سورة الكهف :
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً{83} إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً{84} فَأَتْبَعَ سَبَباً{85} حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً{86} قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً{87} وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً{88} ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً{89} حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً{90} كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً{91} ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً{92} حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً{93} قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً{94} قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً{95} آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً{96} فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً{97} قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً{98}
موضوع ذو القرنين هو من الموضوعات المُبهمة فى القرآن الكريم ...... و لقد نحا المُفسرون فى تفسير من هو ذو القرنين مناحى شتى ...... فمنهم من نسبه إلى الإسكندر الأكبر المقدونى ..... و منهم من نسبه إلى الملك الفارسى قورش ..... إلى غير ذلك من الشخصيات التاريخية ....
و لقد إحتار المُفسرون كذلك فى تحديد طبيعة يأجوج و مأجوج و ما هى صفاتهم ..... و أين هو السد الحديدى الذى بناه ذو القرنين ليحجب به يأجوج و مأجوج عن أذية بنى البشر ؟
و كذلك أين تلك هى العين الحمأة التى رأى ذو القرنين الشمس و هى تغرب فيها ؟
أسئلة كثيرة لا نملك إجابات عن الكثير منها للأسف ..... و لا نملك إلا الرجم بالغيب أو الإستنتاجات ..... التى قد لا تكون منطقية فى بعض الأحوال ..... أو تقفز إلى النتائج دون التمهيد بالمُعطيات العقلية أو المنطقية !!!
و لا أزعم أننى أمتلك الإجابة عن تلك الأسئلة ...... و ليست لدى إلا بعض الدلائل القليلة و الكثير من الحجج و الأدلة المنطقية و العقلية ..... أى القليل من العلم و الكثير من المنطق ...... و لكن هذه الآيات بالذات ...... تُمثل فتنة للصد عن سبيل الله و لعل هذا قصد إلهى ..... فقد قال الله تعالى :
{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }آل عمران7
و لدينا الكثير ممن كانوا فى الأصل مُسلمين ثم إتبعوا مُتشابه الآيات ..... فضلوا السبيل و خرجوا عن الدين ..... و لعلى أذكر هنا البهائيين و القاديانيين و غيرهم من الملل الضالة !
عموماً ..... بما أن باب الإجتهاد مفتوح أمام كل مُسلم .... فسوف أجتهد فى إيجاد تفسير علمى و منطقى و عقلى لما ورد فى هذه الآيات ..... و إذا أخطأت فلى ثواب الإجتهاد و البحث ......و إذا أصبت فإن أجرى على الله ..... و جائزتى أننى ربما أنقذ مُسلماً من الفتنة ...... و ما أعظمها من جائزة
و الموضوع طويل ...... و البحث فيه يطول ...... و ما زلت أبحث فيه ..... و لكنى كتبت منه المُقدمة التى سأعرضها الآن لتكون مدخلاً للبحث الذى آمل أن يكون موفقاً.
و لكى نبدأ فى تفنيد الشُبهة بإذن الله علينا أن نُراعى بعض النقاط ..... عقلياً و علمياً :
- إن تاريخ الإنسان على الأرض إختلف العلماء فى تحديد بداياته ..... فمن قائل أنه يمتد إلى الملايين من السنين ..... و أن تاريخ الإنسان يبدأ بأول حيوان شبيه بالقرد إنتصب على قدميه و بدأ فى إستعمال الأدوات .... و هى غالباً فروع بعض الأشجار التى كان يستخدمها فى الدفاع عن نفسه ! ...... و هذا التاريخ يعود إلى حوالى أربع ملايين سنة و يبدأ بالحلقة المفقودة و هى الحلقة الإنتقالية بين القردة العُليا و الإنسان البدائى ..... أو القرد اشبيه بالإنسان و تنتهى هذه الحلقات بالإنسان العاقل أو الهومو سابيانس ..... هذا على الرغم من أن كل الأديان تُصر على دحض نشوء الإنسان و تطوره من مخلوقات أخرى ..... و أن خلق الإنسان كانت بدايته بخلق آدم (عليه السلام) و التى خُلقت منه زوجته و بالتالى كان بدء ظهور الإنسان على الأرض فى خلق جديد و ليس كتطور لأى كائن آخر ! ......
- أنه كانت هناك إرهاصات بشرية على مر تلك الملايين من السنين ...... منها تلك الحلقة المفقودة أو القرد المُنتصب القامة الشبيه بالإنسان .... مروراً ببعض الكائنات البشرية و لكنها من جنس و خلقة أخرى غير الإنسان العاقل المعروف بالهومو سابيانس ...... مثل إنسان جاوة و إنسان بكين و إنسان نياتدرنال ...... وهى مُسميات على حسب الأماكن التى تم إكتشاف بقايا هذه الأنواع فيها ..... و هى مخلوقات وسيطة بين القردة العُليا و الإنسان ...... مُنتصبة القامة و تستخدم الأدوات ..... و إن كان حجم المُخ و شكل الجبهة و كذلك تركيب العظام تجعلهم مُختلفين عن الإنسان العاقل الذى نعرفه الآن ..... أو حتى أجدادنا البدائيين ....... و من المُرجح أن الإنسان العاقل قد عاصر بعض هذه الأنواع من الكائنات البشرية المُنقرضة ..... و ربما حدث نوع من التزاوج بينهم ...... و ربما كان الطوفان الذى حدث أثناء فترة النبى نوح (عليه السلام) هو من وضع حداً أو كان سبباً فى فناء تلك الأجناس و غيرها من الأجناس الهجين بينهم و بين البشر من بنى آدم !
- أنه يُمكن الجمع بين نظرية التطور أو النظرية الداروينية فى النشوء و الإرتقاء ...... و بين ما تقوله الكتب المُقدسة فى الخلق المُنفرد و نفى التطور أو التحول ....... إذ نجد أن وسائل النقل كلها تعتمد على شيئ واحد و هو العجلة أو الدولاب ...... تلك الأداة السحرية التى إبتدعها الإنسان منذ عشرات الآلاف من السنين ..... و لعلها بدأت فى بلاد ما بين النهرين ..... و إنتقلت إلى سائر البلدان منها مع الفتوحات الأشورية و البابلية لغيرها من البلدان القريبة .... و منها مصر ..... إذ نجد أن رمسيس الثانى مُصوراً على المقابر و هو يركب العجلة الحربية ..... تلك التى إستقاها المصريون أثناء حروبهم مع الحيثيين فى أرض فلسطين و الشام ...... و إنتهت بالتعادل و كتابة أول مُعادة صُلح و سلام فى التاريخ...... ثم نجد أن تلك العجلة أو الدولاب قد تم إستلهام الإختراعات منها من العجلة الحربية ..... إلى الدراجة .... إلى الدراجة البُخارية ..... السيارة .... ثم الطائرة .... كلها تنويعات لتلك العجلة الأولى ..... و لكن كل منها بدأ كفكرة مُستقلة فى رأس مُفكر أو مُخترع بعينه ..... و لكن أصل كل تلك المُخترعات هو العجلة أو الدولاب البسيط الذى إخترعه واحد من البشر القـُدامى فى لحظة تنوير أو إلهام ! ...... و هكذا نجمع بين نظريتى التطور و الخلق ...... فالشيء يصل إلى مُنتهى تطوره و كافة الإستخدامات و التعديلات المُمكنة قبل أن يتم إختراع شيئ جديد يُعتبر تطوراً أو فتحاً جديداً أو أحد التنويعات لهذا الشيئ !
- إن ما نعرفه عن التاريخ البشرى هو شيئ محدود و لا يتعدى السبعة آلاف سنة ...... حينما طور أجدادى الفراعنة و كذلك السومريين فى العراق طريقة للكتابة لتدوين الأحداث و التاريخ ....... أما ما سبق من تاريخ فهو غير مُدون و لا نعرف عنه شيئاً على الإطلاق ...... سوى بعض الرسوم البدائية هنا و هُناك مثل تلك الرسوم الموجودة فى كهوف لاسكو بجنوب فرنسا و التى تعود إلى ما يزيد على عشرين الف سنة .... و تُصور الحيوانات التى كانت تعيش فى تلك المنطقة فى تلك الأوقات .......
- نخلص من ذلك ...... أن الإعتماد على التاريخ المكتوب المحدود بالزمن و هو فى أقصى الحدود لا يزيد عن سبعة آلاف سنة ...... و إتخاذه كمرجعية للحكم على النصوص الإلهية ..... هو ظلم بيّن لهذه النصوص و مُحاولة للإفتئات عليها و تكذيبها بالزور ..... فالعلم الإلهى لا محدود و الله أعلم بالتاريخ البشرى من البشر أنفسهم الذين يعتمدون على البحث و التنقيب فى تاريخهم المنسى ..... لأن من يحملون هذا التاريخ أو من صنعوه أو من عاشوا فيه ماتوا منذ زمن بعيد و لم ينقلوا خبراتهم إلى الأجيال (إلا فى إطار مُبهم و محدود ..... كما سنُفسر ذلك لاحقاً !) .... بينما الله ..... فهو موجود منذ الأزل و يعرف كل ما حدث ...... و ربما يدلنا بطريقة أو بأخرى على بعض الأشياء التى نستقى منها المعلومات التى قد تسد ثغرة فى معرفتنا بالحضارة البشرية القديمة و تاريخ الأجداد المنسى ...... و أتذكر هنا عبارة قد جاءت على لسان فاوست أثناء مُحاورته مع الشيطان فى قصة (فاوست الجديد) للأديب على أحمد باكثير ...... إذ تطرق فاوست إلى العدل الإلهى و أنه لا يشـُك مُطلقاً فى العدالة الإلهية ...... فيُبادره الشيطان قائلاً : إذن ففسر لى أين العدل فى أطفال يموتون بمجرد أن يولدوا ..... أو يُصابوا بالعاهات و الأمراض و لم يرتكبوا ذنباً ..... أين العدل فى الزلازل و الكوارث و الحروب التى تقتل الأبرياء أكثر مما تقتل من الأشرار أو الفاسدين ..... أين العدل فى هذا كله ؟ ...... فيرد فاوست فى مُنتهى الحكمة و يتحدى الشيطان قائلاً : لا أستطيع أن أفسر هذا ...... لأننى أفتقد إلى العلم الذى يُمكننى من ذلك ..... إذا أردت التفسير أيها الشيطان فإعطنى العلم الإلهى ..... أعطنى علم الأزل ..... أعطنى كل العلم منذ نشأة هذا الكون إلى نهايته ..... وقتها يُمكننى أن أجد لك التفسير لذلك ، و أقول لك أين يكمُن العدل فى قضاء الله ! ..... أى أن العبارة بإختصار هى : أعطنى علم الأزل ..... وقتها يُمكننى تفسير العدل فى قضاء الله!
- و لكن أين نجد ما نستدل به على التاريخ البشرى الغير مكتوب ...... أين نجد خلاصة التجارب و الحكايات و التاريخ المُنتقل عبر الأجيال ...... إنه الأساطير و الحكايات المروية ...... إنها هى التاريخ الغير مكتوب أو الذى لا أصول له ....... و نجد فى القرآن الكريم ..... أنه يقرن لفظ أساطير بلفظ الأولين ..... و الأولين تعنى من سبق ..... أى أنه تاريخ أو أنها مرويات تاريخية .....
{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }الأنعام 25
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ }الأنفال 31
{وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }النحل 24
{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }المؤمنون 83
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }الفرقان 5
{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }النمل 68
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }الأحقاف 17
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }القلم 15
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }المطففين 13
فالأسطورة ..... مهما كانت درجة خياليتها .... إلا أنها تحمل بعض الواقع أو التاريخ ..... و قد إنتقلت الحكايات التاريخية من الأجداد إلى الآباء ثم إلى الأحفاد بالرواية الشفهية ..... و نحن نعلم أن الرواية الشفهية هى عُرضة للزيادة أو التبديل أو النقصان ...... و هناك تجربة أجراها أحد الباحثين عن إنتشار الأخبار أو الشائعات ..... فلقد أخبر أحد التلاميذ فى فصله الدراسى بخبر مُعين و أوصاه أن يُخبر نفس الخبر دون زيادة أو نُقصان لأحد أصدقاءه من التلاميذ .... واحد فقط كل مرة ...... و أن يوصى من ينقل إليه الخبر بأن ينقله بدوره إلى أحد التلاميذ الآخرين ..... و هكذا أخذ الخبر دورته بين التلاميذ إلى أن وصل بعد عدة ايام إلى الأستاذ صاحب الخبر ..... و لقد اصبح الخبر أو الشائعة عبارة عن قصة طويلة عريضة لا تحمل من الخبر الأصلى ، و الذى لم يكن يتعدى بضع كلمات ، أى شيئ أو أى مضمون يدل على مصدرها ! ..... هذه هى الطبيعة البشرية ..... و لعل التحريفات التى تم إدخالها على الكـُتب المُقدسة السابقة على القرآن تدخل فى هذا الإطار الأسطورى ...... و لعل هذا رد على من يتهجم على إستشهادنا بتلك الكـُتب فى التدليل على صحة ما جاء به القرآن أو صحة أحديث النبى صلى الله عليه و سلـّم ...... و هذا ما أريد أن أقوله ..... تلك الكـُتب هى مُجرد أساطير إنتقلت شفاهة لعدة عشرات من السنين .... و بعضها لعدة قرون ..... قبل أن يتم تدوينها ...... و قد طالها التحريف و التبديل بفعل التعمد أو النسيان ..... أو بفعل الطبيعة البشرية التى تعمد إلى إضفاء لمحات شخصية على الأخبار المنقولة ..... مثل تمجيد بعض الأشخاص ممن يحبهم ناقل الخبر أو التسفيه أو التقليل من شأن بعض الأشخاص الذين قد يكرههم ناقل الخبر (لاحظ التمجيد فى صورة اليسوع مثلاً فى العهد الجديد .... و التقليل و التحقير من شأن يهوذا أو مريم المجدلية إلى حد وصفها بالعُهر و الزنا بالرغم من أنها هى التى يُمكن إعتبارها مؤسسة العقيدة اليسوعية بعد تفرق أتباع اليسوع و انزوائهم خوفاً و رعباً بعد حادثة الصلب المزعومة !) ...... و هكذا فإن التفتيش عن الحقيقة المُخبأة فى داخل الأساطير هو فى الحقيقة مجال من مجالات البحث العلمى يستحق المُحاولة ..... فالأسطورة ليست كلها خيال .... و أيضاً ليست كلها حقيقة ! ...... و نجد أن كاتباً مثل شكسبير ..... صاحب الروايات الخالدة ..... إستمد قصصه من واقع حياة أشخاص واقعيين مثل عُطيل الأسود حاكم المغرب ...... و هاملت الأمير الدنماركى و هنرى الثانى و ماكبث و روميو و جولييت ..... و غيرهم ! ...... و حبك فوق قصصهم و أساطيرهم المُتداولة قصصاً أخرى و أساطير أخرى من وحى خياله ...... يعود إليها اليوم ، و بعد مرور ستة قرون كاملة ، الباحثون للإستدلال على الحقائق التاريخية فى حياة أولئك الأشخاص فيما كتبه شكسبير !
- و هكذا ...... لا أجد غضاضة أو صعوبة فى إعتبار أن أوزوريس مثلاً أو بوذا أو كونفوشيوس أو حتى كريشنا أو مردوخ البابلى ....... أنهم كانوا أشخاصاً حقيقيين ....بل ربما كانوا أنبياءاً مُرسلين أتوا ليحملوا رسالة السماء إلى أهل الأرض و يتحدثوا بلغة قومهم كما أنبأنا الله :
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (يونس:47)
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (ابراهيم:4)
و لكنها الطبيعة البشرية فى التبديل و التحريف كما سبق و أن ذكرنا ..... فأصبح هؤلاء الأنبياء آلهة ...... و قد يكون أوزوريس هذا هو إسم عربى مثل عُزير أو قد يكون هو النبى إدريس ..... و قد يكون إسم زوجته إيزيس هو الإسم العربى عزّة ..... حيث أن السين فى الخاتمة هى يونانية و إسمها الأصلى هو أيزا أو عزّة ...... و نُلاحظ تأثير اللغة اليونانية و النهايات السينية فى اللغة القبطية (المصرية القديمة) ..... و نُلاحظ أن مُعظم الأسماء القبطية المسيحية تنتهى نهايات سينية يونانية !
و تعالى لنتذكر الآلهة الأقدمين ...... حدثنا القرآن عن آلهة قوم نوح :
(وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23)
فمن هم " ود و يغوث و سواع و يعوق و نسر"؟
قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُـعبد، حتى إذا هلك أولئك، وتنسخ العلم عُبدت.
و قال ابن جرير في (تفسيره):
كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم. فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم . فلما ماتوا وجاء آخرون، دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.
عن عروة بن الزبير أنه قال: ود، ويغوث، ويعوق، وسواع، ونسر: أولاد آدم. وكان ود أكبرهم، وأبرهم به.
وعن أبي جعفر قال: ذكر وداً رجلاً صالحاً، وكان محبوباً في قومه، فلما مات عكفوا حول قبره في أرض بابل، وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان.
ثم قال: إني أرى جزعكم على هذا الرجل، فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه؟
قالوا: نعم.
فصور لهم مثله.
ووضعوه في ناديهم، وجعلوا يذكرونه، فلما رأى ما بهم من ذكره.
قال: هل لكم أن أجعل في منزل كل واحد منكم تمثالاً مثله ليكون له في بيته فتذكرونه؟
قالوا: نعم.
فمثَّل لكل أهل بيت تمثالاً مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به.
وأدرك أبناؤهم، فجعلوا يرون ما يصنعون به وتناسلوا ودرس أثر ذكرهم إياه، حتى اتخذوه إلهاً يعبدونه من دون الله، أولاد أولادهم، فكان أول ما عبد غير الله (ود) الصنم، الذي سموه وداً.
ومقتضى هذا السياق: أن كل صنم من هذه، عبده طائفة من الناس.
وقد ذكر أنه لما تطاولت العهود والأزمان، جعلوا تلك الصور تماثيل مجسدة ليكون أثبت لهم، ثم عبدت بعد ذلك من دون الله عز وجل.
وقد ثبت في (الصحيحين) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكرت عنده أم سلمة، وأم حبيبة تلك الكنيسة التي رأينها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، فذكرتا من حسنها و تصاوير فيها، قال:
((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل)).
أى أنه من عادة البشر ..... و من قديم الأزل .... التلاعب فى الحقائق و إبتداع الأكاذيب و الأساطير المنسوجة حول الحقيقة أو حول لُب أو محور من الحقيقة ! ...... و لعلنا نتذكر التبديل و التحريف الذى طال بعض أحاديث الرسول عليه الصلاة و السلام ...... من أمثلة تلك الأحاديث الضعيفة أو المُنقطعة السند .....التى يتخذها كل من السُنـّة و الشيعة فى التدليل على صحة موقفهم و تكفير الفريق الآخر .... هذه هى الأخرى قد طالها من التحريف و الأساطير ما طالها ...... ذلك أن تلك الأحاديث لم تنل من الرعاية و العناية فى التوثيق و التدوين حال نزولها أو حال التحدث بها كتلك العناية التى أوليت إلى القرآن الذى تم حفظه (بعون الله) و تدوينه كما هو و وقت نزوله .
و الخاتمة .... و لكى أنهى هذه المُقدمة الطويلة ...... نخلص إلى أن
1. التاريخ البشرى الغير مكتوب هو أضعاف التاريخ البشرى المكتوب
2. أن الأساطير قد تكون هى النافذة الوحيدة المُتاحة لنا لنُطل منها على التاريخ البشرى السحيق الغير مكتوب
3. أن الأساطير ليست كلها من وحى الخيال ..... و أن أى أسطورة أو حكاية مُتداولة ، إنتقلت عبر الأجيال .... تحمل فى صميمها و فى عمقها بعض من الحقيقة تحتاج إلى الكثير من البحث و التقصى و إعمال العقل و أدواته من منطق و مُقارنات بين الأساطير فى مُختلف أنحاء العالم ....و عقد المُقارنات بين الأساطير و بعض الأحداث التاريخية المعروفة.
4. أنه لا عيب مُطلقاً فى الإستدلال بالأساطير للتعرف أو لإستنباط بعض الأحداث التاريخية البالغة القدْم و التى لم تُدون فى التاريخ كأحداث تاريخية
المفضلات