون إلي الكون كله ببقرة تطلع من بطنها النجوم ، أو بامرأة تنحني علي الأإرض بذراعيها ويسندها (شو) إله الهواء بكلتا يديه ، وأقدم ما تخيلوه في أصل العالم المعمور أنه عليم واسع من الماء طفت عليه بيضة عظيمة خرج منها رب الشمس وأنجب أربعة من الأبناء هم (شو) و(تفنوت) القائمان بالقضاء (وجب) رب الأرض (وتوت) رب السماء . ثم تزاوجت السماء والأرض فولد لهما أوزيريس وإيزيس وست ونفتيس ، فهم تسعة آلهة في مبدأ الخليقة نشأوا من تزاوج الأرض والسماء . ثم استقر الأمر لثلاثة من هؤلاء هم أوزيريس وإيزيس وحورس ، وهناك صيغة أخري من قصة الخلق فحواها أن (رع) نفسه –إله الشمس- كان ملكا علي مصر في زمن من الأزمان ، ويستدلون علي ذلك بخلاصة قصته المتداولة في الأساطير : وهي أن رع ملك الدنيا قبل سكانها من البشر فتمرد عليه رعاياه فسلط عليهم ربه النقمة (حاتحور) ثم أشفق عليهم من قسوتها فاعتزل الدنيا وحملته بقرة السماء علي ظهرها فأقام هناك واندمج شخصه بعد حين بشخص أوزيريس .
وقد فعل غربال الزمن فعله في تصفية هذه العقائد والأرباب . فنسي أوزيريس السلف المعبود ورسخ في الأذهان وصف أوزيريس الشمس القائمة علي المغرب أو عالم الأموات ، وتوحدت عبادة الشمس بمعناها وتعددت بأسمائها مواعدها ، وجمعت بينها كلها عبادة (أمون) ثم عبادة أتون .
وعبادة (أتون) هي أرقي ما وصل إ_ليه البشر من عبادات التوحيد في القرن الرابع عشر قبل الميلاد .. فلم يكن المراد بأتون قرص الشمس ولا نورها المحبوس بالعيون ، ولكن عبادة الشمس كانت رمزا محسوسا للإله الواحد الأحد المتفرد بالخلق في الأرض والسماء ... وإنما جاء هذا الطور بعد تمهيدات دينية وسياسية تهيأت لمصر ولم تتهيأ لغيرها من الدول الكبري في تلك الفترة .. فكانت في أقاليم القطر –قبل ظهور عبادة أتون – ثلاث عبادات (شمسية) تتنافس في المبادئ الروحية ووسائل النفوذ التي تتغلب بها علي النظراء .
فكانت منف تدين لإله الشمس باسم (فاتح) .. وكانت عين شمس أو (هليوبوليس) تدين له باسم رع وأحيانا باسم (أتوم) . وكانت طيبة تدين له باسم (أمون) .
ويتبين من مراجعة الدعوات والصلوات المحفوظة أن عبادة (فتاح) كانت أقرب هذه العبادات إلي المعاني الروحية فارتفع (فتاح) من صانع حاذق بالبناء والتماثيل وسائر الصناعات إلي صانع مختص بإقامة الهيكل المقدس الذي أصبح في اعتقادهم مثالا للعالم بأرضه وسمائه ، وما هي إلا خطوة واحدة بين بناء الهيكل الذي يمثل العالم كله وبناء العالم كله من أقدم الأزمان قبل خلق الإنسان . وارتفع فتاح طبقة أخرى في مدارج القدرة والتنزه عن النظراء ، فتعالي عن الأجساد الشاخصة للحس وتمثل لعبادهروحا مسيطرة علي كل حركة وكل سكون في جميع المخلوقات . من ذات حياة وغير ذات حياة .فكان فتاح كما جاء في إحدي صلواته هو (الفؤاد واللسان للمعبودات ، ومنه يبدأ الفهم والمقال ، فلا ينبعث من ذهن ولا لسان فكر أو قول بين الأرباب أو الناس أو الأحياء أو كل ذي وجود إلا وهو من وحي فتاح ..)
وما وجد شيء من الأشياء قط إلا بكلمة من لسانه صدرت عن خاطر في فؤاده . فكلمته هي الخلق والتكوين .
ويري المؤرخ الكبير برستيد أن عقيدة فتاح هي أساس مذهب الخلق بالكلمة Logos عند الإغريق الأقدمين . فلا حاجة بالخالق إلي أداة للخلق غير أن يشاء ويأمر فإذا بما شاء موجود كما شاء . ومن المحتمل جدا أن كهان تلك العصور تدرجوا إلي فهم قوة الكلمة الإلهية من فهمهم لقوة الكلمة علي لسان الساحر وقوة الكلمة علي لسان المبتهل بالصلاة .
ونسج كهان عين شمس علي منوال كهان منف في تنزيه رع وتجريده من ملابسات الحس والتجسيد ، ولا سيما بعد تفرغهم للعبادة الروحية وانصرافهم إليها كما تعاظم سلطان الكهان في طيبة وتفاقمت سيطرتهم علي مناصب الدولة ، وهم كهان أمون .
وقد توطدت كهانة أمون كهانة أمون في أيام المملكة الوسطي وبلغت أوجها بعد عهد تحوتمس الثالث أكبر ملوك الأسرة الثانية عشرة ، ومرشح أمون – أو كهان أمون بعبارة أخري للسيادة المطلقة علي أرجاء البلاد .
واتسعت الدولة المصرية في عهد تحوتمس الثالث حتى تجاوزت حدودها بلاد النوبة والصومال في الجنوب ، وامتدت إلي الفرات وآسيا الصغري في الشرق والشمال ، وكان اتساع الأفق في السياسة مقترنا باتساع الأفق في تصور العالم وما ينبغي لخالقه من التعظيم والتنزيه ، فارتقي الفكر الإنساني في هذا العهد من البيئة المحلية إلي بيئة عالمية ، ثم إلي بيئة أبدية تنطوي فيها أبعاد المكان والزمان .
وطغي نفوذ الكهان الأمونيين علي كل نفوذ في البلاد من جراء هذه القربي بينهم وبين الملك العظيم . فاستأثر رئيسهم بلقب (الرئيس)في أنحاء الديار ، وضيقوا الخناق علي كهان رع وفتاح ، ولزموا حدودهم مع الملك العظيم في أثناء حياته لقوته ورهبته وعلو اسمه بالمظافر والفتوح ، وفرط ما أغدق عليهم من الهبات والحبوس والأوقاف ، ولكنهم ذهبوا في الطغيان كل مذهب علي عهد خلفائه ، فطمعوا في نفوذ الملك بعد اطمئنانهم إلي نفوذ الدين .
ومن هنا خطر للملوك خاطر الخلاص من هذا النفوذ ، فتكلم أمنحتب الثالث عن أمون في بعض أوامره وتسجيلاته آخر وهو اسم آتون .
وساعد علي هذا التبديل الطفيف أن صفات الإله في أذهان المصريين كانت أقرب إلي صفاته عند كهان منف وعين شمس ، وأن مسالك الكهان الدنيويين من شيعة أمون لم تكن وفاق الآداب والعادات التي استلزمها ارتقاء المصريين في فهم كمال الإله .
فلما تولي الملك أمنحتب الرابع –أوأخناتون كما تسمي بعد ذلك- كان التمهيد للعبادة الجديدة قد بلغ مداه ، وكان اتساع الأفق في النظر إلي الدنيا والنظر إلي صفات خالقها قد وسع له المجال للابتكار والتجديد ، وأعان عبقرية علي التدعيم علي التدعيم بعد التمهيد .
وقد حفظت لنا النقوش والتماثيل والألواح وأوراق البردي كثيرا من أخبار أخناتونوأحواله وملامحه وسيرته في مملكته وفي مملكته وفي بيته ، وتكفي لمحات عابرة إلي شكل جمجمته وتركيب بنيته وأساليب تفكيره ومناحي عباداته للعالم بأنه كان عبقريا من أولئك العباقرة الملهمين ، الذين يحدثنا النفسانيون أنهم يتلقون العبقرية علي حساب أبدانهم وهناءتهم في حياتهم في حياتهم كما نقول في تعبير هذه الأيام .
وكان الفتي أخناتون حدثا نائيا عند ولاية الملك ، معروفا بالعكوف علي التأمل والتفكير والخلوة بنفسه في صلواته ومناجاته ، وكان لطيف الحس حالم النفس منصرفا عن البأس والقوة ومتابعة الفتوح والغزوات التي توطد بها ملك آبائه وأجداده فطمع فيه كهنة آمون ، وخيل إليهم أنهم مالكون زمام الأمر كله علي يديه .
غير أن الفتي الحالم كان عبقريا يحب الابتكار والتفقه في العبادة بالعقل والبداهة المستقلة ، ولم يكن تقليديا يلقي بزمامه لمن يسيطر عليه .
وكان مع لطف حسه قوي النف صعب المراس ، فاستنكر دسائس الأمونيين وتهافتهم علي المناصب والأموال .
فقمعهم قمعا شديدا ومحا اسم آمون من كل مكان حتي هياكل أبيه واسمه الذي يبدأ باسم أمون ، وجهر بعبادة (آتون) دون سواه ، وهجر العاصمة التي ساد فيها هذا الإله إلي عاصمة أخري في أواسط الصعيد ، وهبها لربه الواحد الأحد وسماها (آخت آتون) .
وألغي جميع الأرباب وأعوانهم من الأرواح والجنة ، وأولهم الرب القديم أوزيريس ، فكان هذا سببا من أسباب غلبته يومئذ ، وأسباب التمرد عليه بعد حين .
ومن صلوات أخناتون تعرف صفات الله الذي دعا إلي عبادته دون سواه ، فإذا هي أعلي الصفات التي ارتقي إليها فخم البشر قديما في إدراك كمال الإله .
فهو الحي المبتدئ الحياة ، الملك الذي لا شريك له في الملك ، خالق الجنين وخالق النطفة التي ينمو منها الجنين ، نافث الأنفاس الحية في كل مخلوق ، بعيد بكماله قريب بآلائه ، تسبح باسمه الخلائق علي الأإرض والطير في الهواء ، وترقص الحملان من مرح في الحقول فهي فهي تصلي له وتستجيب لأمره ، ويسمع الفرخ في البيضة دعاءه فيخرج إلي نور النهار واثبا علي قدميه ، قد بسط الأرض ورفع السماء وأسبغ عليهما حلل الجمال ، وهو ملء البصر وملء الفؤاد ، وهو الوجود وواهب الوجود ، وشعوب الأرض كلها عبيده لأنه هو الذي أقام كل شعب في مواطنه ليأخذ نصيبه من خيرات الأرض ومن أيام العمر في رعاية الواحد الأحد آتون .
وقد عقد كل من هنري برستيد وارثر ويجالWeigall مقارنة بين صلوات أخناتون وأحد المزامير العبرية فاتفقت المعاني بينهما اتفاقا لا ينسب إلي توارد الخواطر والمصادفات .
ومن أمثلتها قول أخناتون : (إذا
ما هبطت في أفق المغرب أظلمت الأرض كأنها ماتت .. فتخرج الأسود من عرائنها والثعابين من جحورها ) ..
ويقابله المزمر الرابع بعد المائة وفيه (أنك تجعل ظلمة الليل فيصير ليل يدب فيه حيوان الوعر وتزمجر الأشبال لتخطف ولتلتمس من الله طعامها) .
ويمضي المزمور قائلا : (.. تشرق الشمس فتجتمع وفي مآويها تربض والإنسان يخرج إلي عمله وإلي شغله في المساء . ما أعظم أعمالك يارب كلها بحكمة صنعت . والأرض ملآنة من غناك ، وهذا البحر الكبير الواسع الأطراف . وهنا ك دبابات بلا عدد صغار مع كبار . هناكتجري السفن ، ولو باثان (التمساح) خلقته ليلعب فيه) ..
ومثله في صلوات أخناتون : (ما أكثر خلائقك التي نجهلها أنت الإله الأحد الذي لا إله غيره خلقت الأرض بمشيئتك وتفردت فعمرت الكون بالإنسان والحيوان الكبار والصغار) .
(.. تسير السفن مع التيار وفي وجهه ، وكل طريق يتفتح للسالك لأنك أشرقت في السماء . ويرقص السمك في النهر أمامك ، وينفز ضياؤك إلي أغوار البحار) .
(.. وتضيء فتزول الظلمة .. وقد أيقظتم فيغتسلون ويسعون ويرفعون أيديهم إليك .. ويمضي سكان العالم يعملون) .
وقد خطر لويجال –كما مقال في كتابه عن الحياة أخناتون وعصره- أن آتون وآتوم تصحيف (أدوناي) بمعني السيد أو الإله في اللغه العبرية ، وأن أخناتون ورث آراءه من أمة وهي تنتمي إلي سلالة أسيوية من شعر يقيم بين سوريا و أسيا الصغري ، حيث يعبد أدوناي أو أتون علي مختلف اللهجات .
وهذا وهم جلبه التشابه في الأسماء . لأن (آتوم) من أقدم الأرباب المصرية في معابد رع ، وقد كان رب الكون حيث لاشيء غير اللجة الطخياء المسماه في الأساطير المصرية (نون) .. وجاء في الفقرة السابعة عشرة من القسم الأول في كتاب الموتي علي لسانه : (... وأنا أقوم متفردا في نون ، وأنا رع حيث يبزغ مع الفجر ليبسط يديه علي الدنيا التي خلقها) ..
وكانوا يمثلونه علي تمثال رجل ملتح يضع علي رأسه تاجي القطرين ، أي التاج الأحمر لمصر السفلي والتاج الأبيض لمصر العليا مجتمعين ، ويجعلونه رئيس مجلس الآلهة باسم رع هيرختي أتوم Ra Herakhty-atun .
فهو رب أصيل وليس بالرب المستعار ، ولا شبه بينه وبين أدو ناي أو أدونيس –في صيغته اليونانية- لأن أدونيس رب الربيع والغرام يتخيلونه في ميسم الشباب ويزعمونه زوج فينوس أو الزهرة ، ولا شيء من هذا في خصائص آتوم الذي يبدو علي مثال الكهول ذوي اللحى ، ويتقلد مفتاح الحكم والحكمة ، ويرجع إلي مبدأ الخليقة حيث لا شيء غير الماء والظلام .
والأرباب الشمسيون أشبه بهياكل عين شمس لأنها أرباب أصيلة فيها لا تحتاج تلك الهياكل إلي استعارتها من ديانة أجنبية ولا سيما الرب الذي يحمل تاجي القطرين ويرأس المحكمة الإلهية في السماء .
وقد كانت لظهور آتون تمهيدات لأزمة لم تحدث في غير المملكة المصرية ، وهي تمهيدات الإمبراطورية ، وتمهيدات التنافس بين آمون ورع وفتاح وتمهيدات العبقرية التي تبشر بالدين الجديد .
وكانت لآتون خصائص متفردة لم يشركه فيها إله آخر من آلهة الأمم القريبة إلي مصر ، وهذا هو المهم في نشوء الديانات وليس المهم مجرد التشابه في مخارج الحروف . فليس أدونيس عند اليونان كأدوناي عند العبريين ،وليس هذا ولا ذاك كأتوم في معبد عين شمس أو غيره من المعابد المصرية ، وليس هؤلاء جميعا كالإله أتون الذي دعا إليه أخناتون . فلا وجود لآتون بهذه الخصائص لو لم تسبقه التمهيدات القديمة التي مرت بعبادة آتوم في مصر ، ومنها اتساع الدولة وإيمان المصريين بصفات رع وفتاح وآمون ، وحاجة الزمن إلي فهم جديد لصفات الكمال في الإله ، ثم عبقرية أخناتون التي تممت بابتكارها واجترائها ما بدأه التاريخ .
وقد كان عرب الجاهلية مثلا يعرفون اسم الله كما نعرفه اليوم ، ولكن الله الذي وصفوه والله الذي وصفه الإسلام لا يتشابهان بغير الحروف ، وبينهما من الفارق كما بين أبعد الأرباب .
علي أن ويجال يقابل بين معاني أخناتون ومعاني المزمور فيرجع الاستعارة بينهما ، ويعود فيرجح أن أخناتون ومعاني المزمور فيرجع الاستعارة بينهما ، ويعود فيرجح أن أخناتون كان في غني عن الاستعارة لما طبع عليه من العبقرية الدينية وما اتسم به كلامه من طابع الابتكار .
وقد تناول (فرويد) مسألة المقابلة بين عقائد أخناتون والعقائد العبرية فألف آخر كتبه في موضوع هذه المقابلة وسماه (موسي والوحدانيةMoses and monotheism) وانتهي من مقابلاته وفروضه إلي تقرير رأيه المرجح لديه : وهو أن موسي عليه السلام تربي بمصر في كنف الوحدانية ونشأ في أعقاب المعركة بين آتون وآمون ،واستعد للنبوة في هذه البيئة الموحدة فعلم بني إسرائيل كيف يوحدون الله ويعظمون صفاته وآلاءه وكان خروج بني إسرائيل فيما بين القرن الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد ، أي في الجيل الثاني لانتشار التوحيد بالبلاد المصرية .. واسترسل فرويد في تقديراته –وهو من بني إسرائيل- حتى ظن أن موسي عليه السلام من دم مصري ، وليس من اللاويين كما جاء في العهد القديم .
ولكن المحقق أن بني إسرائيل قد أخذوا كثيرا من عقائد المصريين وشعائرهم قبل عهد أخناتون بعدة قرون ، وبعده بعدة قرون .
إلا أن الدعوة –دعوة أخناتون- كانت صحوة وجيزة تبعتها نكسة سريعة من جراء الأحداث السياسية التي أحاطت بالدولة ، ومن كيد الكهان المخلوعين في طيبة وما جاورها ، وهم كهان أمون الأقوياء الذين سلبهم أخناتون مناصبهم وحبوسهم وسيطرتهم علي العرش والمحراب . ولعلهم كانوا مخفقين في كيدهم لو اصطنع هذا المصلح الكبير شيئا من الدهاء ولم تدفعه الحماسة الروحانية وراء كل تقدير وتدبير . لأنه هجم علي الشعب في أعز العقائد عليه وهو عقيدته في أساطير عالم الأموات وشعائر الإله أوزيريس رب المغرب والخلود . فأنكر سلطان أوزيريس علي الأرواح وجرده من قدرة الحكم عليها بالعقاب أو العذاب . فلم يؤمن بجحيم أوزيريس ولا بجحيم غيره ، وبشر الناس بحياة خالدة كحياة الأطياف .. تحياها الروح بين الهدوء في ظلمة الليل واستقبال الضياء من وجه آتون .
ولهذا بقيت عبادة أوزيريس بين المصريين كما بقيت بين اليونان والرومان وانطوت أيام آتون بانطواء أيام نبي آتون .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهند
ترجع الديانة الهندية القديمة إلي أزمنة أقدم من العصر الذي دونت فيه أسفارها المعروفة بالكتب الفيدية .
ويختلف المؤرخون المختصون بالهند في العصر الذي تم فيه هذا التدوين ، فمنهم من يرده إلي ألف وخمسمائة سنة قبل الميلاد ، ومنهم من يرده إلي ستة آلاف سنة قبل الميلاد . ولكنهم لا يختلفون في سبق الديانة الهندية لهذا العصر بزمن طويل .
ومن المتفق عليه أن الديانة الهندية القديمة مزيج من شعائر الهنود الأصلاء وشعائر القبائل الآرية التي أغارت علي الهند قبل الميلاد بعدة قرون . وقد كانت هذه القبائل الآرية تقيم علي البقاع الوسطي بين الهند ووادي النهرين . فاتجهت طائفة منها غربا إلي أوربة ، واتجهت طائفة منها شرقا إلي الأقاليم الهندية من شمالها إلي جنوبها علي السواحل الغربية، قبل أن توغل منها إلي جميع أنحاء البلاد .
ويعتقد فريق من المؤرخين أن الديانة الهندية القديمة لا تخلو من قبس منقول إليها من البابلية والمصرية ، ويعللون ذلك بتوسط الموقع الذي قام فيه الآريون الأولون ، وأنهم لم تكن لهم في موقعهم ذاك حضارة سابقة لحضارة مصر وبابل وأشور . فلا خلاف في أن تاريخ الأسرة مصرية أسبق من تاريخ الكتب الفيدية وأسبق من كل حضارة عرفها التاريخ للآريين، حيثما أقاموا من البقاع الآسيوية أو الأوربية .
وقد اشتملت الديانة الهندية القديمة علي أنواع شتي من الآلهة التي تقدمت الإشارة إليها .. ففيها آلهة تمثل قوي الطبيعة وتنسب إليها . فيذكرون المطر ويشتقون منه اسم (الممطر) فهو الإله الذي يتوجهون إليه في طلب الغيث . ومن هنا اسم (أندر) إله السحاب المشتق من كلمة (أندر) بمعني المطر أو بمعني السحاب .
وكذلك يذكرون إله النار وإله النور وإله الريح وإله البحار ويجمعونها في ديانة شمسية تلتقي بأنواع شتي من الديانات .. وأقدم معاني الألم عندهم معني (المعطي) أو ديفا Deva بلغتهم التي بقيت آثار منها في اليونانية واللاتينية وبعض اللغات الأوربية الحديثة . فكلمة (ديو) الفرنسيةDieu وكلمة ديتيDeity الإنجليزية وكلنة زيوس اليونانية القديمة مأخوذة من أصلها الهندي المتقدم . ويرجحون أن جوبيتر عند اللاتين –وهو(المشتري) في اصطلاح علم الهيئة- هو مزيج من كلمة المعطي وكلمة الأب ، بمعني أبي العطاء أو الأب المعطي للجميع ، كلمة الأب في أكثر اللغات الأوربية متفرعة من هذا الجذر الأصيل وهما في الهندية القديمة ديوس بيتار Dyaus-petar إذ لا تزال علي تعدد اللهجات ومخارج الحروف .
واشتملت البرهمية القديمة علي عبادة الأسلاف كما اشتملت علي عبادة المظاهر الطبيعية ، فتقديس الملك عندهم إنما هو تقليد موروث من تقديس جد القبيلة ، تحول إلي تقديس الرئيس الأكبر في الدولة بعد أن تحولت القبيلة إلي الأمة ويحسب العلامة اليوت سميث –كما قال في كتابه (المبادئ) The Beginning أن مواسم تقديس الملك التي لا تزال مرعية في جوار الهند كانت تحاكي مراسم قصة الخليقة كما تخيلها المصريون .. فلم يكن حق الملك مستمدا من الجلوس علي العرش أو من البناء بالملكة التي تنقل إليه حقوقه الملكية ، ولكنه يتولى هذا الحق بعد تقديسه في حفل يمثل قصة الخليقة ،وكأنهم يعنون بهذا أن الملك يستمد من ذلك التقديس قدرته علي الخلق ومنح الحياة ، وهي قدرة لا غني عنها لاضطلاعه بالفرائض الملكية) .
وقصة الخليقة في الهند تشبه قصة الخليقة المصرية في أكثر من صيغة واحدة من صيغها العديدة : فالحياة خرجت من بيضة (ذهبية) كانت تطفو علي الماء في العماء ، والإله الأكبر كان ذكرا وأنثي فهو الأب والأم للأحياء كما جاء عن (رع) في بعض الأساطير المصرية، وبناء العالم من صنع بناء ماهر في أساطير مصر والهند علي السواء ، وتتفق مصر وبابل والهند علي الإله الأكبر قد خلق الأرض بكلمة ساحرة .. فأمرها بأن توجد فبرزت علي الفور إلي حيز الوجود .
وتعززت في الهند عبادة (الطوطم) بعقيدتهم في وحدة الوجود وتناسخ الأرواح كما تعززت بعقيدة الحلول .. فعبدوا الحيوان علي اعتباره جدا حقيقيا أو رمزيا للأسرة ثم للقبيلة .ثم تخلفت عبادة الحيوان حتى منوا بأن الله يتجلى في كل موجود أو يخص بعض الأحياء بالحلول فيه ، وآمنوا بتناسخ الأرواح فجاء عندهم أن يكون الحيوان جدا قديما أو صديقا عائدا إلي الحياة في محنة التفكير والتطهير. فعاشت عندهم الطوطمية في أرقي العصور كما عاشت في عصور الهمجية ، لهذا الامتزاج بين الاعتقاد الحديث والاعتقاد القديم . لكنهم خلصوا كما خلص غيرهم من هذه العبادات إلي الإيمان بالإله الواحد ، وإن اختلفوا في المنهج الذي سلكوه . فلم يكن إيمانهم به علي الأساس الذي قام عليه إيمان الشعوب الأخرى بالتوحيد .
فهم قد بدأوا بإبطال جميع المظاهر فنسبوا إليها التعدد والاختلاف لأنها تتكرر وتزول وتستر من ورائها الحقيقة الأبدية التي لا تتكرر ولا تزول ، وتلك هي حقيقة القضاء والقدر ، التي تقدر للآلهة وتقضي عليهم كما تقدر لسائر الموجودات وتقضي عليها في أجلها المحدود .. وهنا ذهب حكماؤها إلي مذهبين غير متفقين : فبعضهم تمثل تلك الحقيقة إلها واحدا قريبا من الإله الواحد في أكثر ديانات التوحيد . قال ماكس موللر الثقة الحجة في اللغات الآرية : (أيا كان العصر الذي تم فيه جمع الأناشيد المسطورة في الرجفيدا فقبل ذلك العصر كان بين الهنود مؤمنون بالله الأحد الذي لا هو بذكر ولا بأنثي ولا تحده أحوال التشخيص وقيود الطبيعة الإنسانية ، وارتفع شعراء الفيدا في الواقع إلي أوج في إدراكهم لكنه الربوبية لم يترق إليه مرة أخري غير أناس من فلاسفة الإسكندرية المسيحيين ، ولكنه فوق هذا لا يزال أرفع وأعلي مما يطيف بأذهان قوم يدعون أنفسهم بالمسيحيين) .
وتبدو مداناة هؤلاء البراهمة لمذاهب الموحد المؤمن (بالذات الإلهية) من إيمانهم بالخلاص علي يد الله ، وبقاء فريق منهم بعد ذلك بمئات السنين ينقسمون في شرح سبيل الخلاص علي نهجهم الذي لا نستغربه من قوم يعظمون الحيوان ذلك التعظيم . فمنهم من يسمي سبيل الخلاص بالسبيل القردية ومنهم من يسميها بالسبيل القطية ، ويقصدون بهذه التسمية أن الله يخلص الإنسان إذا تشبث به كما يتشبث ولد القرد الصغير بأمه وهي تصعد به إلي رؤس الأشجار ، أو أن الله علي اعتقاد الآخرين يخلص الإنسان وهو مغمض العينين مستسلم للقضاء ، كما يستسلم ولد القطة لأمه وهي تحمله مغمضا من مكان إلي مكان .
فالله الذي يخلص عباده هذا الخلاص أو ذاك هو(ذات) علي كلتا الحالتين يتشبث بها العبد أو يستسلم لقضائها فتسهر عليه وإن غفل عنها .
ويتسمي هذا الإله بثلاثة أسماء علي حسب فعل في الوجود . فهو برهما حين يكون الموجود الخالق ، وهو فشنو حين يكون الواقي المحافظ ، وهو سيفا حين يكون المهلك الهادم . ولا نهاية للتداخل ولا للترجيح بين هذه الأسماء والوظائف والأفعال ، علي تباين النحل والملل والأجيال .
أما الفريق الثاني فالحقيقة الأبدية عنده معني ليس له قوام من (الذات) الواعية ، وإنما هو قانون يقضي بتلازم الآثار والمؤثرات ، ويقابل الاعتقاد بالقضاء والقدر عند المؤمنين بالأديان الكتابية ، ونعني بها الإسرائيلية والمسيحية والإسلام .
إلا أنه قضاء يسري علي الآلهة كما يسري علي البشر ، ويتغلغل في في طبائع الخالقين كما يتغلغل في طبائع المخلوقات ، وحكمة الذي لا مرد له هو حكم التغير الدائم والفناء، وحكم الإعادة والإبداء .
ولا نحسب أن أحدا من الأقدمين بلغ في إعظام الأكوان المادية مبلغ البراهمة ، سواء في تقدير السعة أو تقدير القدم أو تقدير البقاء . فإن أناسا من الأقدمين لم يجاوزوا بعمر الأكوان المادية بضعة آلاف سنة . وأناسا منهم جعلوا لها خلقا واحدا وفناء واحدا خلال أجل مقدور من القرون . ولكن البراهمة جعلوا له أربعة أعمار تساوي اثنتي عشر ألف سنة إلهية وأربعة ملايين وثلاثمائة وعشرين ألف سنة شمسية ، وبعض المتأخرين يضاعفها ألف ضعف ويقولون جميعا أنها دورة واحدة من دورات الوجود ، وأن هذه الدورة هي يوم يقظة يقابله ليل هجوع ، ينقضي بين كل دورة فنيت وكل دورة آخذة في الابتداء .
والقانون الأبدي karma يقلب الأدوار فيبدئها ويحفظها ويفنيها ثم يختم هذا النهار بليل من الليالي الهجوع ، ثم يعود فيطلع النهار كرة أخري أخري دواليك إلي غير انتهاء ، لأنه لا انتهاء للزمان .
ويتضائل الإنسان الفاني كلما تعاظم هذا الفناء الخالد أو هذا الخلود الذي يتجدد بالفناء ، فليس للإنسان حساب كبير في هذه الحسبة الأبدية . لأنه (رقم) ضئيل يغرق في طوفان الأرقام التي لا يحيط بها العد والإحصاء .
وعلي هذه القاعدة قامت البوذية التي بشر بها البوذا جوتاما قبل الميلاد المسيحي بحوال خمسة قرون .. فقيل (جوتاما) بمئات السنين كان نساك الهند يتغنون بمضامين النشيد المرهوب الذي ترجمه ماكس موللر إلي الإنجليزية وجاء فيه عما كان قبل أن كان أو يكون :
(حينذاك لم يكن ما وجد أو ما لم يوجد ، ولم يكن ما تثبته وما لا تنفيه .
(لا أجواء ولا سماء وراء الأجواء) .
(وماذا عساها تنطوي عليه ؟ أين كانت وأين قرارها ؟ أهي هاوية الماء التي ليس لها من قرار ؟) .
(لم يكن موت : فلم يكن خلود) .
(لم يكن ما يموت فلم يكن ما ليس يموت) .
(ولم يكن ثمة نهار ولا ليل . ولم يكن إلا (الأحد) يتنفس حيث لا أنفاس . ولا شيء سواه) .
(وكان البدء في ظلام : عليكم بلا ضياء) .
(ومن البذرة في تلك القشرة (الأحد) بحرار الحياة) .
(وانتصر الحب حين نبتت البذرة من لباب العقل السرمدي ، وناجي الشعراء قلوبهم فتبينوا بالحكمة ما هو مما ليس هو . فقد نفذ شعاع القلب خلال ما هنالك ، فماذا نظروا فوق الأحد وماذا نظروا دونه ؟ كل ما هنالك حمله لبذور . قوي : قوة من أدني ومشيئة من أعلي . ولا أحد يدري . ولا من يعلم من أين جاء ما جاء . فإنما جاءت الأرباب بعد ذلك . فمن إذن يعلم ما جري ؟ أهو الذي حدثت منه الخليقة ؟ لعل الذي يعرفه (أحد) واحد في أعلي عليين .ولعله لا يدري كذلك ..
وقبل (جوتاما) آمن البراهميون بالدورة في وجود الكون والدورة في وجود الإنسان . فالكون يتجدد حلقة بعد حلقة ، والإنسان يتنقل في جسد بعد جسد ، وسلسلة الأكوان ليس لها انتهاء ، وسلسلة الحياة الإنسانية قد تنتهي إلي السكينة أو الفناء .
فالبوذية إنما قامت علي أساس البرهمية في كل عقيدة من عقائد الأصول . وإنما تميزت البوذية بتبسيط العقائد لطبقات من الشعب غير طبقات الكهان ، فأخرجتها من حجابها المكنون في الحاريب إلي المدرسة والبيت وصفوة المريدين ، ولا تعتبر البوذية إضافة في صميم العقائد الدينية بل إضافة في آداب السلوك وفلسفة الحياة ، وإضافة في عرض الآراء علي غير المستأثرين بها قديما من سدنه الهيكل والمحراب .
وخلاصة الفلسفة التي أتي بها البوذا جوتاما هي تقريره هذه المبادئ الأربعة وهي :
(أولا) أن هناك عذابا وشقاء ، و(ثانيا) أن هناك سببا للعذاب والشقاء ، و(ثالثا) أن هذا السبب قابل للزوال ، و(رابعا) أن وسيلة الانتهاء إلي هذه الغاية موجودة لمن يختار.
أما سبب الشقاء فهو الجهل الذي جعلنا نتعلق بالأوهام وننسي لباب الأمور ، أو نتعلق بالعرض ونعرض عن الجوهر الأصيل .
والعرض هو كل ما يزول ويتغير ، وهو من شرد وفساد . وكل ما نحسة هو عرض تشمله لعنة الزوال . فما من شيء ثم (يكون) بل كل شيء يصير ولا يكف عن التغير . أو كما قال : (إن الناس يؤمنون بالثنائية ، فيؤمنون بأن الشيء إما كائن وإما غير كائن . ولكن الناظر إلي الأمور بعين الصدق يعلم أن الرأيين طرفان متطرفان ، وأن الحقيقة وسط بين الطرفين) .
وعلي هذا النحو ينكر البوذا وحدة (الشخصية الإنسانية) لأنها لا تتجاوز أن تكون تلاحقا مستمرا للأحاسيس يبدو لنا كأنه حزمه مضمونة في كيان واحد . ومفسروه في العصر الحديث يمثلون لذلك بشروط الصور المتحركة الذي يلوح لنا شيئا واحدا وهو خطفة بعد خطفة من الألوان والظلال .
وإذا كان الشقاء في التطرف بالحس إلي النقيضين ، فالخلاص من الشقاء لا يتأتي بغير الاعتدال بين كل طرفين ، وبهذا نميط عنا غشاوة الخداع الذي يتراءي علي ظاهر الأشياء للنفاذ إلي ما وراءها من سر الوجود .
فلا استغراق في إرضاء الحس ولا استغراق في قمعه وتجريده ، بل توسط بين الغايتين في أمور الحياة الثمانية ، وهي الفهم والعزم والكلام والسلوك والمعيشة والعمل والتأمل والفرح .
فالفهم طرفاه التصديق بكل ما يقال وإنكار كل ما يقال . والوسط بينهما التمييز بين الباقي والزائل والظاهر والباطن والثابت والذي ليس له ثبوت .
والعزم طرفاه التهافت والإهمال . والوسط بينهما إرادة الحكمة متي تبين السبيل إليها بالفهم الصحيح .
والكلام منه المهجور ومنه المطروق . والوسط بينهما قول الصدق وصون اللسان عن العيب والنميمة والمحال .
والسلوك طرفاه المحاباة مع الغرض والإجحاف مع الغرض والوسط قوام بين الغرضين لا ينقاد لهذا ولا لذاك .
والمعيشة الصالحة قوامها أن يتخير الإنسان رزقا حلالا يتورع فيه عن التكسب بما يضر الآخرين .
والعمل الصالح أن يعرف ما يبتغيه ويقيس طاقته علي مراده ويلتزم في كل ما يريد جادة الرشد والحكمة والإنصاف والتأمل الصالح سلام العقل وصفاء البصيرة ونبذ الوهم والعكوف علي الحق البريء من النزعات .
والفرح الصادق هو فرح الرضوان الذي يتاح للإنسانفي هذه الحياة فيبلغ به ملكوت (النرفانا) الأرضية في انتظار النرفانا الصمدية ، وهي السكينة أو الفناء ، وبينها وبين العدم فرق كبير . لأنها وهي وجود يفني في وجود ، ويفسرها بعض العصريين من أذكياء البوذيين بفناء ألان الطيف في البياض الناصع الذي ليس له لون ، وهو ملتقي جميع الألوان .
وبهذه الآداب ينجو الإنسان من رباط ذلك الدولاب الدائر بالولادة والموت والتجدد في حياة بعد حياة وجثمان راء جثمان ، فيدخل في (النرفانا) ولا يولد بعد ذلك ولا يموت .
وحكمه في هذا المصير حكم الأرباب والملائكة وحكم السماوات والأرضين . فكلها خاضع لقانون القضاء والقدر الذي لا فكاك منه لموجود ، وكلها عرضة للتفكير والتطهير والتحول والتغيير ، ثم للذهاب في غمرة الفناء الأخير.
وموضع التناقض في هذه الفلسفة أنها تنكر (الشخصية الإنسانية) ولا تعترف بالذات أو بالروح وهي مع هذا تؤمن بتناسخ الأرواح وثبوت شيء في الإنسان يبقي علي التنقل بين الأجساد والدورات .
وأنها تؤمن بالكل أو (المطلق) الصمدي الوجود ، ثم تنفي عنه الذات كما تنفيها عن الإنسان . مع أن الكل بغير ذات لا يكون كلا بمعني من معاني الكلمة ولكنه شتات من أجزاء متفرقات .
وعلينا أن نحترس من مغالاة الشراح الأوربيين بهذه الفلسفة البوذية . لأنهم يتعصبون لكل منسوب إلي الآرية علي اعتبارها عنصر الأوربيين الأقدمين والمعاصرين .
فقد رفعوها فوق قدرها بلا مرااء ، وزعمواأنها جرأة العقل الكبري) في مواجهة المشكلة الكونية ، وأنها الخطوة المقتحمة التي لم يذهب وراءها ذو عقيدة في مطاوح التأمل والإقدام .
لكنها لا تحسب من الجرأة العقلية بوصف من الأوصاف ، فما هي إلا جرأة حسية في أقصي ما تطوحت إليه من الفروض والأظانين ، وما البوذية كلها إلا تململا من وطأة الحس والجسد ، ولا سعادتها القسوي إلا ضيقا بالحس وهربا منه إلي الفناء أو (اللاوعي) علي أحسن تقدير .
والمحسوس عندها شامل للمعقول ، والكائن بحق الحس عندها شامل للكائن بحق العقل وحق الوعي وحق الذات .
والآلهة عندما تأتي في المرتبة التالية بعد مرتبة الأكوان وما ارتفعت الأكوان عندها إلي هذة المرتبة إلا بأنها هي المحسوس ، وهي أول ما يفاجئنا قبل أن نفكر وقبل أن نتأمل وقبل أن ندين باعتقاد .
___________________________
الصين
أما الصين فإنها –كالمنتظر من أمة في ضخامتها وكثرة شعوبها وترامي أطرافها- قد اختبرت جميع أنواع العبادات من أدناها إلي أرقاها .
ولكنها –علي كثرة العبادات التي دانت بها – لا تحسب من أمم الرسالات الدينية كمصر وبابل والهند وفارس وبلاد العرب وفلسطين . لأنها لم تخرج للعالم قيما دينية تلقاها منها ، وهي باصطلاح التجارة تحسب من الأمم المستنفذة في مسائل الديانات . لأنها أخذت من الخارج قديما وحديثا عقائد البوذية والمجوسية والإسلام والمسيحية ولم تعط أمة عقيدتها ، مع استثناء اليابان التي أخذت عنها نحلة كنفشيوس .
وأهل الصين لا يخوضون كثيرا في مباحث ما وراء الطبيعة ، ويوشك أن يكون التدين بينهم ضربا من أصول المعاملة وأدب البيت والحضارة .
فأشيع العبادات بينهم عبادة الأسلاف والأبطال ، وأرواح أسلافهم مقدمة بالرعاية علي جملة الأرواح التي يعبدونها ويمثلون بها عنصر الطبيعة أو مطالب المعيشة ، ولا يقدر الصيني قرباناهو أغلي قيمة وأحب إلي نفسه من قربانه إلي روح سلفه المعبود ، وهو يحتوي الأغذية والأشربة والأكسية والطيوب ، ومنهم من يحرق ورق النقد هبة للروح التي يعتقدون أنها تحتاج إلي كل شيء كانت تحتاج إليه وهي في عالم الأجساد .
والخير والشر عندهم هو ما يرضي الأسلاف أو يسخطهم من أعمال أبنائهم . فما أرضي السلف فهو خير وما أسخطهم فهو شر . وقد يختارون فردا من أفراد الأسرة ينوب عن جده المعبود فيطعمونه ويكسونه ويزدلفون إليه ويحسبون أن روح الجد هي التي تتقبل هذه القرابين في شخص ذلك الحفيد .
وتتمشي عبادة العناصر الطبيعية جنبا إلي جنب مع عبادة الأسلاف والأبطال . فالسماء والشمس والقمر والكواكب آلهة معبودة أكبرها إله السماء (شانج تي) ويليه إله الشمس فبقيه الأجرام السماوية فالعناصر الأرضية .
وهم يتقربون إلي (شانج تي) بالذبائح ويبلغون صلواتهم بإشعال النار علي قمم الجبال ، فيعلم الإله –مما أودعه الكاهن دواخينها- فحوي الرسالة التي يرفعها إليه عباده ، ولا يحسنون الترجمة عنها كما يحسنها الكهان .
وإله السماء هو (الإله) الذي يصرف الأكوان ويدبر الأمور ويرسم لكل إنسان مجري حياته الذي لا محيد عنه . وإنما يداول تركيب الوجود من عنصرين هما (ين) عنصر السكون و(يانج) عنصر الحركة. وقد يفسر عنصر السكون بالراحة والنعيم وعنصر الحركة بالشقاء والعذاب . فهما بهذه المثابة يقابلان عنصري الخير والشر وإلهي النور والظلام في الأديان الثنائية .
وقد امتزجت عبادة الأسلاف بعبادة العناصر الطبيعية في القرن العاشر حين تسمي عاهل الصين باسم (ابن السماء) . ويقال أنه استعار الفكرة من كاهن ياباني أراد أن يزدلف إليه فعلمه مراسم تأليه الميكاد في بلاده . فنقلها العاهل إلي بلاد الصين .
وأراد الفيلسوف (شوهستي) في القرن الثاني عشر أن ينشيئ بوذية صينية توفق مذهب بذا في أمور وتخالفه في أمور ، فدعا إلي دين لا إله فيه ولا خلود للروح ، ووضع (لي) موضع (كارما) الهندية أو القانون أو القضاء والقدر . وسمي دولاب الزمن (تايشي) لأنه هو المحرك لجميع الكائنات ، وجعل القانون والدولاب والمادة أو (ووشي) قوام العالم ظاهرة وخافية . فالمادة تحد من القانون ، خالد لا وعيله ولا يسمع ولا يجيب ، وإنما ينشأ الوعي أو الإدراك في الإنسان من قدح القانون للمادة كما ينقدح الحجر من الزناد ، فيخرج الشرر ثم ينطفئ فيموت . وتزول الأرواح كما تزول الأجساد متي (نضجت) كما تنضج الثمرة في أجلها المعلوم. وقد يبطئ النضج فيطول بقاء الروح فهي إذن طيف أو شبح ، كأنها الثرة في حالة العفن والإهمال .
وليس لأهل الصين رسل وأنبياء بل لهم معلمون ومربون . كنفشيوس أشهر هؤلاء المعلمين (كنج فو) وأضيفت إليه تسي أي المعلم . وكذلك (لاو) الذي ولد قبله ولم يشتهر في خارج الصينمثل اشتهاره يعرف بلاوتسي أي المعلم لاو . وكلاهما يبشر بالحلم والصبر والبر بالوالدين والعطف علي الأقربين والغرباء . والفرق بينهما هو فرق في الخلق والمزاج وليس بفرق في العقيدة والإيمان . فلاو يقول : (من كان طيبا معي فأنا طيب معه، ومن أساء إلي فأنا طيب معه كذلك . فلنجز السيئة بالحسنة ولنعمل الطيب علي كلحال) أماكنفشيوس فهو يوصي بأن نقابل السيئة بالعدل وأن نقابل الإحسان بالإحسان .
ولما مات كنفشيوس (478 ق . م) أقاموا له الهياكل وعبدوه علي سنتهم في عبادة أرواح الأسلاف الصالحين ، وأوشكوا أن يتخذوا عبادته عبادة (رسمية) أي حكومية علي عهد أسرة هان في القرن الثاني قبل الميلاد ، وأوجبوا تقديم القرابين والضحايا لذكراه في المدارس ومعاهد التعليم ، وكانت هياكله في الواقع بمثابة مدارس يؤمها الناس لسماع الدروس كما يؤمونها لأداء الصلاة . ولم تزل عبادته قائمة إللي العصور المتأخرة بل إلي القرن العشرين . فخصوه في سنة 1906 بمراسم قربانية كمراسم الإله الأكبر (شانج تي) إله السماء لأنه في عرفهم (ند السماء) ومن لم يؤمن اليوم بربوبيته من الصينيين المتعلمين فله في نفسه توقير يقرب من التأليه ، وقد جعلوا يوم ميلاده –وهو السابع والعشرون من شهر أغسطس- عيدا قوميا يحجون فيه إلي مسقط رأسه ، وينوب عن الدولة موظف كبير في محفل الصلاة أمام محرابه .
وشعائر الدين بين أهل الصين هي شعائر الطريق أو شعائر (السلوك) وفرائض التهذيب والتثقيف ، ومحورها الحلم والسلم والتحذير من العنف والغضب والإفراط والإسراف . وليس في تدين الصين مغالاه ولا حماسة ولا سورة من سورات الغيرة القوية والتعصب العنيف ، بل ليس شيء من ذلك في معرض من معارض الروح القومي التي تعبر عنها الثقافة أو الفن أو الحكمة أو قواعد الأخلاق . لأن الدعة سمة عامة لمزاج القوم أو (روح الأمة) . وهم متفائلون قلما يحنقون علي الحياة ولا علي الأحياء ، وغالب الرأي بين حكمائهم أن الإنسان طيب بالفطرة وأن الحياة ترضي من لا يسرف في تقاضيها ويلحف في الطلب عليها . ولا تأتي الحماسة الدينية إلا حين يمتحن الإنسان بالشدة البالغة والحيرة الثائرة فيندفع إلي غاية الإصرار ، وينقلب من ضميره إلي أعمق الأغوار . ولا شك أن شعور النفس (بالقدرة الإلهية) يتوقف علي هذه الحالات التي تتناهي إليها قدرة الإنسان . فلا جرم (يتوسط) أهل الصين في عقائدهم فيخلو إيمانهم بالإله من ذلك العمق الذي يغوص إليه الإنسان كلما جاشت نفسه بقوة الشعور .
ويظهر أن بيئة الصين لم تواجه أبناءها بالعقد النفسية ولكنها واجهتهم بتقلبات العناصر الطبيعية التي تعودت الشعوب قديما أن تروضها بالسحر والكهانة، فجار نصيب الإيمان بالسحر علي نصيب الإيمان بالدين ، وذاع عن أهل الصين –من ثم- أنهم أقدر أمة علي تسخير الطبيعة بالطلاسم والأرصاد .
وموقف اليابان من الرسالة الدينية كموقف الصين علي الإجمال . فقد تشابهت عقائدهم في أصولها وعبدوا الأرواح والأسلاف والعناصر الطبيعية ، واستعاروا البوذية والإسلام والمسيحية علي تفاوت في عدد الأتباع من كل دين ، ومزجوا ديانة الشمس بديانة الأسلاف . فلا مخافة بينهم في هذا بإفراط أهل اليابان في تأليه صاحب العرش واعتدال أهل الصين في تقديسه كاعتدالهم في جميع الشئون .
وإذا كان لأهل اليابان سمة خصوصية في العبادات فهي أنهم اختاروا ربة أنثي لعبادة السلف الأعلي حين وحدوا الأسلاف في أكبرها وأعلاها . وتلك الربة هي (اميتراسوا-أموكامي)التي لا تزال معبودة إلي اليوم .
ويؤخذ من الأساطير اليابانية أنها كانت ربة الغزاة الذين أغاروا فيما قبل التاريخ علي جزيرة كيوشو وأخضعوا أهلها وطردوهم منهزمين إلي الجبال وكأن أهل كيوشو الأولون يعبدون إله الريح والمطر (سوسا-نو-وو) فهبط هذا الإله بهزيمتهم إلي المرتبة التالية لمرتبة الربة السلفية . ثم انعقدت الوئام بين الفريقين بعد تناسي الإحن والترات وامتزاج القبائل الغازية والممغزوة ، فأصبح الإلهان أخوين وأصبحت (أميتراسو) هي كبري الأخوين .
ولا يعتقد اليابانيون أن هذه الربة خلقت الكون أو خلقت الإنسان ،لأنهم يعتقدون أن عهدها قد سبقته عهود مديدة تنازع فيها الأمر عشرات الألوف من الأرباب ، وهذه أرباب عندهم هي بمثابة الأرواح والملائكة والجنة والشياطين من عناصر الخير والشر عند الأمم الكتابية . ويسمون الواحد منها (كامي) .. وهي كلمة تطلق علي كل رائع خارق للعادة بالغ في القوة أو الجمال . ثم استسلمت هذه الأرباب بعد كفاح طويل وصار الأمر إلي الربة الكبري برضوان من خالق السماوات والأرضين .
أما الخلق فهو منسوب عندهم إلي إله السماء (أزاناجي-نوميكوتو) وزوجته وأخته إلهة الأرض (أزانامي-نوميكوتو) . فولدا جزر اليابان وألقحاها ببذور الآلهة وجاء أبناء اليابان الآدميون من سلالة الآلهة .. فكلهم في النسب الأعلي –وليس الميكاد وحده- إلهيون .
وفي إحدي الروايات الأسطورية أن ربة الأرض احترقت وهي تضع إله النار فجرد رب السماء سيفه وضرب به إله النار ، فانبعثت من وميض سيفه ومن ضرباته رهط من أرباب الزوابع والبروق والرعود . ولم ترجع الأرض إلي خصبها إلا بعد شفاء ربتها وخروجها من هاوية الظلام لتلد الماء والطمي وعناصر الزرع والحياة .
وينسبون الخلق في رواية أخري إلي (أزاناجي) وحده وهو يبحث عن رفيقة صباه .. فمن عينه اليسري خلقت الشمس ومن عينه اليمني خلق القمر ، ومن عطسته خلق (سوسا-نو-وو) رب الرياح والأمطار . ولكنه أعجب من بين أبنائه بالشمس دون شقيقيها فخلع عليها عقدا يتلألأ بالجواهر وبوأها أرفع عرش في السماء .
فالديانة اليابانية الأصلية شمسية سلفية جمعت معني التوحيد أولا في إله السماء حيث تصوره أبا للخليقة بمفرده أو مشاركة زوجه ، ثم جمعتها في الربة الواحدة علي اعتبارها ربة مختارة بين أرباب.
________________________
التعديل الأخير تم بواسطة الشرقاوى ; 05-10-2005 الساعة 10:41 PM
الـــــــSHARKـــــاوى
إن المناصب لا تدوم لواحد ..... فإن كنت فى شك فأين الأول؟
فاصنع من الفعل الجميل فضائل ..... فإذا عزلت فأنها لا تعزل
-
مشاركة: الله - أصل العقيدة - تأليف : عباس محمود العقاد
فارس
لعل تاريخ الديانة الفارسية القديمة أهم التواريخ الدينية بين الأمم الأسيوية ، لتوشنج القرابة بينه وبين الديانات الهندية والطورانية والبابلية واليونانية ، وارتباطه بالتواريخ السابقة له واللاحقة به واقتباس الديانة الفارسية من غيرها واقتباس غيرها منها ، وتقدم الفكرة الإلهية علي يد زرادشت صاحب الشريعة القومية في بلاد فارس وأرفع الأعلام شأنا بين دعاة المجوسية من أقدم عصورها إلي أحدثها .
فالفرس الأقدمون من السلالة الهندية الجرمانية ، وموقع بلادهم قريب من دولة بابل ، قريب من أقاليم الطورانيين ، قريب من مسالك الحضارة بين المشرق والمغرب ، وقد تلقت حضارة فارس وحضارة مصر في السلم والحرب غير مرة ، وانقضي زمن طويل علي الدنيا المتحضرة وهي تقرن بين المجوسية وبين الحكمة أو اللم بأسرار الطبيعة والسيطرة عليها بالسحر والمعرفة الإلهية . وكان لليهود وأبناء فلسطين وأمم العرب علاقات قديمة بالدولة الفارسية تارة ةالدولة البابلية تارة أخري . فاتصل من ثم تاريخ المجوس بتاريخ اليهود والمسيحيين والمسلمين .
فالأقدمون من الفرس يلتقون مع الهند في عبادة (مترا) إله النور وتسمية الإله بالـ(أسورا) أو الـ(أهورا) وإن اختلفوا في إطلاقه علي عناصر الخير والشر .. فجعله الفرس من أرباب الخير والصلاح وجعله الهند من أرباب الشر والفساد .
والبابليون عرفوا عبادة (مترا) في القرن الرابع عشر قبل الميلاد ورفعوا إلي المنزلة العلية بين الآلهة التي تحارب قوي الظلام .
واستعار الفرس من البابلين كما أعاروهم ، فأخذوا منهم سنة التسبيعفي عدد الآلهة ، وجعلوا أورمزد علي رأس سبعة من أرباب الحكمة والحق وقوي الطبيعة وأنواع المرافق والصناعات .
ولم تخل الديانة المجوسية من عقائد الطورانيين ،لأن (زرادشت) عاش بينهم زمنا وبشرهم بدينه فاضطر إلي مجاراتهم في عبادتهم ليجاروه في عبادته ، وأدخل أربابا لهم في عداد الملائكة المقربين .
ويعتقد المجوس في بعض أساطيرهم أن (زروان) أبو الإلهين إله النور والظلام . ولعل (زروان) هذا صنو لإله البابليين (نون) أو القدر الذي يتسلط علي الآلهة كما يتسلط علي المخلوقات .
وقد آمن المجوس بالعالم الآخر كما آمن به المصريون ، وآمنوا كذلك بالثواب والعقاب في الدار الآخرة ، ولكنهم قالوا بقيامة الموتي ونهاية العالم وبعث الأرواح للحساب في يوم القيامة .. ولعلهم جمعوا بذلك بين عقيدة الهند في نهاية العالم وعقيدة المصريين في محاسبة الروح ووزن أعمالها في موقف الجزاء .
ولم يكن اليهود يتكلمون عن (الشياطين) قبل السبي أو قبل الإقامة فيما بين النهرين فتكلموا عن الشياطين بعد أن شبهوه (بأهرمان) الذي يمثل الشر والفساد عند المجوس .
وفي الكتي المسيحية أن حكماء المجوس شهدوا مولد السيد المسيح وعلموا بنبئه فاهتدوا إليه بنجم في السماء .
وذكر أفلاطون زرادشت في كتاب (السيبادس)فسماه زرادشت بن أورمزد ، وقال بليني في تاريخه الطبيعي أنه المولود الذي ضحك يوم ولادته ، وقال ديوكريسستوم dio chrysostom أنه لا الشاعر هوميروس ولا الشاعر هزيود بلغا مبلغ زرادشت في الإشادةبمجد (زيوس) رب الأرباب في علياء مجده .
فتاريخ الديانة الفارسية عامة وتاريخ زرادشت خاصة علي ارتباط وثيق بتواريخ العقائد الأسيوية وتواريخ بعض العقائد في مصر واليونان .
ولكن (زرادشت) لا يعرف له تاريخ مفصل علي التحقيق ، فالمراجع اليونانية ترده إلي القرن الستين قبل الميلاد ، والمراجع العربية ترده إلي ما قبل الإسكندر بنحو مئتين وسبعين سنة . فهو علي هذا قد ولد حوالي سنة 660 قبل الميلاد وه أصح التقديرات ، وقد اعتمده الثقات الباحثون في تاريخه فرجحوا ، كما رجح كاسارتللي وجاكسون أنه ولد سنة 660 ومات سنة 583 قبل الميلاد .
ويقول الشهرستاني أن أباه من أذربيجان وأمه من الري ، ويكاد يتفق المؤرخون علي أنه قد ولد في الناحية الغربية الشمالية من البلاد الفارسية علي شاطئ نهر يسمونه في الكتب المجوسية داريزا ويعرف أخيرا باسم أراس .ويزعم بعض مؤرخيه أن اسمه من كلمتين في اللغة القديمة معناها معاكس الجمل ، لأنه كان في صباه يعبث بالجمال ، ويجعلون لهذه التسمية شأنا في وصاياه العديدة بالإشفاق علي الحيوان ، كأنه يكفر بذلك عن قسوته عليه في صباه .
وخلاصة ما جاء به (زرادشت) من جديد في الديانة أنه أنكر الوثنية وجعل الخير المحض من صفات الله ونزل بإله الشر إلي ما دون منزلة المساواه بينه وبين الإله الأعلي ، وبشر بالثواب وأنذر بالعقاب ، وقال بأن خلق الروح سابق لخلق الجسد ، وحاول جهده أن يقصر الربانية علي إله واحد موصوف بأرفع ما يفهمه أبناء زمانه من صفات التنزيه .
وليست المجوسية كلها من تعليم زرادشت أو تعليم كاهن واحد من كهان الأمة الفارسية . فقد سبقه الفرس إلي عقائدهم في أصل الوجود وتنازع النور والظلام ، ولكنه تولي هذه العقائد بالتطهير وحملها علي محمل جديد من التفسير والتعبير .
فالمجوس كانوا يعتقدون أن هرمز وأهرمن مولودان لإله قديم يسمي زروان ويكني به عن الزمان . وأنه اعتلج في جوفه وليدان فنذر السيادة علي الأرض والسماء لأسبقهما إلي الظهور ، فاحتال أهرمن بخبثه وكيده حتي شق له مخرجا إلي الوجود قبل (هرمز) الطيب الكريم ، فحقت لأهرمن سيادة الأرض والسماء ، وعز علي أبيها أن ينقض نذره ، فأصلحه بموعد ضربه لهذه السيادة ينتهي بعد تسعة آلاف سنة . ويعود الحكم بعده لإله الخير خلدا بغير انتهاء ، ويؤذن له يومئذ في القضاء علي إله الشر وتبديد غياهب الظلام .
وزعموا أن مملكة النور ومملكة الظلام كانتا قبل الخليقة منفصلتين ، وأن هرمز طفق في مملكته يخلق عناصر الخير والرحمة واهرمان غافل عنه في قراره السحيق ، فلما نظر ذات يوم ليستطلع خبر أخيه راعه اللمعان من جانب مملكة أخية فأشفق علي نفسه من العاقبة وعلن أن النور يوشك أن ينتشر ويستفيض فلا يترك له ملاذا يعتصم به ويضمن فيه البقاء . فثار وثارت معه خلائق الظلام وهي شياطين الشر والفساد ، فأحبطت سعي هرمز وملأت الكون بالخبائث والأرزاء .. وران هذا البلاء علي الكون حتي كانت معركة (زرادشت) فكان البشير بانتهاء زمان وابتداء زمان ، ولكنه لم يختم صراع العدوين اللدودين بل آذن بتحول النصر من صف إلي صف ، وتراجع الشر والظلام عن مملكة الخير والنور ، وسيدوم هذا الصراع أثني عشر ألف سنة ، ينجم علي رأس كل ألف منها بشير من بيت زرادشت فيعزز جحافل هرمز ويوقع الفشل في جحافل أهرمن ، وتنقضي المدة فينكص أهرمز علي عقبيه مخلدا في أسفل سافلين لا فكاك له أبد الأبيد من هاوية الظلمات وسجن المذلة والهوان .
وتدل تسمية الإلهين دلالة واضحة علي انتقال الفكرة الإلهية طبقة فطبقة من صورة التجسيم إلي صورة التنزيه . فإن هرمز مأخوذ من (أهورا) بمعني السيد ، و(مازداو) بمعني الحكيم ، وأهرمن مأخوذة من (انجرو) بمعني السيئ وما ينوش بمعني الفكر والروح ، والمعنيان عا من عالم الفكر المجرد أو القريب من التجريد . ثم أصبحت كلمة أورمزد مرادفة لروح القدس وكلمة أهريمان مرادفة لروح الشر أو روح الأذي والفساد ، وقيل في مجمل الأساطير المجوسية أن أهريمان إنما هو فكرة سيئة خطرت علي بال زروان فكان منها إله الظلام .
ويخيل إلينا أن زرادشت كان خليقا أن يسمو بعقيدة المجوس إلي مقام أعلي من ذلك المقام في التنزيه ، وأن يسقط بأهرمن من منزاة الند إلي منزلة المارد المطرود ، لولا أن وجود (أهرمن) كان لازما لبقاء الكهانة الفارسية في عهود المحن والهزائم التي منيت بها الدولة وتجرعت فيها الأمة غصص الذل والانكسار . فلو قال الموابذة للمؤمنين بهرمز أنه هو الإله المتفرد في الكون بالتصريف والتقدير لكفروا بدينهم وحاروا في أمرهم ، ولكنهم يكبرون من قوة أهرمن ويجعلون انتصاره عقوبة للناس علي تركهم للخيرات وحبهم للشرور ، ثم يبشرونهم بغلبة الإله الحكيم الرحيم بعد الهزيمة ، فتهدأ وساوسهم إلي حين .
علي أن (زرادشت) قد استخلص من أخلاط المجوسية عقيدة وسطا بين العقيدة الوثنية الأولي والعقيدة الإلهية الحديثة ، سواء في تصحيح الفكرة الإلهية أو مسائل الأخلاق ومسائل الثواب والعقاب .
فالله في مذهب زرادشت موصوف بأشرف صفات الكمال التي يترقي إليها عقل بشري يدين علي حساب نشأته بالثنائية وقدم العنصرين في الوجود . فالخير عند زرادشت غالب دائم ، والشر مغلوب منظور إلي أجمل مسمي ، وما زال (أهرمن) يهبط في مراتب القدرة والكفاية علي هذا المذهب حتي عاد كالمخلوق الذي ينازع الخالق سلطانه ، ولا محيض له في النهاية من الخذلان .
وفي (الزندفستا) يقول زرادشت أنه سأل هرمز : (يا هرمز الرحيم ! صانع العالم المشهود . يا أيها القدس الأقدس : أي شيء هو أقوي القوي جميعا في الملوك والملكوت) .
فقال هرمز : (أنه هو اسمي الذي يتجلي في أرواح عليين . فهو أقوي في عالم الملكوت) .
فسأله زرادشت أن يعلمه هذا الاسم فقال له أنه (هو السر المسئول) وأما الأسماء الأخري فالاسم الأول هو (واهب الأنعام) والاسم الثاني هو المكين ، والاسم الثالث هو الكامل ، والاسم الرابع هو القدس ، والاسم الخامس هو الشريف ، والاسم السادس هو الحكمة ، والاسم السابع هو الحكيم ، والاسم الثامن هو الخبرة ، والاسم التاسع هو الخبير ، والاسم العاشر هو الغني ، والاسم الحادي عشر هو المغني ، والاسم الثاني عشر هو السيد ، والاسم الثالث عشر هو المنعم ، والاسم الرابع عشر هو الطيب ، والاسم الخامس عشر هو القهار ، والاسم السادس عشر هو محق الحق ، والاسم السابع عشر هو البصر ، والاسم الثامن عشر هو الشافي ، والاسم التاسع عشر هو الخلاق ، والاسم العشرون هو (مزدا) أو العليم بكل شيء .
وقد حرم زرادشت عبادة الأصنام والأوثان وقدس الناس علي أنها هي أصفي وأطهر العناصر المخلوقة ، لا علي أنها هي الخلاق المعبود . وقال أن الخلائق العلوية كلها كانت أرواحا صافية لا تشاب بالتجسيد ، فخيرها الله بين أن يقصيها من منال (هرمن) أو يلبسها الجسد لتقدر علي حربه والصمود في ميدانه ، لأن عناصر الفساد لا تحارب بغير أجساد . فأبت أن تعتصم بمعزل عن الصراع القائم بين هرمز وأخيه ، واختارت التجسد لتؤدي فريضة الجهاد في ذلك الصراع .
ويتخيل زرادشت (هرمز) أو أورمزد أو (أهورا مازدا) أويزدان –علي اختلاف اللهجات في نقطة- مستويا علي عرش النور محفوفا بستة من الملائكة الأبرار ، وتدل أسماؤهم علي أنهم صفات إلهية كالحق والخلود والملك والنظام والصلاح والسلامة ، ثم استعيرت لها سمات (الذوات) بعد تداول الأسماء أو تداول الأنباء عما تفعله وما تؤمر به وما تتلقاه من وحي الله .
وتفيض أقوال (زرادشت) كلها باليقين من رسالته واصطفاء الله إياه للتبشير بالدين الصحيح والقضاء علي عبادة الأوثان . ومن أمثلة هذا اليقين قوله : (أنا وحدي صفيك الأمين ، وكل من عداي فهو عدو لي مبين) . وأن الله أودع الطبائع عوامل الخير جميعا ، فإن هي حادت عن سواء السبيل كان إرسال الرسل للتذكير والتحذير آخر حجة لله علي الناس . وأن زرادشت هو هذه الحجة التي أبرزها الله إلي حيز الوجود لتهدي من ضل وتذكر من غفل وتسنصلح من فية بقية للصلاح ، وكلما انقضي ألف عام برز إلي حيز الوجود خليفة له من سلالته ، ولكن الأرواح التي تحف بالعرش هي التي تحمل بذرته إلي رحم عذراء تلهمها تلك الأرواح أن تتطهر في تلك الساعة بالماء المقدس في عين صافية مدخرة في ناحية من الأرض ليومها الموعود .
ويتخيل زرادشت أنه يناجي هرمز ويسمع جوابه ويسأله سؤال المتعلم المسترشد لمرشده وهاديه . فيناديه : رب ! هب لي عونك كما يعين الصديق أخلص صديق .. ويسأله رب ! ألا تنبني عن جزاء الأخيار ؟ أيجزون يا رب بالحسنة قبل يوم المعاد ؟ أو يسأله : من أقر الأرض فاستقرت ورفع السماء فلا تسقط ؟ ومن خلق الماء والزرع ؟ زمن ألجم للرياح سحب الفضاء وهي أسرع الأشياء ؟ .
ولا يبعد أنه كان من أصحاب الطبائع التي تغيب عن الوعي أو تسمع في حالة وعيها أصواتا خفية من هاتف ظاهر أو محجوب ، كما روي عن سقرات وأمثاله من الموهوبين والملهمين .
ورواية الخليقة في مذهب زرادشت أن هرمز خلق الدنيا في ستة أدوار . فبدأ بخلق السماء ، ثم خلق الماء ، ثم خلق الأرض ، ثم خلق النبات ، ثم خلق الحيوان ، ثم خلق الإنسان .
وأصل الإنسان رجل يسمي (كيومرت) قتل في فتنة الخير والشر فنبت من دمه ذكر يسمي ميشة وأنثي تسمي ميشانة ، فتزوجا وتناسلا وساغ من أجل ذلك عند المجوس زواج الأخوين .
ويفرق المجوس بين الخلائق جريا علي مذهبهم في اشتراك الخلق بين خالق الطيبات وخالق الخبائث ، أو بين إله النور وإله الظلام . فالأحياء النافعة من خلق أهرمن كالثور والكلب والطير البريء ، والأحياء الضارة من خلق أهرمن كالحية وما شابهها من الحشرات والهوام .
والناس محاسبون علي ما يعملون . فكل ما صنعوه من خير أو شر فهو مكتوب في سجل محفوظ . وتوزن أعمالهم بعد موتهم فمن رجحت عنده أعمال الخير صعد إلي السماء ومن رجعت عنده أعمال الشر هبط إلي الهاوية ومن تعادلت عنده الكفتان ذهب إلي مكان لا عذاب فيه ولا نعيم ، إلي أن تقوم القيامة ويتطهر العالم كله بالنار المقدسة فيرتفعون جميعا إلي حضرة هرمز في نعيم مقيم .
وتوزن الأعمال عند قنطرة تسمي قنطرة (شنفاد) تتوافي إليها أرواح الأبرار والأشرار علي السواء بعد خروجها من أجسادها . فيلقاها هناك (رشنوه ملك العدل وميترا رب النور وينصبان لها الميزان ويسألانها عما لديها من الأعذار والشفاعات) ثم يفتحان لها باب النعيم أو باب الجحيم .
ونعيم المجوس من جنس الحسنات التي تجزي بذلك النعيم . لأن المجوس لا يستحبون الزهد في الحياة ولا يصدفون عن المتاع المباح . فمن عاش في الدنيا عيشة راضية وكسب رزقه بالعمل الصالح وأنشأ أبناءه نشأة حسنة فجزاؤه في النعيم رغد العيش وجمال السمت وطيب المقام بين الأقرباء والأصفياء ، ويسقي من لبن بقرة مقدسة درها غذاء الخلود ومن كسب رزقه من السحت والحرام فجزاؤه في الجحيم عيشة ضنك وألم كألم الجوع والعري والذل والاغتراب عن الأحباب .
وهذه الخلاصة ترسم لنا اتجاه مذهب (زرادشت) ولكنها لا ترسم لنا شعب المجوسية التي يشتبك بها هذا المذهب في مواضع ويفترق عنها في مواضع أخري . وقد أجمل الشهرستاني بيان هذه المذاهب في كتابه الملل والنحل ، وهو أيسر المراجع في هذا الموضوع .
ولم تختم المذاهب المتجددة في المجوسية بمذهب زرادشت وتفسيراته المتعددة . بل بقيت هذه المذاهب تتجدد إلي ما بعد شيوع المسيحية بعد قرون : وأشهرها وأهمها في تاريخ المقابلة بين الأديان ، مذهب مترا ومذهب ماني المعروف بالمانوية .
انتشر مذهب (مترا) في العالم الغربي بعد حملات (بومبي) الآسيوية وتدفق الآسيويين من جنوده إلي حواضر سوريا وآسيا الصغري . وأيده القياصرة لأنه كان يرفع سلطان الملوك إلي عرش السماء ، ويقول أن الشمس تشع عليهم قبسا من نورها وهالة من بركتها فيرمزون بعروشهم علي الأرض إلي عرش الله في عليين .
وشاع هذا المذهب بعض الشيوع في القرن الثاني قبل الميلاد ، وقصر أتباعه علي الذكور دون الإناث وجعل لهم درجات سبعا يرتقونها إلي مقام العارفين الواصلين رمزا إلي الدرجات التي تصعد عليها الروح بعد المت من سماء إلي سماء ، حتي تستقر في نهاية المرتقي عند حظيرة الأبرار .
ويحتفل بالمزيد كلما انتقل من درجة إلي درجة في وليمة يتناول فيها الخبز المقدس ويمسح بالماء الطهور ، ولا يطلع بتلك الأسرار علي التقليد ، ثم يترقي في معرفة السر الأعظم إلي أن يعرف كلمة الله الخالقة في مقام العارفين الواصلين .
وأصل (مترا) قديم في الديانة الآرية ، يدين به الهنود كما يدين به الفارسيون ، وقد هبط في الديانة الزردشتية إلي مرتبة الملك الموكل بهداية الصالحين . ولكنهم جعلوه في الديانة المقربة إله الشمس ورب الكون وخالق الإنسان وقاهر أهرمن بعد جلاد طويل . ولا يسبقه في الوجود شيء غير (الأبد) أو (الزمان) أبي الأرباب عندهم وأبي كل موجود . ويمثلون مترا حين تجسد علي الأرض مولودا من صخرة نائية في مكان منفرد لم يعد بمولده أحد غير طائفة من الرعاة ألهموا معرفته فتقدموا إليه بالهدايا والقرابين ، ومضي بعد ةمولده فستر عريه بورق من شجرة التين ، وتغذي بثمرها حتي جاوز سن الرضاع . وكان أهرمن يحاربه ويتعقبه بالكيد ويحبط كل عمل له من أعمال الخير والفلاح فأرسل مترا علي الأرض طوفانا أغرقها ، ولم ينج معه إلا رجل واحد حمل آله وأنعامه في زورق صغير وجدد علي الأرض بعد ذلك حياة الإنسان والحيوان ، ثم طهر الأرض بالنار وتناول مع ملائكة الخير طعام الوداع وصعد إلي السماء ، حيث هو مقيم يتولي الأبرار بالهداية ويعينهم علي النجاة من حبائل الشيطان .
وكان أتباعه يفردون لعبادته يو الشمس أو يوم الأحد ، ويحتفلون بمولده في الخامس والعشرين من ديسمبر لأنه موعد انتقال الشمس وتطاول ساعات النهار ، ويقيمون له عيدا سنويا في اليوم السادس عشر من الشهر السابع في تقويم الفرس القديم .. وقد كان المسيحيون الأولون يقابلون ذلك –بعد ظهور المسيحية وانتشارها- بتمجيد السيد المسيح في الأيام التي كان عباد مترا ينصرفون فيها إلي تمجيد هذا الإله الشمسي القديم .أما المانوية فهي مذهب ماني بن فاتك الذي يرجح أنه ولد في أوائل القرن الثالث بعد الميلاد ، ومذهبه يخالف مذاهب المجوس الأقدمين في زعمه أن آدم من خلق الشيطان لا من خلق الله .. وأن الشيطان أودعه كل ما استطاع أن يختلسه من نور السماء ليكفل له البقاء ، فلما بصر به الملائكة ولمحوا فيه قبس النور ذهبوا يستخلصونه من قبضة الشيطان ليرتفعوا به إلي العالم الذي هم فيه . ولا يزالون يعملون في استخلاصه حتي يرجع إلي السماء آخر قبس من الضياء المسروق ..فيتجلي الله في سمائه ومن حوله تلك الأرواح النورانية ، ويتخلي الملائكة الذين يحملون الدنيا عن حملهم فتتساقط كسفا تلتهمها النيران تطهيرا لها من بقايا الرجس والمكيدة ، ويتم الانفصال يومئذ بين عالم النور وعالم الظلام .
قال الشهرستاني عن صاحب هذا المذهب (أنه أخذ دينا بين المجوسية والنصرانية وكان يقول بنبوة المسيح عليه السلام ولا يقول بنبوة موسي عليه السلام . حكي محمد ابن هارون المعروف بأبي عيسي الوراق وكان في الأصل مجوسيا عارفا بمذاهب القوم : إن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة ، وأنهما لا يزالا قويين حسساسين سميعين بصيرين وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان ، وفي الخير متحاذيان ، تحاذي الشخص والظل ..) .
ثم ذكر أمثلة من الاختلاف بين جوهر النور وجوهر الظلمة فقال أن جوهر النور حسن فاضل كريم صاف نقي الريح حسن المنظر ، وإن جوهر الظلمة قبيح ناقص لئيم كدر خبيث منتن الريح قبيح المنظر ، وأن أجناس النور خمسة أربعة منها أبدان والخامس روحها . فالأبدان هي النار والنور والريح والماء ، وروحها النسيم وأن أجناس الظلمة أربعة منها أبدان والخامس روحها والأبدان هي الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان) .
وقد أصاب الشهرستاني حين قال أن هذه الثنوية هي ألزم سمات المذاهب المجوسية لأنها تتراءي في كل مذهب منها بلا استثناء وهي كذلك أبقي ما بقي منها في مجال التفكير ومجال الاعتقاد علي السواء . لأننا نري منهاملامح واضحة في مباحث التفرقة بين العل والمادة ، ولا سيما مباحث حكماء اليونان .
_______________________________________________
بابل
والحضارة البابلية من أقدم الحضارات المروية في التواريخ .
ويزعم المتشيعون للحضارة الشمرية التي ازدهرت في أرض بابل قبل انتقال الساميين إليها أنها أقدم الحضارات البشرية علي الإطلاق ، ولكنها علي الأرجح نزعة من نزعات العنصرية التي تجعل بعض الكتاب الأوربيين يتجاوزون كل حضارة سامية إلي حضارة سابقة لها منسوبة إلي عنصر آخر من العناصر البشرية .. ولهذا يبالغون في قدم الحضارة الشمرية وتقدير زمانها السابق لجميع الحضارات .
إلا أن الحضارة البابلية قديمة لا شك في عراقتها علي تباين الروايات .
وهي علي قدمها لم يكتب لها أن تؤدي رسالة ممتازة في تاريخ الوحدانية ، فكل ما أضافته إلي هذا التاريخ يمكن أن يستغني عنه ولا تنقص منه بعد ذلك فكرة جوهرية من أفكار التوحيد والتقديس لأن الوحدانية تحتاج إلي (تركيز وتوحيد) لا يستتبان طويلا في أحوال كأحوال الدولة البابلية .إذ كانت لها كهانات متعددة علي حسب الحواضر والأسر المتابعة . وكانت الحواضر بمعزل عن البادية التي تترامي حولها وتنفرد بعقائدها وأساطيرها .. أما الأسر المالكة فقد كانت شمرية ثم أصبحت سامية تنتمي إلي أرومات شتي في الجزيرة العربية من الجنوب إلي الشمال .. وكانت أرض بابل في وسط العمران الأسيوي مفتحة الأبواب علي الدوام لما تقتبسه من عقائد الفرس والهنود والمصريين والعبريين ، وغير هؤلاء من أصحاب الديانات المجهولين في التاريخ .
فلم تتوحد فيها العقيدة حول مركز دائم مطرد الاتساع والامتداد بعيد من طوارئ التغيير والتعديل . وكانت من ثم ذات نصيب في الشريعة وقوانين الاجتماع أوفي من نصيبها في تطور العقيدة الوحدانيةعلي التخصيص .
ويستطاع الجزم بأن الرسالة البابلية في الدين لم تتجاوز رسالة الديانة الشمسية السلفية .. فالغزوات التي تروي علي الأرباب الأقدمين هي غزوات أبطال من الأسلاف الذين برزوا بملامح الآلهة بعد أن غابت من الأزهان ملامحهم الإنسانية ، ثم تلبست سيرتهم بظواهر الكون العليا فسكنوا في مساكن الأفلاك ، وحملت الأفلاك أسماءهم ولا تزال تحمل بقية منها إلي اليوم .
فمردوخ إله الحرب هو كوكب المريخ ، وقد تغلب علي تيمات ربه الأغوار المظلمة فأخذ زوجها وخلفائها الأحد عشر وسلسلهم أساري في مملكته السماوية . فهم المنازل الاثني عشر التي بقيت في علم الفلك إلي اليوم .
وقد اتفق الساميون والشمريون علي الأرباب الكبري كإله النور الذي يسميه الساميون شمس ويسميه الشمريون (آنو) أو كالزهرة ربة الحب التي يسميها الساميون عشتار ويسميها الشمريون ننسيانة .. ولكن الأرباب البابلية أوفر عددا من أن ينتظمها اتفاق بين قومين مختلفين ، لأنهم ارتفعوا بعددها إلي أربعة آلاف وقرنوا بها أنداد لها من الشياطين والعفاريت تبلغ هذا العدد أو تزيد .
ولم ينقض علي هذه الأرباب وقت كاف لإدماج صغارها في كبارها ثم فنائها جميعا في أكبر الأرباب المشرفة علي الكون ، أو في رب واحد ينفرد بهذا الإشراف .. كأن الطواطم التي عبدتها القبائل والأسر لم يطل بها عهد التطور حتي يفعل بها فعله من التصفية والاستخلاص وإدماج والتوحيد . فجاءت الأرباب التالية ولا تزال الأرباب السابقة لها علي عهدها من النفوذ والاستقرار .
ولهذا كانت سياسة الكون كما تخيلوها في الأدوار الأولي أشبه بالجمهورية بل بالمشيخة القبلية . فكانوا يتخيلون أن الأرباب تجتمع كل سنة في يوم الاعتدال الخريفي لتنظر في السماء مقادير السنة كلها وتكتبها في لوح محفوظ لا يمحي قبل نهاية العام . وكان الملك نفسه يتلقي سلطانه علي الأرض عاما بعد عام في مثل ذلك الموعد .. فيمثل الكهنة رواية الخلق ويشهدها الملك فردا من الأفراد .. ويتعمدون في بعض مواقف التمثيل أن يهينوه ويستخفوا به ليقروا بذلك أنه فقد كل سلطان كان له علي رعاياه فلا يعود إليه السلطان إلا بإذن جديد من (مردوخ) يتلقاه قبل ختام الرواية من يد حبر الأحبار .
ولم يؤثر في عهد الشمريين إيمان بعالم آخر أو بيوم للحساب والجزاء . فمن اجترأ علي فعل محرم أو قصر في الصلوات والقرابين فالآلهة تجزيه علي ذنبه بمرض يصيبه لا يشفيه منه غير كاهن المعبد بعد التوبة والتكفير ، وإن لم يكن جزاؤه مرضا فهو خسارة في المال أو البنين أو ذوي القربي والأعزاء ، وكل مصيبة من هذه المصائب تنبيه إلي ذنب مقترف أوفريضة منسية ، وحث علي التذكر وطلب الغفران .
وقد تعم الذنوب فيعم العقاب . وترسل الآلهة علي الأرض طوفان أو وباء يأخذ البريء بذنب المسيئين ، ولكنها تنذر الناس قبل حلول العقاب وتلهم الكهان وحدهم تفسير ذلك النذير .
وهم يذكرون لتلك الأربابعزوات وأخبار قبل خلق هذه الدنيا كأنهم كائنات لا تحتاج إلي خالق ، ولكنهم يذكرون أخبار قبل تلك الأخبار يروونها عن (تيمات) ربة الغمر أو ربة الأغوار والظلمات ولا يفهم من أخبارهم هذه أن تيمات أنشأت الأرباب بقدرة الخلق ،لأنها عندهم ربة الفوضي والعلماء . ولكنهم يحسبون أن الأرباب كانت تحوم في أغوارها كما تحوم الأشباح في الظلام ، ويصورونها في إحدي أساطيرهم كما يصورون البشر الأولين –فنصفها سمك ونصفها إنسان .
أما قصص الخلق عنهم فهي مناسبة لموقع البلاد البابلية واشتغال أهلها القديم برصد الكواكب ومراقبة الأنواء ، وتدل القصة من أجل هذا علي أنها من مأثورات قوم عريقين في سكني تلك البلاد ولم ينقلوها إليهم من بلاد أجنبية عنها ، ويرجع ذلك علي التخصيص ذكر الطوفان المفصل في بعض القصص البابلية ، لأن الباحثين في الآثار يعتبرون أن الطوفان قد غمر ما بين النهرين إلي الشمال ، وأن الجبل الذي استقرت عليه سفينة نوح هو الجبل المعروف اليوم بجبل أرارات ، ولم تشتمل قصص الطوفان في البلاد الأخري علي تفصيل كهذا التفصيل .
وفحوي قصة الخلق بعد استخلاصها من الأوشاب الكثيرة أن الدنيا كانت قسمة بين تيمات ربة الأغمار أو ربة الماء الأجاج وبين (أيا) إله الماء العذب وعنصر الخير في الوجود .. وموقع الأرض البابلية يجعلها في قبضة هذين الربين ويوحي إلي أهلها الإيمان بما عندها من المخوف والخيرات .
وقد انهزم (أنو) إله السماء أمام جحافل تيمات فلم ينتصر إلا بعد أن برز من الماء بطل وليد : هو مردوخ رب الجنود وسيد الحروب .
ثم عمد مردوخ إلي تيمات فشقها نصفين : صنع الأرض من أحدهما وصنع قبة الفضاء من النصف الآخر ، ثم قيد أسراه في هذه القبة فهم لا يبرحونها إلا بإذنه ، ورفع إلي السماء ما شاء من الأرباب .
وقد كشفت الألواح التي تضمنت شروح هذه القصة بالخط المسماري في أواخر القرن التاسع عشر ، ونقلت إلي المتحف البريطاني بلندن حيث تحفظ الآن .
ويتمم البابليون قصة خلق الإنسان بقصة أخري عن طموحه إلي الخلود واجتهاده في اختلاس سره من الآلهة . فيعاقب علي ذلك بالموت ، وتأبي الآلهة أن يشاركها أحد من الخلق في نعمة الحياة الباقية .
وتعتبر قصة الخلق البابلية أهم نصيب ساهمت به المأثورات البابلية في علم المقابلة بين تواريخ الأديان.
اليونان
أما تاريخ العقيدة في بلاد اليونان فقد حفل بجميع أنواع العقائد البدائية قبل أرباب (الأوليمب) الذين خلدوا في أشعار هومير وهزيود .
فعبدوا الأسلاف والطواطم ومظاهر الطبيعة وأعضاء التناسل ومزجوا العبادات جميعا بطلاسم السحر والشعوذة واستمدوا من جزيرة (كريت) عبادة النيازك وحجارة الرواسب التي شاعت بيت أهل الجزيرة من أقدم عصورها البركانية ، فرمزوا بها إلي أرباب البراكين والعوالم السلفية ، واتخذها بعضهم (طوطم) ينتسبون إليها انتساب الأبناء إلي الآباء .
ولما شاعت بين الإغريق عبادة (أرباب الأوليمب) كان من الواضح أنها أرباب مستعارة من الأمم التي سبقتهم إلي الحضارة وتنظيم العبادات .
فالإله (زيوس) أكبر أرباب الأوليمب هو الإله (ديوس) المعروف في الديانة الهندية الآرية القديمة ، واسمه متداول في العبادات الأوربية جميعا مع قليل من التصحيف بين اللغات واللهجات ، ومن تصحيفاته أسماء الله والإلهية عند الفرنسيين والطليان والإنجليز المعصرين .
والربة أرتيميس –ومثلها الربة أفروديت أو فينوس- هي الربة عشتار اليمانية البابلية .. ومنها كلمة (ستار) التي تدل علي النجم في بعض اللغات الأوربية الحديثة .
والربة (ديمتر) هي أزيس المصرية كما قال هيرودوت ، وهي واحدة من أرباب كثيرة تشابهت عبادتها في بلاد الإغريق وعبادتها بين قدماء المصريين .
وأضيف إلي هذه الأرباب (أدونيس) عن (أدوناي) العبرية بمعني السيد أو الإله ، وأضافوا إليها في مصر بعد الإسكندر المقدوني عبادة إله سموه سرابيس وهواسم مركب من اسمي أوزيريس وأبيس المعبودين المصريين ، وكان لهما معبد تدفن فيه العجول التي تعبد اسم أبيس بعد موتها وذهابها إلي مغرب أوزيريس .
كما أضيفت إليها عبادة (ديونسيس) في أطوارها المتتابعة التي تلبست أخيرا بعبادة (مترا) في الديانة الأورفية السرية .
وقد ترقي اليونان في تصور صفات الأرباب خلال العصور التاريخية ، فعبدوا قبل المسيح ببضع مئات من السنين وهي علي أسوأ مثال من العيوب الإنسانية ، وعبدوها بعد ذلك وهي تترقي إلي الكمال وتقترب إلي فكرة (التنزيه) التي سبقهم إليها المصريون والهنود والفرس والعبرانيون .
فكان أرباب الأوليمب في مبدأ أمر هام يقترفون أقبح الآثام ويستلمون لأغلظ الشهوات ، وقد قتل زيوس أباه (كرونوس) وضاجع بنته وهجر سماءه ليطارد عرائس العيون والبحار ويغازل بنات الرعاة في الخلوات ، وغار من ذرية الإنسان فأضمر له الشر والهلاك ، وضن عليه بسر (النار) فعاقب المارد برومثيوس لأنه قبس له النار من السماء .
ولم يتصوروه خالقا للدنيا أو خالقا للأرباب التي تساكنه في جبل الأوليمب وتركب معه متن السحاب . فه علي الأكثر والدا لبعضها ومنافس لأنداده منها ، وتعوزه أحيانا رحمة الآباء ونبل العداوة بين الأنداد .
ولم يزل (زيوس)إلي عصر (هومير) خاضعا للقدر مقيدا بأوامره ، عاجزا عن الفكاك من قضائه .
ثم صوره لنا الشاعر المتدين علي مثال أقرب إلي خلائق الرحمة والإنصاف ، ومثال الكمال ، ولكنه نسب الخلق إلي أرباب أقدم منه ومن سائر المعبودات الأولمبية .. وهي (جيا) ربة الأرض و(كاوس) رب الفضاء و(أيروس) رب التناسل والمحبة الزوجية ، وجعل أيروس يجمع بين الأرض وزوجها الفضاء فتلد منه الكائنات الساموية والأرضية وآخرها أرباب الأوليمب . وعلي رأسهم (زيوس) الملقب بأبي الأرباب .
وكان (أكسينوفون) المولود بآسيا الصغري قبل الميلاد بنحو ستة قرون أول من نقل إليالإغريق فكرة الإله الواحد المنزه عن الاشتباه ، فكان ينعي علي قومه أنهم يعبدون أربابا علي مثال أبناء الفناء ، ويقول أن الحصان لو عبد إلها لتمثله في صورة الحصان ، وأن الأثيوبي لو تمثل إلها لقال أنه أسود الإهاب ، وأن الإله الحق أرفع من هذه التشبيهات والتجسيمات ، ولا يكون علي شيء من هذه الصفات البشرية ... بل هو الواحد الأحد المنزه عن الصور والأشكال ، وأنه فكر محض ينظر كله ويسمع كله ويفكر كله ويعمل كله في تقويم الأمور وتصريف أحكام القضاء .
وكان أثر الديانات الأسيوية والمصرية أظهر من كل ما تقدم في الديانة الأورفية السرية . لأنها كانت ملتقي عبادة إيزيس وعبادة مترا وعبادة المجوس والبراهمة .
فعرفوا الروح وعرفوا تناسخ الأرواح ، وعرفوا أدوار التطهير والتكفير ، ومزجوا بها عبادة (ديونيس) الذي كان في عصورهم الغابرة إله الخمر والقصف والترف .. فجعلوا خمره رمزا إلي النشوة الإلهية : نشة الحياة والشباب الخالد المتجدد علي مدي الأيام .
وكانت محاريبه الكبري بآسيا الصغري . ولكنهم كانوا يحتفلون في أثينا بعيد يسمونه الانثستريا Anthesteria يوافق شهر فبراير ، وتقوم شعائره علي مزيج من عبادة الحياة وعبادة الأسلاف والموتي ، فيشربون الخمر في جرار الجنائز والقرابين ، ويعتقدون أن هذه الخمر تسري إلي الأجساد البالية فتنفث فيها الحياة وتصلحها للبعث من جديد في أجسام الأجنة المطهرة من أدران حياتها الماضية .
ونحن لا نعني هنا بالفلسفة اليونانية . بل نقصر القول في هذا الفصل علي العقيدة اليونانية التي تطورت عندهم تطور الأديان لا تطور الأفكار والمباحث العلمية أو الفلسفية .
ففي هذا المجال –مجال العقيدة – يمكن أن يقال أن اليونان أخذوا فيها كل شيء ولم يعطوا شيئا يضيف إلي تراث البشر في مسائل الإيمان ، وإنهم حين بدأوا عصر الفلسفة كان أساسها الأول ممهدا لهم في العقائد التي أخذوها عن الديانات الآسيوية والمصرية وأنهم ظلوا بعد الفلسفة يدينون بالوثنية التي كان يدينون بها قبل الميلاد بعدة قرون .
الـــــــSHARKـــــاوى
إن المناصب لا تدوم لواحد ..... فإن كنت فى شك فأين الأول؟
فاصنع من الفعل الجميل فضائل ..... فإذا عزلت فأنها لا تعزل
-
الله في الأديان السماوية
الله في الأديان السماوية
بنو اسرائيل
ومثل بني إسرائيل –أو العبرانيين- مثل جميع الأمم الغبرة في تطور العقيدة . فقد دانوا زمنا بعبادة الأسلاف كما دانوا بعبادة الأوثان والكواكب وظواهر الطبيعة وطواطم الحجارة والأشجار والحيوان .
وبقيت فيهم عبادة الأوثان بعد دعوة إبراهيم عليه السلام وظهور الأنبياء ، فعبدوا (عجل الذهب) في سينا ، بعد خروجهم من الديار المصرية . وفي الإصحاح الثامن عشر من كتاب الملوك الثاني أن حزقيا ملك يهوديا (.. أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية النحاس التي عملها موسي لأن بني إسرائيل كان إلي تلك الأيا يوقدون لها ..) .
وجاء الإصحاح التاسع عشر من كتاب صموئيل الأول أن إحدي زوجات داود عليه السلام –ميكال- (أخذت الترافيم ووضعته في الفراش ووضعت لبدة المغزي تحت رأسه وغطته بثوب) .
والمعروف أن الترافيم أو الطرافين بصيغة الجمع هي تماثيل علي صورة البشر تقام في البيوت وتحمل في السفر ، ويرمز بها إلي الله .
وقد دعاهم موسي عليه السلام إلي التوحيد ونبذ الأصنام والأوثان . وقيل أنه عليه السلام أول من سمي الإله (يهوا)وهو اسم لا يعرف اشتقاقه علي التحقيق . فيصح أنه من مادة الحياة يصح أنه نداء لضمير الغائب ، لأن بني إسرائيل كانوا يتقون ذكره توقيرا ويكتفون بالإشارة إليه ، ويصح غير ذلك من الفروض .
وعبدوا الإله باسم (ايل) أي القوي في اللغة الآرامية . ولكن الأسماء العبرية تدل علي أنهم قد لبثوا زمانا يصفون الايل بالصفات البشرية ويقبلون نسبة القرابة الإنسانية إليه . كما في اسم عمائيل من (العمومة) أو ايل أب) من الأبوة وغير ذلك من أواصر الأسرة البشرية .
زظلوا إلي ما بعد أيام موسي عليه السلام ينسبون إلي الإله أعمال الإنسان وحركاته . فذكروا أنه كان يتمشي في الجنة وأنه كان يصارع ويأكل ويشرب ويخشى مركبات الجبال . وأنه دفن موسي حينما مات في موآب .
وقد خلت الكتب الإسرائيلية من ذكر البعث واليوم الآخر . فالأرض السفلي ، أو الجب ، أو شيول هي الهاوية التي تأوي إليها الأيتام بعد الموت ، ولا نجاة منه لميت .. (وأن الذي ينزل إلي الهاوية لا يصعد) .
وأول إشارة ليوم كيوم البعث وردت في الإصحاح الرابع والعشرين من كتاب أشعيا الذي عاش نحو القرن الثالث قبل الميلاد ، وفيه نبوءة عن يوم (يطالب فيه الرب جند العلاء في العلاء ويجمعون جمعا كأسري في سجن .. ويخجل القمر وتخزي الشمس لأن رب الجنود قد ملك في جل صهيون وفي أورشليم) وفي الإصحاح السابع والعشرين بعه أن الرب يعاقب بسيفه القاسي الشديد في ذلك اليوم (لوياثان الحية العارية : لوياثان الحية المتحولة ويقتل التنين الذي في البحر) ومن أعمال ذلك اليوم جاء في الإصحاح الخامس والعشرين أن رب الجنود (يصنع لجميع الشعوب وليمة سمائن : وليمة خمر علي دردي سمائن ممخة : دردي مصفي) .
وجائت إشارة أخري إلي يوم البعث والدينونة في الإصحاح الثاني عشر من كتاب دانيال : وهي أصرح من الإشارات السابقة حيث يقول النبي : (إن كثيرين من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون : هؤلاء إلي الحياة الأبدية وهؤلاء إلي العار والازدراء الأبدي ..) ويلاحظ أن كتاب دانيال لا يحسب من كتب العهد القديم في جميع النسخ .
ويرجع تاريخ هذه النبوءة إلي أواخر القرن الثاني قبل الميلاد حوالي سنة مائة وخمس وستين ، إنما كان الثواب والعقاب قبل ذلك نصرا يؤتاه الإسرائيليون علي الأعداء أو بلاء يصابون به علي أيدي الأقوياء ، جزاء لهم علي خيانة (يهوا) وعبادة غيره من أرباب الشعوب .
وكان معني الكفر في الإسرائيلية الأولي كمعني الخيانة الوطنية في هذه الأيام . فكانت للشعوب آلهة يؤمن الإسرائيليون بوجودها ولكنهم يحرمون عبادتها كتحريم الانتماء إلي دولة أجنبية . فرب الشعب أحق بولائه وعبادته من الأرباب الغرباء .
وظلوا علي ذلك إلي أن فهموا (الوحدانية) التي تتعالي علي التشبيه والنظير في أيام أشعيا الثاني القائل بلسان الرب : (بمن تشبهونني وتسووني وتمثلونني لنتشابه ؟) .. وهو الذي شدد النكير عليهم قائلا إن الله هو الأول منذ القدم ، وهو المخبر منذ البدء الأخير، ونعي عليهم أن يعبدوا صنما (يرفعونه علي الكتف ويحملونه ويضعونه في مكانه ليقف في موضع ولا يبرحه ، ويناديه الداعي فلا يجيب) .
وكان سقوط الدول الكبيرة في عهد أشعيا الثاني مؤذنا باقتراب يوم إسرائيل الموعود . فقد تداعت بابل ومصر وآذنت فارس بالتداعي والانقسام ، فتجدد رجاء إسرائيل في ملك العالم ، وفسروا سقوط الدول الكبري بغلبة (يهوا) عليها وعقوبته لها علي ما أسلفت من الإساءة إلي شعبه ولاح لهم –لأول مرة- أن ربهم يبسط ظله علي الأرض بما رحبت ، وأن يوم الخلاص الموعود جد قريب .
والغالب في وصفهم للإله أنه غيور شديد البطش متعطش إلي الدماء ، سريع الغضب ينتقم من شعبه كما ينتقم من أعداء شعبه ، ولكن موسي عليه السلام وصفه بالرحمة وفريقا من أنبيائهم وصفوه بالحب واللطف وعلموهم أنه يحب عباده ويطلب من عباده أن يحبه ، أو كما قال هوشع (إنه يريد رحمة لا ذبيحة) وأن خلائق العدل والحق والإحسان والمراحم هي خلائق الأبرار .
وقد شغلت العقائد الإسرائيلية حيزا كبيرا من مقارنات الأديان ، لأنها :
(أولا) نقطة التحول بين العبادات القديمة والعبادات في الديانة الكتابية .
ولأنها (ثانيا) صحبت التطور في فكرة المسيح المنتظر من مبدئها ، فكانت تمهيدا متواليا للدعوة المسيحية ، وهي أوسع الدعوات الكتابية انتشارا بين الأمم التي عنيت بالدراسات العلمية الحديثة في مقارنات الأديان .
ولأنها (ثالثا) موضع مقابلة مستفيضة بينها وبين عقائد البابليين والمصريين والفرس والهنود الأقدمين ، ولها صلة قريبة بعقائد اليونان قبل عصر الفلسفة وبعدها إلي عصر السيد المسيح .
فكانت العقائد الإسرائيلية نقطة التحول .. لأنها بدأت بتصور الإله علي صورة إنسان يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويغار من منافسيه ويخص قبيلته وحدها بالبركة والتشريع ، وقرنت هذه الصور تارة بعبادة الأصنام وتارة بعبادة الموتي أو ظواهر الطبيعة وتماثيل الطواطم من الحيوان والنبات ، ثم تطورت صفات الله في اعتقاد أبنائها من أعلي شيء والعليم بما كان ويكون ، والرحيم الذي يحب الرحماء والودعاء والعاملين بالبر والعدل والإحسان .
ثبتت فكرة (المسيح المنتظر) في عقائد بني إسرائيل بعد زوال ملكهم وانتقالهم إلي الأسر في بابل قبل الميلاد بنيف وخمسة قرون . ومعني كلمة المسيح (المسوح بزيت البركة) لأنهم كانوا يمسحون به الملوك والأنبياء والكهان والبطاريق . فكان شاؤل الملك يسمي بمسيح الرب كما جاء علي لسان داود في كتاب صموئيل الأول : (حاشاني من قبل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي مسيح الرب) ... وكانوا يمسحون الأنبياء بالزيت المبارك كما جاء في كتاب الملوك الأول (وامسح اليشع بن شافاط .. نبيا عوضا عنك) ويمسحون به الكهان كما جاء في كتاب الخروج : (هذا ما نصنعه اهم لتقديسهم .. نأخذ دهن المسحة ونسكبه علي رأسه ونمسحه) ويمسحون به البطارقة ويسمونهم بالمسحاء كما جاء في المزمور الخامس بعد المائة (لا تمسوا مسائحي ولا تسيئوا إلي أنبيائي ...) بل كانوا يمسحون به كل ما يريدون تقديسه كما جاء في كتاب اللاويين : (ثم أخد موسي دهن المسحة ومسح المسكن وكل ما فيه وقدسه . ونضح منه علي المزبح سبع مرات ، ومسح المذبح وجميع آنيته والمرحضة وقاعدتها لتقديسها ، وصب من دهن المسح علي رأس هارون ومسحه لتقديسه) .
وكانوا في مبدأ الأمر ينتظرونه ملكا فاتحا مظفرا من نسل داود ، ويسمونه ابنا الله كما قال ناتان لداود عليه السلام في كتاب صومئيل الثاني : (هو يبني بيتا لا سمي وأنا أثبت كرسي مملكته إلي الأبد . أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا) .
ولكنهم أطلقوا اسم المسيح علي كل من يعاقب أعداءهم ويفتح لهم باب الخلاص من أسرهم كما فعل كورش بالبابليين ، فجاء في كتاب أشيعيا : (هكذا يقول الرب لمسيحه : لكورش الذي أمسكت بيمينه لادوس به أمما ..) .
وخطر حينا للنبيين زكريا وحجاي في أواخر القرن السادس قبل الميلاد أن زرابابل –والي يهوذا- هو المسيح المنتظر . لأنه أعاد بناء البيت في السنة الثانية للملك داريوس .
وتهذبت هذه العقيدة مع الزمن فأصبحوا ينتظرون الخلاص علي يد الهداة العادلين بعد طول انتظاره من زمرة الغزاه الفاتحين فقال زكريا في رؤياه : (ابتهي جدا يا ابنة صهيون . اهتفي يا بنت أورشليم . هو ذا ملكك يأتي إليك : هو عادل ومنصور وديع . راكب علي حمار : علي جحش بن أتان) .
وقد طالت المقارنات بين بعض الصلوات الإسرائيلية وبعض الصلوات المصرية .. ولكن علماء الأديان عقدوا المقارنة الكبري بين مأثورات بابل وفارس ومأثورات إسرائيل .
فقصة الخليفة في العقائد الإسرائيلية الأولي تشابه قصة الخليقة في ألواح بابل .. وعقيدة (المخلص) المنتظر موجودة في الديانة الفارسية وموجودة في الديانة الإسرائيلية .. وكان البابليون يؤمنون بأن الإنسان تمرد علي قسمة الموت وطمح إلي خلود كخلود الأرباب فبحث عن ثمرة البقاء في السماء وخدعه إله ماكر عن بغيته فناوله بديلا منها ثمرة تشبهها في ظاهرها ولكنها ثمرة الفناء ، وهي ثمرة الحب التي تعطي الفناء في صورة البقاء ، وهذه في جملتها لا في تفصيلها قريبة من المأثورات الإسرائيلية في هذا الموضوع .
وعند البابليين قصة مفصلة عن الطوفان ، ولكنها في الواقع متواترة شاملة توجد بقاياها في المأثورات القديمة من أمريكا الجنوبية إلي الهند . فيروي أهل أقليم كنديماركا Cundimarca بأمريكا الجنوبية أن امرأة الرجل المقدس بوشيكا أولعت بالساحر وأصغت إلي وسواس الشيطان فأخرجت نهر فونزا Funzha من مجراه وأغرقت الإقليم كله بإنسانه وحيوانه ونباته ، فلم يعتصم منه إلا من اتبع بوشيكا إلي الجبال . ثم عاد بوشيكا فجمع قومه وعلمهم عبادة الشمس وأسلم الروح .
وقصة الطوفان عند المكسيكيين المعروفين بالشيشميين Chichimygues العصر الأول من عصور الخليقة -وهو المسمي عندهم بعصر اتوناتيو- أي عصر شمس الماء- قد انتهي بطوفان جارف نجا منه رجل واحد اسمه تزبي وامرأته ششكتزال ، وكانت نجاتهما علي زورق مصنوع من خسب الصفصاف ، ويروي اهل بيرو قصة شبيهة بقصة المكسيكيين .
وعموم قصة الطوفان يثبت وقوع الطوفان وأن تقادم به العهد فتعددت به الروايات . وقد طالت المقارنات كما أسلفنا بين مصادر العقيدة عند الإسرائيلين ومصادرها عند شعوب بابل ومصر وفارس والهند علي التخصيص .
فبعض علماء المقارنات يري أن البابلين نقلوا قصة الخليقة وقصة الطوفان من قوم إبراهيم عليه السلام لأنه نشأ فيهم قبل الميلاد بألفي سنة علي التقريب .
وبعضهم يري علي نقيض ذلك أن هذا النقل جائز في المأثورات التي انقطعت أسنادها وأمكن أن تبدأ عند البابليين والإسرائيليين علي السواء ، ولكنه غير جائز في المأثورات التي تسلسلت مما قبلها في عقائد بابل وفارس .
ونحن هنا لا تعنينا مقارنات العقائد إلا من جانب واحد ، وهو جانب اتطور البشري في إدراك صفات الله .
ومتيقصرنا النظر علي هذا الجانب فالثابت من تاريخ الديانة الإسرائيلية أنها انقلبت بعد عصر إبراهيم عليه السلام إلي وثنية كالوثنية البابلية ، وأن التوحيد الذي بشر به أخناتون في مصر القديمة سابق لشيوع التوحيد في شعوب إسرائيل ، ولكن العقيدة الإسرائيلية عاشت بعد اختفاء عقيدة أخناتون وبعد عصر موسي عليه السلام .. فكانت هي كما تقدم نقطة التحول في تطور الاعتقاد بالله بين الأمم التي تؤمن اليوم بالأديان الكتابية .
الفلسفة
أول ما يقع في النفس من متابعة الأطوار الدينية –كما أوجزنا ها كل الإيجاز فيما تقدم- أن مهمة الدين هي مهمة النوع الإنساني كله ، قد تلمس فيها السبيل القويم من أقصي عصور ماضيه إلي حاضره الذي نحن فيه ، وأنه كلما ترقي بتفكيره وترقي بأخلاقه وأحواله تهيأ لقبول عقيدة التوحيد ، وترقي في هذا الاتجاه من تنزيه إلي تنزيه ، ومن كمال إلي كمال .
وتتجلي هذه الظاهرة في الأديان القديمة التي أتمت نضجها وبلغت مستقرها في زمانها واستكملت من قبل جميع شعائرها ، كالديانة المجوسية التي أسلفنا تلخيصها كما أعتقدها أهلها قبيل الميلاد وبعده بقليل . فإن أبناءها قد أخذوا بعقيدة التوحيد بعد احتكاكهم بالمسلمين وأصبح المجوس الذين يسمون اليوم بالباريسيين يؤمنون بإله واحد : هو إله الخير يزدان ولا يشركون معه أهرمن كما فعل أسلافهم الأقدمون . قال العلامة جيمس دار مستتر Darmester في كلامه علي زرادشت من كتاب حوادث العالم الكبري : (أنهم قد انتهوا إلي الوحدانية ، وأن الدكتور ويلسون حين كان مشغولا بمناقشة الباريسيين منذ أربعين سنة –نعت دينهم بالثنوية فأنكر مجادلوه هذه التهمة ، وقالوا أن أهرمن لم يكن له وجود حقيقي وأنما هو رمز لما يجيش بنفس الإنسان من خواطر السوء . فلم يعسر علي الدكتور أن يبدي لهم أنهم يناقضون بذلك كتبهم المقدسة . ولم يزل النقاد الأوربيون حينا بعد حين يعجبون للتقدم الذي تقدمه البارسيون في المذهب العقلي بعد مدرسة فولتير وجيبون . ولكن الواقع أنه ليس للمذاهب الأوربية تأثيرا وراء هذا التقدم . فإن البارسيين قبل أن يسمعوا بأوربة والمسيحية وجد فيهم من فسر أسطورة تاموراث الذي امتطي أهرمن ثلاثين سنة كما يمتطي الحصان –بأنها تعني ذلك الملك قد كبح شهواته وزجر نوازع الشر التي تحيط بسريرة الإنسان . وشاع فيهم هذا التفسير المثالي نحو القرن الخامس عشر للميلاد ولا يزال شائعا اليوم بين المفسرين . وليس في الوسع أن نقرر علي التحقيق مبلغ تأثير الديانة الإسلامية في هذا التحول . فقد نلمح هنالك علامات ضعيفة علي ابتدائه منذ عهد المجوس الأقدمين ..) .
ولا بد أن نلاحظ هنا أن المهم هو تهيؤ الذهن للتوحيد ،وليس المهم هو ما قصده الإنسان في نيته وعمله فعلا في هذا السبيل .
فلا الحقائق الدينية ولا الحقائق العلمية يقدح فيها ما قصده العقل أو قصدته النوازع النفسية قبل الوصول إليها .
فإن الإنسان قصد تسيير السفن وتنظيم الملاحة فعرف الفلك ورصد ظواهر السماء ، وقصد قياس المزارع فعرف الهندسة ، وقصد الذهب فعرف الكيمياء ، وقصد الشعوذة فعرف الطب ، وبدأت بالفلسفة من بداءات أعجب من بداءات الأديان ، ولم يحسب ذلك عيبا علي الحقائق التي انتهي إليها من هذا السبيل .
فالمهم في الأطوار الدينية هو الحافز الدائم الذي لزم النوع الإنساني من أقدم عصوره ، وهو الوجهة القويمة التي يسعي إليها ويقترب منها ، ولا تزال بداهة الفطرة سابقة فيها لأشواط العقل في مضمار الفلسفة والتفكير . وهذه هي معجزة الجهود الدينية عند الالتفات إليها وإمعان النظر فيها . فإن عقول الفلاسفة أقدر علي التأمل من بداهة الجماعات ، ولكن الذي رأيناه في تاريخ الفلسفة قديما وحديثا أنها أخذت من بداهة الجماعات أساسها المتينة ولم ترتفع إلي ذروة أعلي من التي ترقي إليها الضمير بعقيدة التوحيد والتنزيه ، ونفهم هذا عقلا إلا علي أعتبار واحد ، وهو أن هداية الله تأخذ بيد الإنسان خطوة فخطوة في هذا المرتقي الوعر . فيهتدي في كل مرحلة من مراحلها بمقدار .
لقد آمن الإنسا بالإله الواحد من طريق العقيدة قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون ، ولكنه لم يعرف (السبب الأول) من طريق الفلسفة إلا حوالي القرن الرابع قبل الميلاد . وكان جل اعتماده في ذلك علي الدين .
فمن الدين تلقي الفلاسفة فكرتهم عن الروح ، ومن الدين تلقوا فكرتهم عن بطلان الظواهر المادية ، ومنه تعلموا التفرقة بين العقل والمادة فتعلموا كيف ينفذون إلي ما وراء الحس ويوغلون في تصفية كنه الموجودات إلي أعماق لا تغوص فيها الأجسام وآفاق لا تدركها الأبصار .
وقد استعاروا من الأديان الأولي عقائد المؤمنين بها في تعليل أصول الكائنات والتنبؤ عن مصيرها بعد وفاء آجالها من الوجود . فقالوا إن السماء والأرض خلقتا من الماء ، وقالوا بالدورات الكونية التي تبدئ العالم وتعيده كرة أخري علي طويل الأدهار والآباد ، وقالوا بالحساب والعقاب كما قال سابقوهم من المتدينين ، وفهموا أن قدرة الله تخالف قدرة القوي المادية التي تعمل بالجهد والعناء ... فتعلموا أن الله يخلق بالكلمة أو المشيئة فيفعل ما يريد . وأخذوا من الديانات القديمة صوابها وخطأها وحقائقها وأوهامها ، ثم محصوها فلم يجاوزوا بالتمحيص والتمحيض آفاق الإيمان بوحدانية الله .
وإننا لنحسب أن الاهتداء إلي القوة الروحية أو قوة العقل هو أعلي ما ارتفع إليه فكر الإنسان وضميره ، بإلهام الدين وبحث الفلسفة والعلوم .. فليست القوة كثافة ولا مادة مجسمة للعينين واليدين . وأن القوة المادية نفسها حين تدخل في حساب العقل لهي أقرب إلي أن تقاس بالأرقام والتقديرات من أن تقاس بالثقل والضخامة . بل الثقل نفسه ليس هو إلا معني من المعاني نسميه بالجاذبية ونقيسه بالتقديرات الرياضية .
ولهذا نستكبر علي البادئين بهذة الفكرة المنزهة قبل عشرات القرون أنهم وثبوا إليها وثبة واحدة وقصدوا بها ما نقصده اليوم حين نتكلم في الفلسفة تارة ونتكلم في العلوم الطبيعية تارة أخري .
يتبع
ونتخذ من تطور هذه الفكرة مثالا للأساليب الإنسانية في الوصول إلي حقائق الأشياء ، ودليلا علي القاعدة التي نقررها لوزن الأطوار الدينية بميزانها الصحيح ، وهي أن العبرة بالوجه التي تحركنا إلي تلك الوجهة ، وإن قصد الإنسان لا يعبر تمام التعبير عن قصد القضاء الذي يسيره ويغريه بالعمل والاجتهاد .
فنحن نرجح أن العقل خطر له أن الله يخلق بكلة ولا يخلق بجهد من جهود الحركة المادية – قد استعار هذه الفكرة السامية من شيء رآه لا من شيء بحثه واستقصاه .
وأقرب هذه الأشياء المرئية إليه هي قدرة الساحر علي التأثير بكلمة يقولها والسيطرة علي الأجسام والأجرام الضخام بالهمهمة والتعزيم ، وهي ضرب الكلام .
والله أقدر من الساحر . فإذا قدر الساحر أن يحرك صخور بكلمة ويكسر السلاح بكلمة ، ويقتل العدو بكلمة ، فأولي بالخالق الأعظم أن يملك هذه القدرة ويملك ما ه أعظم منها وأدل علي المضاء ونفاذ المشيئة ، فلا جرم يشاء فيكون ما يشاء .
فلما جاءت الفلسفة وتناولت هذه الفكرة الكبرى لم تصل إلي شوط أبعد من شوطها ولكنها وصلت إلي بداءة أقوم من بداءتها . فكان مثلها في هذا كمثل من وجد الكنز ورسم الدروب التي تتأدي إليه . وكان مثل الأسبقين كمثل من عثر بالكنز فوقع فيه . وبقي الكنز بجوهره ونفاسته لمن يسلك إليه منهجه القويم .
وسنري للفلسفة –كما رأينا للعقيدة- بدايات كثيرة كهذه البداية وتوفيقات كثيرة كهذا التوفيق .. بل سنري أن بداية الفلسفة نفسها لم تخل من توفيق بين لا بد فيه لتدبير ذويه .
فقد كان للتوفيق يد ملحوظة في زمان الفلسفة ومكانها فبدأت حوالي القرن السادس قبل الميلاد في العصر الذي بلغت فيه الديانات القديمة أقصي آمادها من تصور الفكرة الإلهية والعقيدة الروحية ، وكان ذلك العصر هو عصر النضج والتمام في الديانة الإسرائيلية وهي آخر الحلقات في السلسلة القديمة وأول الحلقات في سلسلة جديدة من ديانات الوحي والأنبياء ، أو الديانات الكتابية .
أما كان الفلسفة اليونانية فهو رقعة من الأرض علي اتصال بأبناء كل دين قديم من توخم الهند إلي ضفاف النيل ، وزاد اتصالها بتلك الأمم زحوف الفاتحين وجموع المهاجرين ، تارة من المشرق إلي المغرب وتارة من المغرب إلي المشرق .. فكان اليونان في آسيا الصغرى يعرفون عبادات المجوس والبابليين والمصريين واليهود ، وكان روادهم ينتقلون بينالأقطار فيعرفون فيها ملا يعرف في بلادهم من الخفايا والأسرار . وساعدهم الحظ فخلت بلادهم من الكهانات الراسخة التي تستأثر بالتفكير في مسائل الكون ومسائل العقيدة . لأن الكهانات الراسخة إنما تقوم مع العروش العريقة علي أودية الأنهار الكبار ، كمصر والعراق وبعض الأقاليم الهندية . ولم يكن في أرض يونان كلها نهر تتأثل عليه دولة شامخة وكهانة مستقرة . فطرقوا أبواب الفكر أحرارا غير محجمين عن معضلة معقدة ولا مناقدين لإمامة متحكمة . فاختاروا فيما أخذوه واختاروا فيما نبذوه وتزودوا من رسالة الإيمان لرسالة البحث في الحكمة والعلوم .
وهم –علي إعفائهم من سلطان الهياكل العريقة- لم تخل فلسفة لهم قط من فكرة دينية في أساسها أو في مضامينها .. ولا استثناء في ذلك لأكبرهم وأقدرهم ، وهم سقواط وأفلاطون وأرسطو . فإن طلاقة أرسطو في مباحثه العلمية والفلسفية لم تخرجه من سلطان الفكرة الدينية في القول بالهيولي والحركة الأولي . فلولا الإيمان بالخالق والمخلوق والروح والجسد لما خلص أرسطو إلي الصورة والمادة بين العقل والهيولي .
وأول المشهورين من فلاسفة اليونان طاليس المليطي الملقب بأبي الحكماء . وكان يقول كما قالت الأديان من قبله أن الماء أصل كل شيء ، وأن الروح تحرك المادة ، فما من متحرك إلا وهو ذو روح أو منقاد لذي روح . ولا يستطيع المغناطيس مثلا أن يجذب الحديد إلا بروح فيه .
ويظن شارحوه أنه قال بأصالة الماء لأنه رأي النطفة سائلة ورأي النبات الرطب يدخل الجسم فينقلب فيه إلي حرارة حيوانية ، ووهم أن الارض سابحة علي الماء ، وأن الشمس تخرج منه وتعود إليه . فإذا غلظ فهو أرض وإذا رق فهو بخار أو نار وهواء .
والعالم علي زعمه مملوء بالأرباب ، وهي التي تحرك فيه كل متحرك من الحي والجماد .
وجاء بعده انكسماندر –ولعله من هذا الطراز- فقال أن الأشياءكلها تخرج من مادة أولية ولكنها ليست الماء ولا النار ولا الهواء ولا التراب . لأن الماء لو كان أصلا لهذه العناصر لغلب عليها وطواها ، وكذلك التراب والهواء فهي إذن سواء كلها في الانتساب إلي أصل أقدم منها وهي تتزاوج وتتمازج ويود كل عنصر منها أن يجور علي صحة غيره في الوجود . فإذا خرج بها الشطط عن سواء الاعتدال عادت كلها إلي معدنها الأول وزالت الفوارق بين الأجسام والأحياء لتعود إلي الوجود من جديد ،وهكذا دواليك في حركة دائمة لا انقطاع لها منذ القديم إلي غير نهاية . فهو علي هذا دورات كونية كالدورات التي قال بها الهنود البابليون .
ويقول انكسماندر بالتطهير والتفكير في دورات الخالق المتعاقبة كما يقول بهما الهنود .. (فإلي المعدن الذي خرجت منه الأشياء تعود كرة أخري كما قضي عليها ، تكفيرا وترضية عن جور بعضها علي بعض ، وفقا لقضاء الزمن) .
وهو يقول بخروج الإنسان الأول من الماء وطين البحر ، ولكنه يستبعد خروجه دفهة واحدة لأنه في طفولته ضعيف غير مستغن عن الحضانة والكفالة . وكان الأقدمون يزمعون أن سمك (القرش) يقذف جنينه من فيه ثم لا يزال يبتلعه ويقذفه في كل مرة أكبر مما قبلها حتي يبلغ أشده فيرسله في الماء ولا يعود إلي ابتلاعه .. فخطر لانكسماندر أن الإنسان الأول ربما خرج من جوف من حيوان آخر علي هذه الوتيرة ، ولا يبعد أنه استعار هذا الخاطر من أساطير أهل بابل وما يرونه عن (الإنسان) المائي الذي يتألف من نصف إنسان ونصف حوت .
ظاهر من أقوال انكسماندر أن مسألة الخلق عنده هي مسألة تحول من شكل إلي شكل ومن صورة إلي صورة وليست مسألة إنشاء أو أحداث بعد عدم . وأن المادة الأولية التي تئول إليها جميع الموجودات هي كذلك مصدر الأرباب وأنصاف الأرباب ، ومصدر المحركات والمتحركات ، ولا مهرب لرب أو مربوب من الفنان آخر الأمر في معدنها الأصيل ، وهذا بعينه مذهب الهنود كما قدمناه .
ولم يزد أناكسمين . تلميذ انكسماندر –شيئايذكر عن أقوال أستاذه في باب المعرفة الإلهية . وإن كانت له تخمينات قيمة من الجاذبية والذرات وتعريفات الحركة ، وقد ختمت به مدرسة مليطية ومات في الربع الأخير من القرن السادس قبل الميلاد .
وكأنما كانت مدرسة مليطية نفخة في بوق مسموع في طليعة جند الحكمة ، لاسيما الحكمة الإلهية . فإن آسيا الصغري وما حولها أنجبت في الجيل التالي لجيل طاليس وزملائه طائفة من أعظم الفلاسفة أثرا في مذاهب الحكمة الإلهية ، ومن هذه الطائفة أكسينوفان وهيرقليطس وفيثاغورس وديمقراطيس وانكسغوراس .
ورسالة أكسينوفان الكبري تنحصر في أنحائه الشديد علي كل تشبيه أو تمثيل توصف به الأرباب . لأن حقيقة الإله عنده من وراء خيال الإنسان ، وإنما يتخيل الإنسان أربابه علي هيئته ويعزو إليها أخلاقا كأخلاقه وأعمالا كأعماله . ولو كان للحصان يد تحسن التصوير وسئل أن يصور إله لصره حصانا مثله ، ولو تخيل الاثيوبي ربه لتخيله أسود أفطس علي مثاله . وهيهات للعقل البشري أن ينفذ إلي الحقيقة الإلهية أو يقاربها بعض المقاربة . فكل ما قيل عنها وما سيقال قد يكون فيه الصواب او بعض الصواب . ولكنها مصادفة يجهلها القائل ولا يقيسها السامع بقياس معلوم .
أما هيرقليطس فاعله أعظم هؤلاء الأربعة أو أعظم فلاسفة آسيا الصغرى علي الإطلاق .. ويرجع أن هيرقليطس اتصل ببعض الآرميين أو بعض اليهود . لأن الآرميين الذين تهودوا كان من عاداتهم –كما تبين من ترجمتهم للتوراة المعروفة بالترجوميم- أن يذكروا كلمة الله (ممرا)Memra والحضور (شكينة) من السكن أو مكان الحضور ... وينسبون إليها أعمال الله في مقام الإسارة والتعظيم . فيولون حضرة الله كما يقولون كلمة الله وهم يعنون الإله ويؤثرون الإشارة إليه تعضيما له عن الذكر الصريح ، ومثل هذا شائع إلي اليوم في اللغات الشرقية التي تذكر الحضرة وتعني صاحب الحضرة وتذكر الأمر والكلمة وتعني صاحب الأمر والكلمة .. فكلمة الله علي هذا المعني ترادف أمر الله عند الآرميين واليهود .
وكان هيرقليطس يقول إن الكلمة Logos هي مساك الوجود كله ، وانها هي النطام الذي يحيط به ويتغلغل فيه ، وإنها لا تصنع إلا الصالحين من الأمور (فعند الله كل شيء جميل وخير ، ولكن الناس هم الذين يعتبرون بعض الأمور من الخير وبعضها من الشر) .
وتكاد الكلمة عنده أن تكون مرادفة لمعني الله . فهي النظام الذي يضع كل شيء في موضعه . وكذلك الله (هو النهار والليل والشتاء والصيف ، والحرب والسلم ، والشبع والجوع ، ويتخذ الأشكال والمظاهر علي اختلاف . كالنار وهي تمتزج بالأبازير فيسمي كل منها باسمه لا باسم النار) .
والاختلاف هو أساس الانسجام والنظام . فلولا النقائض لما كان النغم المنسجم ولولا التعدد لما كانت الوحدة : (فكل شيء يأتي من الأحد ، والأحد يأتي من كل شيء .. ولكن الكثرة دون الوحدة في الوجود الحقيقي ، وذلك هو الله) .
لكن هيرقليطس لا يقول بالخالق ولا بحاجة الموجودات إلي موجد . (فهذه الدنيا التي هي سواء للجميع لم يخلقها أحد من الآلهة ولا من الناس ، ولكنها كانت منذ الأزل وتكون الآن وتظل كائنة في كل زمان . نارا خالدة تتقد بحساب وتنطفئ بحساب) .
فالنار هي أصل العناصر وهي المصدر الأول لجميع الكائنات ، وهي حركة دائمة لا انقطاع لها في لحظة من اللحظات فأنت لا تري الشيء الواحد غير مرة واحدة ولا تري شمسا واحدة كل صباح .. أو أنت علي تعبيره لا تنزل النهر مرتين لأن أمواجه تطرد ولا تبقي كما لمستها في المرة الأولي . وهذا الجيشان الدائم يستخرج منكل شيء ضده وتتم الألفة بين الأضداد المتقابلة بميزان العدل الذي لا يغفل ولا يني عن تسوية المقادير وزيادة الناقص ونقص الزائد . ولهذا الرأي في الأضداد وتناسقها شأنه في مذهب الفلسفة الحديثة ، لأنه رائد الثنائية التي قال بها (هيجل) واشتق منها كارل ماركس مذهبه المشهور في الثنائية المادية .
وهيرقليطس كما تقدم يقول باستغناء الموجودات عن الموجد ولكنه يقول بحاجتها إلي العدل الإلهي الذي لا قوام بغيره ، ويتكلم عن الله كلامه عن (ذات) مدبرة مريدة ومن ذاك قوله : (أن الله لا شك مساك العدل في الكون كله) .. و(أن أعمال الإنسان خلو من العقل ، ولكن أعمال الله لا تخلو منه ، وما الإنسان إلا كالطفل بالقياس إلي الله .. وأعقل الناس كالنسناس بالنسبة إلي الإله ، وهو إذا قورن بالإله كان دميما شائها كما يشوه أجمل القردة إذا قرن بالإنسان ..) .
وقد ولد فيثاغورس في جزيرة (ساموس) علي مقربة من آسيا الصغري .وكان مذهبه نسخة يونانية من الديانة الهندية . فهو يقول بتناسخ الأرواح وبطلان المادة وتجدد الدورات الكونية ، ولا يري الحقيقة الإلهية المنبثة في الكون كله ، ويفهم من كلامه أنه يقول بوحدة الوجود كما يقول بالحلول . أي حلول الروح الإلهية في الإنسان حتى يصبح أكثر من إنسان وأقل من إله . كما قال : (هناك أرباب وأناسي ، وكائنات مثل فيثاغورس) وأقدم الكائنات عنده أربعة هي : الأب والصمت والعقل والحق ، ومن الأولين صدر الاثنان الآخران .
وهو يوصي بالحيوان ويحرم أكل لحمه . ويعتقد أن جسد الحيوان قد يشتمل علي روح إنسان يتطهر بالتناسخ حتي يكفر عنآثامه فيلحق بالرفيق الأعلي ، وتعفي روحه من عقوبة الرجعة إلي الأجساد .
وليست النار ولا عنصر من العناصر التي حصرها القدماء في النار والتراب والهواء والماء أصلا للموجودات . ولكن العدد هو أصل كل موجود لأنه يلازم الوجود ولا ينفصل عنه كما قد ينفصل عنه اللون أو الثقل أو الحجم أو الكثافة المحسوسة .فالنسب العددية هي مناط الاختلاف بين جميع الأشياء ، وهذا الرأي –علي ما يبدو من سخفه- هو أقرب إلي الصواب ، من آراء الفلاسفة الآخرين .. لأنه يتعزز بالكشوف العلمية عن المادة وسبب الاختلاف بين عناصرها وردها جميعا إلي حركات تتمايز بالنسب العددية في الخلايا والذرات .. وكان ديمقريطس يقول مثل قوله في تركيب الأشياء من العدد ، ولكنه يخالفه في المادية ويعني بالعدد عدد الذرات الصغيرة التي تتركب منها جميع الموجودات ، ومنها الأرباب .
ويأتي انكسغوراس بعد فيثاغورس في الزمن والمكانة بين حكماء آسيا الصغري .. وهو الذي عمم كلام هيرقليطس عن الكلمة Logos وسماها Nous أي العقل ووصفه بأنه جوهر مجرد خالد واحد لا يتعدد ، وأنه هو مصدر حركة دوارة تدفع ما خف إلي أعلي الكون وتهبط بما سفل إلي مركزه . وما من شيء إلا وفيه أضداد حتي أصغر الذرات التي لا ترد بالعين . إلا العقل فإنه منزه عن التعدد والتناقض .. وهو الله أو هو الصلة بين الله والعالم . ولا فرق بين العقل في الإنسان وفي الحيوان وفي الجماد إلا بالأداه التي يستخدمها ولولا تفاوت الأجساد في إتقان الأداه لما اختلفت عقول البشر وعقول الحيوانات وعقول الحجارة الصماء .
والأثر الأكبر الذي يذكر لهذا الفيلسوف أنه كان أول من نقل الفلسفة من آسيا الصغري إلي أثينا أيام بركليس . وكانت أثينا قبل ذلكتتنكر للمباحث الفلسفية وتتهم من يبحثون فيها وينقطعونعن الشعائر الدينية ، ولم يسلم انكسغوراس من تعصب أهلها لأنهم سنوا قانونا يعاقب كل من يتعرض للأشياء (التي في العلى) ويهجر عبادة الأرباب الأولمبية وما جري مجراها ، واتهموه بالكفر لأنه كان يقول بأن الشمس صخر محمي وأن القمر كالأرض من تراب ، ولولا بركليس لما نجا من مصير كمصير سقراط بعده بقليل .
وقبل أن ننتقل إلي المدرسة الأثينية الكبري –وهي مدرسة سقراط وأفلاطون وأرسطو- نلم بمدارس ثلاث من مدارس الفلسفة التي كانت لها عناية خاصة ، أو كان لها شأن خاص –بمسائل العقيدة الدينية ، وهي مدرسة إيطاليا الجنوبية ومدرسة الراقيين ومدرسة أبيقور ، وبعض فلاسفة هذه المدارس لاحق للمدرسة الأثينية في الزمان .
ويرجع نشاط المدرسة الإيطالية أيضا إلي مدارس آسيا الصغري ، لأن فيثاغوراس وأكسينوفان هما صاحبا الفضل الأكبر في تنبيه الأذهان إلي مباحث الفلسفة في إيليا وصقلية بعد هجرتهما من وطنهما الأول . وقد نبغ هنالك كثير من أصحاب الآراء الفلسفية أجدرهم بالذكر في هذا المقام ثلاثة : هم بارمنيد وزينون وأمبدوقليس ، لأنهم يمثلون كل ناحية من نواحي التفكير في مدارس إيطاليا الجنوبية .
ولباب مذهب بارمنيد أنه لا وجود لغير الواحد ، وأن كل وجود غيره وكل ما نراه من التعدد والتغير إنما هو وهم الحس وخداع الظواهر ... فلا تغيير ولا أضداد كما يقول هيرقليطس . وإنما هي حالة واحدة نراها علي درجات ونحسبها لذلك من قبيل الأضداد . فالبرد قلة في درجة الحرارة والظلام قلة في درجة الإضائة والمرض قلة في درجة الصحة ، وقس علي ذلك جميع الأضداد من هذا القبيل .
قال مدللا علي بطلان التغيير : (كيف يتأتي أن الشيء الذي هو كائن يفقد الكينونة ؟ وكيف يتأتي أن يكون بعد أن لم يكن ؟ فإذا حدث هذا الشيء فلا بد قبل حدوثه من زمن لم يكن فيه . وكذلك يقال إذا كان حدوثه سيبدأ في المستقبلوأين تبحث عن أصل الشيء الذي هو كائن ؟ وكيف ومتي يحدث نماؤه ؟ لا أري لك أن تقول أنه يأتي من لا شيء فإن اللاشيء لا يقبل التفكير . وما هي يا تريتلك الضرورة التي توجده في زمن من الأزمان دون سائر الأزمان ؟ كذلك يمنعك النظر الثاقب أن تصدق أن الشيء الذي هو كائن يموت إلي جانبه كائن آخر) .
يتبع
ومعني هذا أنه لا شيء يأتي من لا شيء . فالعالم قديم لم يحدث ، والواحد الذي يؤمن به بارمنيد ليس خالقا للكون بل هو حقيقة الكون . ويقول في وصفه أنه كرة محيطة لا تقبل التجزئة ، لأن كلها حاضر في كل جزء منها .
ويعتبر زينون الايلى ابرع المدافعين عن مذهب أستاذه بارمنيد ، فإنه أبدع تلك النقائض التي رد بها علي أنصار هيرقليطس وفيثاغورس حين أنكروا الوحدة وسخروا من مذهب بارمنيد بتلفيق الأحاجي والأماثيل . فأبدع لهم تلك النقائض البارعة التي يثبت بها الإحالة والخلف علي القائلين بالتغير والكثرة . ونجتزئ منها ببعض الأمثلة للدلالة علي طريقة هذه المدرسة في إثبات الوحدة الكونية ونفي التعديد والتغيير .
قال ما فحواه : إن الشيء الكثير إذا كانت كثرته بالامتداد فهو قابل للقسمة إلي شطرين ، وكل شطر منهما قابل للقسمة إلي شطرين . وهكذا إلي غير نهاية . وهو مستحيل لأن المحدود لا يقبل القسمة بغير حدود . أما إذا قلنا أن الجزء الذي تنتمي إليه لا يقبل القسمة فهو مستحيل أيضا . لأنه ذو امتداد وكل ذي امتداد ينقسم إلي نصفين .
ويقال في الكثرة بالعدد ما يقال في الكثرة بالامتداد ز فإن الأعداد منفصل بعضها عن بعض ، بين كل منفصلين مسافة تقبل القسمة ولا تزال تقبلها علي النحو الذي تقدم في كثرة الامتداد .
وهو يبطل الحركة لأن التغيير إنما يقوم عليها ، ويبدع لذ1لك نقيضة من قبيل نقائض الكثرة فيقول : إن الحركة لا تنتهي إلي غايتها إلا إذا قطعت نصف المسافة ثم نصف إلي غير نهاية . ومن التناقض أن يقول إن حركة تنتهي بلا نهاية ..ويضرب مثلا آخر بالمسابقة بين عداء وسلحفاة فيقول : إذا سبقت السلحفاة العداء بأقصر مسافة فإن العداء لا يلحق بالسلحفاة إلا إذا عبر المسافة التي بينهما وفي هذه الأثناء تكون السلحفاة قد سبقته إلي مسافة أخري لا بد له من عبورها ، هكذا إلي غير انتهاء ، وهو محال .
وأكثر هذه النقائض من قبيل المغالطات . لأن يعتبر فيها الزمان ولا يعتبر المكان ويعتبر فيها المكان ولا يعتبر الزمان . ولكن كلامه عن الجزء الذي لا يتجزأ ينطوي علي معني صحيح يدل علي ضلال الحس في تصور المادة والفضاء ولعل أفضل الحلول لهذه المناقضة هو حل الأفلاطونيين الذين قالوا إن الجسم يتجزأ إلي أن ينمحق فيصير هيولي أي مادة أولية ، والمادة الأولية هي الذرة المنحلة .
ولم يأت زينون الإيلي في باب الإلهيات برأي يزيد علي رأي أستاذه ، فهو يؤمن بالواحد الذي لا يتعدد ، ولا يجعلة إلها خالقا منشئا للعالم من العدم ، لأنه لا يؤمن بالتغيير ولا بحدوث شيء من لا شيء !
أما أبقليس فهو أقرب الفلاسفة إلي زمرة الشعراء ، وكان ينظم فلسفته ويعتمد فيها علي الخيال فقد تخيل العالم كرة وقال أن الحب هو إله العالم والنزاع عدوه الراصد له علي الدوام .
وكان أمبدوقليس يدعي الحلول ويزعم أنه مشتمل علي روح إله ، ويروي تلاميذه معجزات له تحسب من خوارق العادات ، ويلتمسون منه البركة والرضوان كأنه من القديسين .
أما المدرسة الرواقية فقد أوشكت أن تكون نحلة دينية ، لأنها امتازت بعلم كعلم اللاهوت في المسيحية أو علم الكلام في الإسلام ، وهي لاحقة لمدرسة سقراط وأفلاطون وأرسطو في تاريخ الظهور ، ولكننا نفردها علي حدة قبل الكتابة عن المدرسة الأثينية ، لأنها نمط مستقل في مباحث الفلسفة علي الإجمال ، وبينها المدرسة الأثينية فرق واضح في الطبيعة والموضوع .
وأشهر فلاسفتها المستجمعين لنواحي التفكير ثلاثة : هو زينون وكليانتاس وشريسبس ، وكلهم متقاربون في تاريخ الميلاد .
فزينون ولد سنة 336 قبل الميلاد في قبرص وعاش وعلم في أثينا ، وخلاصة رأيه أن الموجود هو الفاعل أو المنفعل ، وأن أصل الموجودات كلها النار وأصل النار الهيولي والله هو العقل الفاعل والهيولي هي المادة المنفعلة ،ولكنه لا يؤمن بوجود لشيء غير مادي . فالله عنده (أثير) لطيف روي عنه جالينوس أنه يعارض أفلاطون لأن أفلاطون كان يري أن الله جوهر منزه عن المادة الجسدية وزينون يقول أنه جوهر ذو مادة Soma وأن الكون كله هو قوام جوهر الإله ، وأن الإله يتخلل أجزاء الكون كما يتخللالعسل قرص الخلايا ، وأن الناموس Nomos وهو بعبارة أخري مرادف للعقل الحق Orthos Logos أو الكلمة الحقة –هو والإله زيوس شيء واحد يقوم علي تصريف مقادير الكون ، وكان زينون يري للكواكب والأيام صفة إلهية ويعتقد أن الفلك ينتهي بالحريق وتستكن في ناره جميع خصائص الموجودات المقبلة وأسبابها ومقاديرها ، فتعود كرة بعد كرة بفعل العقل وتقديره ، ويشملها قضاء مبرم وقانون محكم كأنها مدينة يسهر عليها حراس الشريعة والنظام .
ويترادف عنده معني الله والعقل والقدر وزيوس ، فكلهما وما شابههما من الأسماء تدل علي وجود واحد ، وقد كان هذا الموجود الواحد متفردا لا شريك له فشاء أن يخلق الدنيا فأصبح هواء ، وأصبح الهواء ماء ، وجرت في الماء مادة الخلق أو كلمة الخلق Spermatikos Logos كما تجري مادة التوليد من الأحياء ، فبرزت منها مبادئ الأشياء وهي النار والماء والهواء والتراب ، ثم برزت الأشياء من هذه المبادئ علي التدريج .
وتعريف القدر عند زينون أنه القوة التي تحرك الهيولي ، وهي قوة عاقلة .. لأن ما يتصف بالعقلأعظم مما يتجرد منه ، ولا شيء أعظم من الكون Cosmos فهو قل لأنه عظيم .
ويفسر زينون تعدد الآلهة في معتقدات العامة بأنهم بحثوا عن الله في مظاهر الطبيعة المتكاثرة فعدوها ونسجوا حولهاالأساطير من تشبيهات الخيال، ولكن هذه التشبيهات إن هي إلا رموز محازية تدل علي حقيقة واقعية . فلما قال الأقدمون أن أورانوس إله السماء خصاه ابنه كرونوس إله زحل –كانوا يفهمون من ذلك أن كوكب زحل هو مناط النظام في السيارات وأنه قادر بذلك علي تقسيم دورات الفلك كرونوس Chronos إله زحل وكلمة كرونوس Kronos أي إله الزمان ،كأنهم يقولون إن الزمن قد حد من حركات الأفلاك والسيارات .
ولكن زينون علي بلوغه هذه المنزلة من التوحيد وإنكار التشبيهات لم يخلص من اللوثة المادية في تصور الله ولا في تصور الروح . فالروح عنده هو جوهر غاذي حار ، وهي مركبة من النفس (سيكي Psych ) بمعني التنفس ومن العقل Varros وهو من عنصر الأثير ، ومن نقائض المذهب الرواقي أنه يأبي إقامة الهياكل لله مع هذه المادية فيه ، لأنها أقل من أن تبلغ مرتقاه .
ولا ينكر زينون كهانة الكهان . بل يقول إنها لازمة عقلا لأنه لا غني عن الكهانة مع وجود العناية التي تتكفل بالسبق إلي التقدير والهداية .
وقد ولد كليانتس Cleanthes بعد زينون بسنوات . لأنه ولد علي الارجح سنة 331 ق. م ، وكان مولده بآسيا الصغري .
ورأيه أن الله روح يسري في جميع أجزاء الكون ، وأن الروح الإنسانية قبس من ذلك الروح ، وأن الشمس هي مناط النظام في الكون ، لأنها تنشيء الليل والنهار وتقلب الفصول والسنين ، وهو يقول بالدورات الكونية كما يقول زينون . فمن النار تبدأ جميع الأشياء وإلي النار تعود .
وقد كان إمام اللاهوتيين بين فلاسفة الروافيين ، لأنه أول من أسهب في إقامة الأدلة علي وجود الله ، ومن براهينه اللاهوتيية أن اختلاف المزايا والطبائع يستدعي تمييز بعضها علي بعض ، وأن يكون بعضها أفضل من الجميع .. فالحصان مثلا افضل من السلحفاه ، والثور افضل من الحمار ، والأسد أفضل من الثور ، وليس علي الأرض ما هو افضل من الإنسان ولكنه مع ذلك لا يرتقي إلي المنزلة الفضلي ولا يسلم من الضعف والشر والحماقة .فليس هو مثال الكمال بين الموجودات ، ولا بد أن يكون الموجودالحي شيئا غير الإنسان ، وأن يكون موجودا مستكملا للفضائل منزها عن كل سوء . ومثل هذا الموجود يطابق صفات الإله . فالإله إذن موجود.
ومن أسباب الإيمان بالله عند كليانتس أربعة أسباب يخصها بالتنويه : وهى الوحى الذى يكشف الغيب ، وعظمة الخيرات التى تجود بها الأرض والسماء ، ورهبة النفس أمام أسرار الوجود وظواهره الرائعة كالبرق والرعود العواصف والأهوال والأوبئة والعواصف والبراكين ، هذا النظام المحكم الذى يبدو للنظر فى حركات الأجرام السماوية ومواعيد الأفلاك والبروج ، مما يرفض العقل حدوثه بالمصادفة والإتفاق .
وكان لهذا الفيلسوف صلوات بخاطب بها الله كأحسن ما تكون الصلاة ، ولكنه يذكر الله باسم زيوس كما كان معروفا بين الإغريق . وولد شريسبسChrisippus ثالث هؤلاء الفلاسفة بعد كليانتس بنحو خمسين سنة ، وكان مولده في قليقلة ومقر تعليمه في أثيما ، وهو أوفرهم محصولا وإن لم يحفظ من كتبه غير شذرات .
وقد شغل باللاهوت الرواقي كما شغل به كليانتس ، ولا سيما براهين وجود الله وبراهيم عدله وحكمته في قضائه .. فمن براهينه علي وجود الله أن الكون أكبر من أن يخلق للانسان وحده . فوجوده عبث إن لم لم يكن هناك إله أكبر من الإنسان .
ومن تلك البراهيم أنه (إذا كان هناك شيء يعجز الإنسان عن صنعه فالذي يصنع ذلك الشيء أعظم من الإنسان .وأن الإنسان يعجز عن خلق الكون فلا بد أن يكون القادر علي خلقه أعظم منه . وأي موجود أعظم من الإنسان غير الله ؟) .
ويرد علي من يتخذون الشر دليلا علي بطلان العناية الإلهية بأدلة كثيرة يقول منها في كتابه عن العناية (أنه ليس أضل من أولئك الذين يتخيلون أن الخير قابل للوجود بغير وجود للشر معه . لأن الخير والشر ضدان يستلزم وجود أحدهما وجود الآخر .. فكيف يتأتي للعدل معني من المعاني بغير الأخطاء والإساءات ؟ وما هو العدل إن لم يكن هو منع الظلم ؟ وماذا يفهم إنسان من معني الشجاعة إلا أنها نقيض الجبن ؟ أو من معني العفة إلا أنها نقيض الشراهة ؟ وأين محل الحكمة إن لم تكن هنالك نقيض الجبن ؟ أو من معني العفة إلا أنها نقيض الشراهة ؟ وأين محل الحكمة إن لم تكن هنالك حماقة ؟ وما بال هؤلاء القوم في حماقتهم يطلبون أن يكون هناك حق ولا يكون هناك باطل ؟ وقل مثل ذلك في الخير والشر والراحة والتعب والسرور والألم . فإن هذه الأشياء آخذ بعضها برقاب بعض كما قال أفلاطون فإن نزعت إحداهما نزع قرينه لا محالة) .
ويعلل الفيلسوف بعض الآلام بأنها عقوبة من الله ، أو أخذ من الجزء لإعطاء الكل ، وحرمان للفرد لإغداق الخير علي المجموع ، ويقول أن زيوس المخلص المنعم مصدر العدل والنظام والسلام يتنزه عن فعل ما لا يحسن ولا يجوز ولكنه يصنع في الكون كما تصنع الدولة التي تضيق بسكانها فتبعث بفريق منهم إلي المستعمرات النائية أو إلي ميادين القتال .
ويجيز شريسبس وجود آلهة تتمثل في القوي الكونية دون الإله الأعظم زيوس . ولكنه يعتبرها من أهل الفناء ولا يعفيها من قضاء القيامة التي تشمل الموجودات في نهاية كل دورة كونية ، فإن هذه الدورات تأتي علي كل موجود غير الإله الباقي وهو مصدر النار ومعيدها إلي التركيب ليستخرج منها أجزاء كون جديد .
وتأتي مدرسة أبيقور (342 – 270) في الموضوع الوسط بين مدرسة الرواقيين ومدرسة أثينا الكبري : ونعني منها علي الخصوص مذهب أرسطو الذي اشتهر بمذهب المشائين .. فكان أبيقور وتلاميذه يعظمون الآلهة كتعظيم الرواقيين ، وينسبون الإله والروح إلي مادة لطيفة كالأثير أو أرق من الأثير ، ولكنهم يخالفون الرواقيين في الإيمان بالقيامة الإلهية ويقولون أن الآله في رفيقها الأعلي سعيدة خالدة ، ولكنهم يقيمون فوق الكون Metakosmia في نعيم وفرح صاف مقيم ، لا يعرفون تعبا ولا يتعبون أحدا ، وإنما تجري الأمور عفو السجية بغير تقدير ولا حاجة إلي التقدير .
وهناك مدرسة أخري غير مدرسة أبيقور ومدرسة زينون لها شأنها في التفكير ولكن لا شأن لها في العقيدة ..لأنها لا تنفض فيها ولا تبرم ، وهي مدرسة الشكوكيين أو اللادريين ، فلا موضع لها في هذا المقام .
هذه المذاهب كلها كان لها تأثيرا ملحوظ في تفكير المفكرين بعدها في المسائل الإلهية ، فما من مذهب إلا وقد أعقب فكرة فام عليها رأي فيلسوف متأخر أو دخلت في رأيه علي نحو من الأنحاء .
إلا أن الإجماع متفق علي أن المدرسة الأثينية – مدرسة سقراط وأفلاطون وأرسطو- هي أعظم مدارس الفلسفة بين الإغريق علي التعميم . سواء منها ما نشأ قبل الميلادوما نشأ بعده ، وسواء منها ما نشأ في آسيا الصغري أو إطاليا الجنوبية أو مدينة الإسكندرية .
ورأس المدرسة الأثينية هو سقواط (469 – 399 ق.م) أستاذ أفلاطون ، وأسبق القائلين في القدم برد العقيدة والعبادة إلي الضمير .
وقد كان سقراط من أصحاب الهواتف الخفية ، وكان يستمع إلي هاتف يخيل إليه أنه يلازمه ويوحي إليه وينفخ في روعه بما يلهمه الرشد والصواب .
ولكنه لم ينصرف إلي مباحث ما وراء الطبيعة كانصرافه إلي مباحث الأخلاق والسياسة وقواعد المعرفة والثقافة النفسية . فكان قصاري ما أثر عنه من الآراء في مسائل العقيدة أنه مؤمن بخلود الروح وسلامتها من الفساد مع الجسد بعد الموت ، وأنها ترجع إلي معدنها الأول من الصفاء المنزه عن التجسيد والتركيب ، وكان يتكلم عن الآلهة تارة وعن الإله تارة أخري . إلا أه ينزهها جميعا عن تلك الخلائق البشرية التي تعزي إليها في قصص الرواة وأساطير الشعراء ويؤمن برعايتها للبشر وعكوفها علي الخير والسعادة ، ولا ينعي علي الذين يحسبون العبادة قائمة علي القرابين والضحايا وذبائح الماشية ، ولا يري لإنسان عبادة مقبولة إذا خلا من خلوص النية وصفاء الضمير .
ولعله قد أسس قواعد البحث والمنطق بتعويده تلاميذه أن يستخلصوا الحدود والتعريفات من المشاهدات والمحسوسات ، وأن يجعلوا هذه الحدود أساسا للقياس وترتيب النتائج من المقدمات .
ولا شك أن هذه الحدود قد وجهت المفكرين بعده إلي الفصل بين خصائص الأشياء ومقوماتها ، وكان أرسطو يتوخاها في تقسيماته المنطقية وتطبيقاته الفلسفية ، وبها أقام ذلك السد الحائل بين جميع خصائص العقل وجميع خصائص المادة الأولية أو الهيولي . فكان وضع الحد عنده أهم من تقرير الجوامع والمقاربات .
وخلفه تلميذه أفلاطون (427 – 347 ق.م) فتبعه في مباحث الأخلاق والسياسة والثقافة والنفسية ، وتبع فيثاغورس في العقائد الروحية ومزج الفلسفة بالرياضة والدين . ولو لم يكن أفلاطون وثني البيئة لكا أرفع الإلهيين تنزيها للوحدانية . ولكن البيئة الوثنية غلبته علي تفكيره بحكم العادة وتواتر المحسوسات ، فأدخل في عقيدته أربابا وأنصاف أرباب لا محل لها في ديانات التوحيد ولا سيما عند الفلاسفة الموحدين .
فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان : طبقة العقل المطلق وطبقة المادة أو الهيولي Hyle والقدرة كلها من العقل المطلق ، والعجز كله من الهيولي . وبين ذلك كائنات علي درجات تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل ، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي .
وهذه الكائنات المتوسطة بعضها أرباب وبعضها أنصاف أرباب وبعضها نفوس بشرية . وقد ارتضي أفلاطون وجود تلك الأرباب المتوسطة ليعلل بها ما في العالم من شر ونقص وألم . فإن العقل المطلق كمال لا يحده الزمان والمكان ولا يصدر عنه إلا الخير والفضيلة . فهذه الأرباب الوسطي هي التي تولت الخلق لتوسطها بين الإله القادر والهيولي العاجزة .. فجاء النقص والشر والألم من هذا المتوسط بين الطرفين .
وكل هذه المظاهر المادية بطلان وخداع . لأنها تتغير وتتلون وتتراءي للحس علي أشكال وأوضاع لا تصمد علي حال .. وإنما الصمود والدوام للعقل المجرد دون غيره . وفي العقل المجرد تستقر الموجودات (الصحائح) أو المثل كما سميت في الكتب العربية ، وهي كالعقل المجرد خالدة دائمة لا تقبل النقص ولا يعرض لها الفساد .
هذه الصحائح هي المثل العليا لكل موجود يلتبس بالمادة أو الهيولي فكل شجرة –مثلا- فيها صفة أو صفات ناقصة من نعوت الشجرية فأين هي الشجرة التي لا نقص فيها ؟ هي في عقل الله منذ القدم . وكل ما تلبس بالمادة من خصائص الشجرة فهو محاكاه للمثل الأعلي .
وبقاء هذه الموجودات هو أيضا محاكاه لبقاء الله .. فبقاء الله بقاء أبدي لا أول له ولا آخر ولا تحول فيه ولا تقلب ، ولا تعرض له الزيادة ولا النقصان .
يتبع
الـــــــSHARKـــــاوى
إن المناصب لا تدوم لواحد ..... فإن كنت فى شك فأين الأول؟
فاصنع من الفعل الجميل فضائل ..... فإذا عزلت فأنها لا تعزل
-
مشاركة: الله - أصل العقيدة - تأليف : عباس محمود العقاد
أما بقاء هذه الموجودات فهو بقاء فى الزمان ،و الزمان مخلوق من حركة الأفلإك ، فهو مقياس لبقاء المخلوقات وليس بمقياس لبقاء الخالق .وإنما شاء الله بجوده و رحمته أن يعطى الموجودات نصيبها من البقاء فأعطاها ا لزمان ، وهو محاكاة للأبد السرمدي الذي لا ابتداء له ولا انتهاء كما أن الموجودات المحسوسة محاكاة للموجودات المثالية التى يعقلها الله وتخرجها أنصاف الأرباب إلى حيز الوجود ، فتنقص لأن أنصاف الأرباب لا تعقلها كما يعقلها الله ، ولأن التلبس بالمادة يحيطها بالحدود وينضج عليها من عوامل الفساد .
والعقل البشرى يعلو فيدرك الحقائق المجردة ، ويهبط فيدرك المحسوسات بالتجربة والمشاهدة ، ومن أمثلة الحقائق التي تدرك بغير تجربة حسية حقائق الرياضة العليا . فإن الله مهندس ، وأحكامه هى الهندسة القائمة على نسب الحقائق المجردة ، ومعرفتها معرفة عقلية يدركها الإنسان بصفاء القريحة ، وربما كانت هذه النسب أو الأعداد مرادفة للمثل العليا أو للصحائح فى فلسفة أفلاطون ، ولا سيما ما ذكره عنها فى أيامه الأخيرة ، ورجع به إلى فيثاغورث .
وقد رجع أفلاطون إلى فيثاغورث فى القول بتناسخ الأرواح وتجدد الآجال على حسب الحسنات والسيئات .. فالنفس البشرية إذا استلهمت القدرة من العقل الإلهى تغلبت على عجز المادة والجسد وصعدت إلى معدنها الأول ، فخلصت إلى عالم البقاء الذى لا يشوبه فساد .. ولكنها رزحت بثقل المادة واستسلمت لعجزها ونسيت قدرتها على مكافحتها هبطت من جسد إلى جسد أحقر منه وأدنى فكانت فى جسم حيوان بعد أن كانت فى جسم إنسان ، وانحدرت من حيوان كريم إلى حشرة لئيمة ، حتى تفيق من غشيتها وتستأنف فى عالم العقل المجرد سيرتها الأولى .
فالهيولى مقاومة العقل المجرد وليست موجدة بمشيئته من العدم . ولعل أفلاطون لم يحاول أن يردها إلى العدم ، أو يقول بوجودها من العدم ، لأنها كانت حقيقة واقعة فى رأي سابقيه من فلاسفة اليونان ولأنها ساعدته على تعليل النقص والشر والألم .. فوقف بها بين الكمال المطلق الذى ينبغى للإله الأعظم ، وبين عوارض القصور التى تقترن بغيره من الموجودات .
وقام بعد أفلاطون تلميذه العظيم أرسطو فتوسه فيما بعد الطبيعة توسعا لم يسبق إليه بين الفلاسفة الأوائل , ووضع للجدل معياره الذى سمى بعد ذلك بعلم المنطق ، وفصل بين الحدود فبالغ أحيانا فى الفصل بينها ، ولكنه أقام القواعد الأولى على أساس صحيح .
والله عند أرسطو هو العلة الأولى وهو المحرك الأول .
فلابد لهذه المتحركات من محرك ، ولابد للمحرك من محرك آخر متقدم عليه ، وهكذا حتى ينتهي العقل إلى محرك بذاته ، أو محرك لا يتحرك . لأن العقل لا يقبل التسلسل في الماضي إلى غير نهاية .. وهذا المحرك الذي لا يتحرك لا بد أن يكون سرمدا لا أول له ولا آخر ، وأن يكون كاملا منزها عن النقص والتركيب والتعدد ، وأن يكون مستغنيا بوجوده عن كل موجود . وهذا المحرك الأول سابق للعالم في وجوده سبق العلة لا سبق الزمان . كما تسبق المقدمات نتائجها في العقل ولكنها لا تسبقها في التركيب الزمني . لأن الزمان حركة العالم ، فهو لا يسبقه . أو كما قال (لا يخلق العالم في زمان) .
وعلي هذا يقول أرسطو بقدم العالم علي سبيل الترجيح يقارب اليقين . إلا أن يقرر في كتاب (الجدل) أن قدم العالم مسألة لا تثبت بالبرهان .
وإجمال براهينه في في هذه القضية أن إحداث العالم يستلزم تغييرا في إرادة الله والله منزه الغير . فهو إذا أحدث العالم فإنما يحدثه ليبقي جل جلاله كما كان ، أو يحدثه لما هو أفضل ، أو يحدثه لما هو مفضول ، وكل هذه الفروض بعيدة عما يتصوره أرسطو في حق الله . فإذا حدث العالم وبقي الله كما كان فذاك عبث والله منزه عن العبث ، وإذا أحدثه ليصبح أفضل مما كان فلا محل للزيادة علي كماله ، وإذا أحدثه ليصبح مفضولا فذلك نقص يتنزه عنه الكمال .
وإذا كانت إرادة الله قديمة لا تتغير – فوجود العالم ينبغي أن يكون قديما كإرادة الله لأن إرادة الله هي علة وجود العالم . وليست هذه العلة فتقرة إلي سبب خارج منها ، فلا موجب إذن لتأخر المعلول عن علته ، أو لتأخر الموجودات عن سببها الذي لا سبب لها غيره .
فالإنسان يجوز أن يريد اليوم شيئا ثم يتأخر إنجازه ، لنقص الوسيلة أو لعارض طارئ أو لعدول عن الإرادة . وكل ذلك ممتنع في حق الله .
وقد أفرط أرسطو في هذا القياس حتي قال أن الله جل وعلا لا يعلم الموجودات لأنها أقل من أن يعلمها .
وإنما يعقل الله أفضل المعقولات ، وليس أفضل من ذاته فهو يعقل ذاته ، وهو العاقل والمعقول ، وذلك أفضل ما يكون .
والعقل بالنسبة إلي الله يخالف العقل بالنسبة إلي غيره من الموجودات الفانية ، فإن الإنسان يعقل الجزيئات بعد وقوعها ثم يعقل الكليات بعد استقصاء الجزيئات ، ويلزمه ذلك لأنه يعلم بعد جهل ويتوقف علمه علي المعلوم ، وليس علم الله متوقفا علي ما عداه .
وكل صفة من صفات الله فهي تتعلق به ولا تتعلق بغيره ، وهي قائمة به ولا تقوم علي غيره ، ومن هذه الصفات الإرادة والعلم كما تقدم ، ومنها الكرم والرحمة والخير والعدل والحكمة وسائر صفات الكمال .
فالله لا يريد العالم لأنه يحتاج إليه .. ولكن العالم يريد الله لأنه متوقف عليه .. ويسأل السائل : إذن كيف يكون هذا التوقف إن لم يعمل من أعمال المشيئة الإلهية في الجملة والتفصيل؟ .. وجواب أرسطوعلي هذا السؤال أن يكون بسعي الناقص إلي طلب الكمال ، أو بسعي الموجودات إلي التشبه بعلتها الأولي .فالله أعطاها العقل ، والعقل يبعث فيها الشوق إلي مصدرها الأول . فتتحرك وتعلو بالحركة ، أو تكسب في كل حركة صورة أرفع من صورتها وحظا من الكمال أرفع من حظها ، تقريبا إلي الصورة التي لا تشوبها شائبة من عجز المادة أو الهيولي .. وهي الصورة السرمدية الكاملة : صور الله .
ولا يفهم معني هذا الارتفاع إلا إذا فهم معني الصورة في مذهب أرسطو .. فالصورة في مذهبه هي حقيقة الشيء وماهيته التي يقوم بها وجوده ، وليست هي مشكلة البادي للعين أو تماثله الملموس باليدين . فصورة العصفور هي حقيقته التي يكون بعا عصفورا ، ولا يكون غير ذلك من الطيور أو الأحياء علي العموم .. وصورة الدرهم هي جوهره الذي يميزه من سائر قطع الفضة وسائر قطع النقد ويجعله درهما وتزول عنه (الدرهمية) إذ زال . ولا يخلو موجود في العالم من الصورة .. فكل موجود فهو صورة ومادة أو (هيولى) .
وتترقى الموجودات في شرف الوجود كلما عظم نصيبها من الصورة وقل نصيبها من الهيولى .. فالموجودات الخسيسة يوشك أن تكون هيولى محضا خالية من كل صورة . فلا فرق بين جزء وجزء ولا بين فرد وآخر من الجنس نفسه .
وكلما ارتقت في سلم الوجود زاد نصيبها من الصورة المميزة وقل نصيبها من الهيولى المتشابهة . وربما أصبحت صورة جسم مادة لجسم آخر . كالورق الذي هو صورة مميزة لبعض الموجودات وهو في الوقت نفسه مادة للكتاب .
وأعلم الموجودات على هذا القياس هو الله ، لأنه صورة محض لا تشوبه المادة ، ومعنى مجرد لا يقوم في جسد .. وأخس الموجودات جميعا هو الهيولى ، وهي لم توجد فقط منعزلة عن صورة من الصور ، وإذا وجدت منعزلة عن الصورة فهي وجود بالقوة أي وجود لم يتحقق بالفعل ولا يزال في انتظار التحقيق .. والحركة هي التي تحققه .. والحركة هي التي ترتقي به من صورة إلى صورة .
ولما كان الله هو المحرك الأول كما تقدم فهو موجد العالم علي هذا الاعتبار ، وهو قبلته التي يرتقي إليها .. شوقا إلي مصدره منها .
وهذه هي الصلة كلها بين الله والعالم : فلا ينسب إلي الله في مذهب أرسطو أنه يهتم بالعالم أو يفكر فيه ، لأنه تفكير فيما دونه أو تفكير بكماله . ولا يعقل الله جل وعلا إلا أشرف معقول ، وهو ذاته دونه سواها .
وهذا هو الخطأ الذي جاء من الغلو في مذهب أرسطو : تناوله الحكماء الدينيون فلم ينكروا المقدمات ولكنهم أنكروا النتيجة التي تأدي إليها أرسطو من مقدماته . فقالوا: إن الله لا يعقل إلا أشرف معقول . نعم لا جدال في ذلك .. ولكن أشرف معقول هو المعقول الذي يتحقق به كمال صفاته من القدرة والعلم والرحمة والوجود . وإنما وجوده بإيجاد المخلوقات ، ويتحقق علمه بنفي الجهل بها ، وتتحقق رحمته برعايتها وتهذيبها . أما كيف ذلك فالبحث فيه هو علة الخطأ في جميع تلك الفروض والأقيسة . لأنه سبحانه وتعالي جل عن الشبيه فليس كمثله شيء وليست أعمالنا كأعماله علي فرض من الفروض .
ويقول أرسطو بوجود الروح ولكنه لا يقول ببقاء الروح الفردية بعد الموت ، فالروح من عالم العقل واحد في جميع الأفراد ، وهو إذا اختلفوا بالأذواق الجسدية لم يختلفوا بالمدرجات العقلية ، فلا اختلاف بين انسانين في ادراك الحقائق المجردة كالرياضة والمنطق وما جري مجراها . ومؤدى هذا عند أرسطو أن العقل المجرد لا فردية فيه ، وإن الروح تعود إلي العقل العام بعد فراقها للجسد . فلا فردية لها بعد الموت ، ولكنها لا تفني ولا تقبل الفناء .
ذلك أوجز تلخيص مستطاع لمذاهب المدرسة الأثينية في الحكمة الإلهية . وقد توخينا فيه ما يكفي لتقدير خطوتها في هذه المرحلة الإنسانية الخالدة ، فليس يدخل في موضوع هذا الكتاب تلخيص آرائها في غير فكرة الإيمان بالله .
ولعلنا نقدر هذه الخطوة حق قدرها إذا قلنا أن المدرسة الأثينية عرضت علي الفهم ما أخذته من إيمان الأولين . فنقلت البناء من اساس الإيمان إلي أساس البحث والقياس وأن موقفها من المادة كان كموقف التسليم(بالأمر الواقع) كما يقولون في لغة السياسة . لأنها لم تقل بقدم العالم إنكارا لوجود العقل المستقل كما أنكره المادييون في العصور التالية ، ولكنها قالت بقدم العالم رأيا لأنها وجدته ماثلا أمامها حسا ، فلم تستطع أن تقاوم الحس في الماضي كما لم تستطع أن تقاومه في الحال .
__________________
(فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا(. 7 سورة الإسراء ..... (فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا) 104 سورة الإسراء
أصدق وعد الله وأكذب توازنات القوى وأبشر باقتراب نصر المؤمنين على قوى الشر مجتمعة
الـــــــSHARKـــــاوى
إن المناصب لا تدوم لواحد ..... فإن كنت فى شك فأين الأول؟
فاصنع من الفعل الجميل فضائل ..... فإذا عزلت فأنها لا تعزل
-
مشاركة: الله - أصل العقيدة - تأليف : عباس محمود العقاد
اخى الشرقاوى هو انت بتنقل من التوحيد ؟
-
-
بارك الله فيـــــــــــــــــــــــــــــك
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة دفاع في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 27-06-2008, 09:25 PM
-
بواسطة ali9 في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 03-09-2006, 05:09 PM
-
بواسطة طارق حماد في المنتدى منتديات الدعاة العامة
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 17-07-2006, 03:03 PM
-
بواسطة احمد العربى في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 23-09-2005, 11:09 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات