-
اسرار القران (138)
138) إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين*
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
هذه الحقيقة القرآنية جاءت في الخمس الأخير من سورة ص, وهي سورة مكية وعدد آياتها(88) بعد البسملة, ويدور محورها الرئيسي حول ركائز العقيدة الإسلامية, وفي مقدمتها توحيد الله الخالق( سبحانه وتعالي), وتنزيهه عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله.
وتبدأ هذه السورة الكريمة بالحرف الهجائي المفرد( ص) والذي سميت باسمه السورة, وهذه المقطعات من الحروف الهجائية التي استفتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم عرفت باسم الفواتح الهجائية, وقيل فيها إنها إما رموز إلي كلمات أو معان أو أعداد في صلب السورة, أو أنها أسماء للسور التي جاءت في مطالعها, أو هي أسلوب من أساليب تحدي العرب, وهم في قمة من قمم الفصاحة والبلاغة وحسن البيان ـ أن يأتوا بقرآن مثله ـ وقد نزل بلغتهم ـ أو أن يأتوا بعشر سور مفتريات من مثله, أو حتي بسورة واحدة من مثله, ولا يزال هذا التحدي قائما دون أن يستطيع عاقل أن يتقدم ليقول إنه استطاع كتابة سورة من مثل سور القرآن الكريم.
كذلك قيل في هذه المقطعات إنها وسيلة من وسائل قرع الأسماع وإيقاظ العقول والقلوب لتلقي كلام الله( تعالي). وقيل فيها إنها من الأدلة علي صدق رسول الله( صلي الله عليه وسلم) لنطقه بأسماء الحروف ـ وهو الأمي ـ والأمي ينطق بأصوات الحروف ولا يعرف أسماءها, وقيل فيها إنها تشمل ذلك كله, وغيره مما لا يعلمه إلا الله( تعالي).
وبعد هذا الاستفتاح يقسم ربنا( تبارك اسمه) ـ وهو الغني عن القسم ـ بـ( القرآن ذي الذكر) أي ذي الشرف الرفيع والمكانة السامقة, والذي فيه كل حق وذكر وموعظة, وكل ما يحتاجه الإنسان من أمور الدين, ويأتي جواب القسم بقول الله( عز من قائل):
: بل الذين كفروا في عزة وشقاق* كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص* وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب* أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب* وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا علي آلهتكم إن هذا لشئ يراد* ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق* أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب* أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب* أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب* جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب*.( ص:2 ـ11)
وتشير هذه الآيات الكريمة إلي أن الكفار والمشركين ـ في القديم والحديث وإلي يوم الدين ـ هم دوما في استكبار علي اتباع الحق, وفي محاربة لأهله, دون اعتبار بهلاك الكافرين والمشركين والمتشككين من قبلهم, وهم دوما في إصرار علي الكفر بالله أو الشرك به( سبحانه), وعلي التشكيك في بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), وفي القرآن الكريم, وفي حقائق الدين الخاتم: ومنها البعث والحساب والجنة والنار, إلي حد استعجال عذاب الآخرة في الدنيا قبل يوم الحساب, وهم بعد لم يذوقوا ألوان هذا العذاب, ولو ذاقوا طرفا منه ـ وهم حتما ذائقوه إن شاء الله تعالي ـ ما تطاولوا هذا التطاول الكاذب وهم ليسوا من الله( تعالي) ببعيد..
وهذه الصورة من صور فجر الكافرين في محاربتهم للحق مستمرة عبر التاريخ حتي يوم الدين, ومن صور استكبارهم, وغفلتهم, وتعنتهم المعاصرة ما تبثه بعض الفضائيات المأجورة اليوم باسم الدين ـ والدين منها براء وهي في الحقيقة ليست إلا أبواقا للكفر والشرك والضلال( والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
وفي الرد علي كفار قريش,( وعلي أمثالهم في كل زمان ومكان) تسأل الآيات في سورة ص هذا السؤال التوبيخي التقريعي فتقول: هل عند هؤلاء الضالين خزائن رحمة رب العالمين العزيز الوهاب؟ أم هل لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما وهم لا يملكون أنفاسهم؟.
وفي استعراض لنماذج من هؤلاء المكذبين بالدين في القديم وما لقوه من عذاب أليم في الدنيا قبل الآخرة جاء ذكر كل من قوم نوح, وقوم لوط, وعاد, وفرعون, وثمود, وأصحاب الأيكة ليعتبر أهل الكفر والشرك والضلال من المعاصرين وممن سوف يأتون من بعدهم إلي يوم الدين..!!.
وفي هذا السياق أيضا جاء ذكر عدد من أنبياء الله( تعالي) منهم: آدم, وإبراهيم, وإسماعيل وإسحق, ويعقوب, واليسع, وذو الكفل, وداود, وسليمان, وأيوب( علي نبينا وعليهم من الله السلام).
ثم استعرضت الآيات جانبا بما أغدق الله( سبحانه وتعالي) به من فضل علي كل من عبديه داود وسليمان, وما أصاب كلا منهما من شئ من الضعف البشري, وما تدارك كلا منهما من رحمة الله( تعالي) حتي استغفر وتاب وأناب إلي خالقه, وما كان من قبول الله( تعالي) لتوبة كل منهما وإنابته ويبدو أن الحكمة من كل ذلك هي الا يفتن احد من الخلق بما وهبهما الله( سبحانه) من نعم غير عادية فيشرك بهما مع الله( تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا) أو يعبدهما من دونه كما فعل الكثيرون من الضالين في القديم والحديث ولا يزالون يفعلون, ثم يتطاولون علي أهل التوحيد الخالص, والإيمان الصادق كما تتطاول الجرذان المذعورة المستترة خلف بعض فضائيات الضلال.
وجاءت قصة نبي الله داود( علي نبينا وعليه السلام) تجسيدا لابتلاء الله( تعالي) للصالحين من عباده, وتطهيرا لهم وتكفيرا عن خطاياهم مهما كانت قليلة, وتزكية لنفوسهم, ورفعا لدرجاتهم عند ربهم, ونموذجا لصبر الأنبياء علي البلاء حتي يكشفه رب العالمين, ويقتدي بهم الأمثل فالأمثل من عباد الله الصالحين.
وجاء هذا القصص تثبيتا لخاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) وللمؤمنين به في كل زمان ومكان, في وجه ما لقيه( صلي الله عليه وسلم) ويلقونه من تكذيب الكفار والمشركين, والملاحدة الساقطين, والظلمة المتجبرين في كل أرض, وفي كل حين, كما جاء هذا القصص تأكيدا له( صلي الله عليه وسلم) وللمؤمنين به من بعده أن النصر مع الصبر, وأن التمكين في الأرض, والرعاية, والتوفيق, والفضل كله من الله( تعالي) الذي تعهد بنصرة عباده المؤمنين.
وتعاود الآيات في سورة ص تعظيم القرآن الكريم بوصف الحق( تبارك وتعالي) له موجها الخطاب إلي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) فيقول( عز من قائل):
كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب( ص:29).
ثم تصور هذه السورة المباركة مشهدا من مشاهد الآخرة وفيه جانب مما ينتظر المتقين من نعيم مقيم, وما ينتظر الكفار والمشركين من عذاب مهين, وتخاصم في النار مشين, أيا كانت مكانتهم في الدنيا, ومهما استكبروا وعلوا فيها, ومهما تطاولوا علي الله( تعالي) وعلي رسوله الكريم, وتجبروا علي المستضعفين من خلق الله.
وتعاود السورة الكريمة التأكيد علي وحدانية الله( الذي تنزه عن الشريك, والشبيه, والمنازع, والصاحبة والولد) فتقول موجهة الخطاب إلي رسول الله( صلي الله عليه وسلم):
قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار* رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار* قل هو نبأ عظيم* أنتم عنه معرضون* ما كان لي من علم بالملأ الأعلي إذ يختصمون* إن يوحي إلي إلا أنما أنا نذير مبين*.( ص:65 ـ70).
ثم تعرض سورة ص لقصة خلق أبينا آدم( عليه السلام) فتقول: إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين* فسجد الملائكة كلهم أجمعون* إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين* قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين* قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.( ص:71 ـ76)
وتختتم السورة الكريمة بطرد إبليس اللعين من الجنة ومن رحمة الله ورضوانه كما سوف يحرم منها أبالسة الأرض أجمعون, وتذكر تهديد إبليس اللعين بغواية أهل الأرض أجمعين كما أغوي كفار قريش ومن تبعهم علي الكفر والشرك إلي يوم الدين, وذلك في حوار بين الله( تعالي) وهذا المخلوق اللعين من شياطين الجن فتقول الآيات: قال فاخرج منها فإنك رجيم* وإن عليك لعنتي إلي يوم الدين* قال رب فانظرني إلي يوم يبعثون* قال فإنك من المنظرين* إلي يوم الوقت المعلوم* قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين* قال فالحق والحق أقول* لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين* قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين* إن هو إلا ذكر للعالمين. ولتعلمن نبأه بعد حين*
(ص:77 ـ88).
من ركائز العقيدة الإسلامية في سورة ص
(1) الإيمان بأنه ما من إله إلا الله, الواحد القهار, العزيز الغفار, الوهاب, المنزه عن جميع صفات خلقه, والذي لا تنتهي خزائن رحمته, والذي لا شريك له في ملكه, ولا منازع له في سلطانه.
(2) التسليم بأن القرآن الكريم هو وحي الله الخاتم الذي أكمل به الدين, وأتم به النعمة علي عباده المؤمنين, وتعهد بحفظه الي يوم الدين, وأنه كتاب مبارك كريم, لا يدرك قدره إلا أولوا العقل السليم, والفكر القويم.
(3) اليقين بأن الله( تعالي) أنزل هدايته للبشرية بالوحي الي سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين, وأن هذه السلسلة المباركة ختمت ببعثة سيدنا محمد( صلي الله عليه وسلم), وأن الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله ـ بغير تفريق ولا تمييز ـ هو من صميم الدين, وأن تكذيب أي من رسل الله الصادقين يستوجب العقاب من الله( تعالي) في الدنيا قبل الآخرة.
(4) التسليم بأنه ما علي رسل الله إلا البلاغ المبين, ولذلك وصف الله( تعالي) خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) بأنه نذير مبين.
(5) التصديق بقصص القرآن الكريم, وبكل ما أصاب الكفار والمشركين من الأمم السابقة من عذاب, وبما سوف يصيب كفار ومشركي وظلمة اليوم والغد الي يوم الدين من عذاب إن شاء الله رب العالمين.
(6) الايمان بالآخرة وبكل ما رواه القرآن الكريم من أحداثها بدءا بالبعث والحساب, وانتهاء بالخلود إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا.
(7) اليقين بأن الله( تعالي) سوف يملأ جهنم بأبالسة الجن والإنس, وبجميع من تبعهم من الكافرين والمشركين والمكذبين ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) والمتطاولين علي مقامه الشريف كذبا وزورا وبهتانا طمعا في شيء من حطام الدنيا الفانية.
(8) التصديق بكل المعجزات التي أجراها الله( تعالي) علي أيدي أنبيائه ورسله, كما جاء وصفها في القرآن الكريم.
(9) التسليم بوصف القرآن الكريم للجنة ونعيمها, وللنار وجحيمها, وبجميع الأحداث المستقبلية التي ذكرها انطلاقا من اليقين بأن الله( تعالي) يري الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد, لأنه خالق كل من المكان والزمان الذي يحد بهما حركات وسكنات خلقه, وهي لا تحد الله( تعالي), لأن المخلوق لا يحد خالقه أبدا.
(10) اليقين بأن رزق الله( تعالي) لا ينفد أبدا, وأنه( سبحانه) هو الرزاق ذو القوة المتين.
(11) الإيمان الكامل بقصة الخلق كما أوردها القرآن الكريم, علي الرغم من انبهار عدد من الكتاب والدارسين بفكرة التطور العضوي, وعلي الرغم من محاولات إحياء الادعاء القديم بوجود أكثر من آدم واحد, أو بوجود بشر عاقلين قبل أبينا آدم( عليه السلام) وهي ادعاءات تفتقر الي الدليل.
من الإشارات الكونية في سورة ص
(1) الاشارة الي وجود حيز فاصل بين السماوات والأرض, والعلوم المكتسبة تؤكد أن الغلاف الغازي للأرض مكون من اختلاط غازات اندفعت ـ ولا تزال تندفع ـ من باطن الأرض مع المادة التي تملأ المسافات بين أجرام السماء, وعلي ذلك فإن هذا النطاق البيني يمثل تركيبا مغايرا لكل من الأرض والسماء, ولعل هذا هو المقصود بتعبير السماوات والأرض ومابينهما والذي ورد عشرين مرة في القرآن الكريم منها مرتان في هذه السورة المباركة.
(2) تأكيد خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق أي بالقوانين المنضبطة, والسنن الحاكمة الدقيقة التي تعكس شيئا من صفات الخالق العظيم, وتنفي كل الادعاءات الباطلة بالعشوائية والمصادفة.
(3) الاشارة الي خلق الإنسان من طين, والتركيب الكيميائي لجسمه يؤكد ذلك, واغتذاؤه علي عناصر مستمدة من طين الأرض بواسطة النباتات, أو مختزنة في أجساد حيوانات تتغذي علي النباتات تضيف التأكيد علي ذلك, ومرور جسد الانسان في مراحل تحلله بعد وفاته بمرحلة طينية قبل أن يجف ويتواري في تراب الأرض مما يزيد ذلك تأكيدا.
(4) ذكر التسبيح بواسطة كل من الجبال والطير, والعلوم المكتسبة تقترب اليوم من التأكيد علي أن كل مخلوق من مخلوقات الله غير المكلفة مثل الجمادات, والنباتات, والحيوانات له قدر من الإدراك الخاص به, والذي يتواءم مع مستواه, ويعينه في التعرف علي خالقه, وفي المداومة علي حمده وتسبيحه بلغة لا يدركها إلا أصحاب الأرواح الصافية, والقلوب العامرة بحب الله( تعالي) وحب خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم).
(5) وصف الخيل بـ( الصافنات الجياد), وعلوم سلوك الحيوان تؤكد أن الخيل من الحيوانات المتميزة بشيء من الخيلاء والاعتداد بالنفس والاعتزاز بنعم الله تعالي عليها, وكذلك( تصفن) أي تقف علي ثلاثة أرجل وعلي حافر الرجل الرابعة, وجاء الوصف بالتأنيث لأن الأنثي هي الزعيمة الآمرة الناهية في قطيع الخيل.
ووصفت الآيات كيفية تعامل نبي الله سليمان( عليه السلام) مع الخيل بقول الحق( تبارك وتعالي):... فطفق مسحا بالسوق والاعناق* وعلم سلوك الحيوان يؤكد أن من أفضل وسائل ترويض الخيل والتآلف معها هو المسح بكل من سيقانها وأعناقها لأنها من أكثر مواطن الاحساس إرهافا فيها.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج الي معالجة خاصة بها, ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الثالثة من القائمة السابقة والمتعلقة بخلق ابينا آدم( عليه السلام) من طين والتي جاءت في الآية الحادية والسبعين من سورة ص, وقبل الوصول الي ذلك أري ضرورة الرجوع الي أقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين*( ص:71).
* أورد ابن كثير( يرحمه الله) ما مختصره: هذه القضية ذكرها الله تبارك وتعالي في سورة البقرة, وفي أول الأعراف, وفي سورة الحجر, والإسراء, والكهف, وههنا, وهي أن الله سبحانه وتعالي, أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام, بأنه سيخلق بشرا من طين..
* وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) ما مختصره: لقد خلق الله هذا الكائن البشري من الطين, كما أن سائر الأحياء في الأرض خلقت من طين, فمن الطين كل عناصرها, فيما عدا سر الحياة.. ومن الطين كل عناصر ذلك الكائن البشري فيما عدا ذلك السر, وفيما عدا تلك النفخة العلوية التي جعلت منه إنسانا من الطين كل عناصر جسده, فهو من أمه الأرض, ومن عناصرها تكون وهو يستحيل الي تلك العناصر حينما يفارقه ذلك السر الإلهي المجهول, وتفارقه معه آثار تلك النفخة العلوية التي حددت خط سيره في هذه الحياة....
مراحل خلق آدم( عليه السلام)
في الكتاب والسنة
جاء ذكر خلق أبينا آدم( عليه السلام) وخلق نسله من بعده في العديد من آي القرآن الكريم وأحاديث خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) ومن ذلك نختار الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التالية:
أولا: خلق آدم( عليه السلام) من تراب:
(1) إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون*
(آل عمران:59).
(2) يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب..*( الحج:5).
(3) ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون*.( الروم:20).
(4) والله خلقكم من تراب..*.( فاطر:11).
(5) هو الذي خلقكم من تراب...*
(غافر:67).
ثانيا: تحويل التراب الذي خلق منه آدم( عليه السلام) إلي طين:
(1) هو الذي خلقكم من طين..*( الأنعام:2)
(2)... قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين*( الأعراف:12).
(3) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا*( الإسراء:61)
(4) الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين*( السجدة:7)
(5) إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين* فسجد الملائكة كلهم أجمعون* إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين* قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين* قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين*( ص:71 ـ76).
ثالثا: اختيار مايناسب من خلاصة الطين لخلق آدم عليه السلام
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين*( المؤمنون:12).
رابعا: الجفاف النسبي للطين حتي أصبح لازبا أي ملتصقا بعضه ببعض:
... إنا خلقناهم من طين لازب*
(الصافات:11)
خامسا: جفاف الطين حتي اسود وانتن وأصبح صلصالا من حمأ مسنون:
ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون* والجان خلقناه من قبل من نار السموم* وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين* فسجد الملائكة كلهم أجمعون* إلا إبليس أبي أن يكون مع الساجدين* قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين* قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون*( الحجر:26 ـ33).
سادسا: تيبس الطين علي هيئة صلصال كالفخار:
خلق الإنسان من صلصال كالفخار*( الرحمن:14)
ولذلك جاءت الإشارات القرآنية العديدة الي خلق الإنسان من الأرض من مثل قوله( تعالي):
* منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري*( طه:55).
* والله أنبتكم من الأرض نباتا* ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا*
(نوح:17 ـ18).
*... هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم...*
(النجم:32).
* وللتأكيد علي أن بني آدم جميعا كانوا في صلب أبيهم لحظة خلقه جاء قول ربنا( تبارك وتعالي): ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين( الأعراف:11)
* وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين( الأعراف:172).
* ولتفسير ذلك قال رسول الله( صلي الله عليه وسلم): إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض, فجاء بنو آدم علي قدر الأرض. جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك, والخبيث والطيب وبين ذلك( أخرجه الإمام أحمد عن أبي موسي الأشعري, وأخرجه أبو داود والترمذي عن عوف الأعرابي مرفوعا إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم).
* كذلك قال رسول الله( صلي الله عليه وسلم) إن الله( تعالي) خلق آدم يوم الجمعة وفي رواية أخري في آخر ساعة من يوم الجمعة مما يؤكد علي أن خلقه كان خلقا خاصا بالأمر الإلهي كن فيكون.
سابعا: ثم سواه ونفخ فيه من روحه...:
وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي): الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين* ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ماتشكرون( السجدة:7 ـ9).
ونسبة الروح إلي الله( تعالي) هي من قبيل التشريف لآدم( عليه السلام), لأن الله( سبحانه وتعالي) منزه عن جميع صفات خلقه, ومنها التجزيء, والتبعيض, والتنسيب إلي أب وأم أو إي صاحبه وولده.
والروح التي نفخت في آدم هي من جنس ما استأثر الله بعلمه لقوله( تعالي): ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.( الاسراء:85)
* وللتأكيد علي أن الخلق عملية مغايرة للتسوية والتصوير جاء قول ربنا( جلت قدرته): يا أيها الإنسان ماغرك بربك الكريم* الذي خلقك فسواك فعدلك* في أي صورة ماشاء ركبك)
(الانفطار:6 ـ8).
وفي الحديث الذي أخرجه كل من الأئمة الكبار البخاري ومسلم وأحمد عن كل من أبي حاتم وأبي هريرة أن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) قال: إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم علي صورته والضمير في كلمة( صورته) يعود علي الأخ المضروب, لا علي الله( تعالي) لأن الله( سبحانه) لا يشبهه أحد من خلقه. وإن كان كل من اليهود والنصاري والمشركين والوثنيين في كل عصر قد اعتقدوا خطأ أن الله( تعالي) قد خلق آدم علي هيئة الذات الإلهية, والله الخالق الباريء المصور منزه عن الشبيه, والشريك, والمنازع, والصاحبة والولد, وعن كل وصف لا يليق بجلاله.
خلق الإنسان من طين
يتضح من هذا الاستعراض السريع لقضية خلق الإنسان في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة أن الإنسان مخلوق مكرم, خلقه ربنا( تبارك وتعالي) في أحسن تقويم, وسواه بيديه, ونفخ فيه من روحه, وأمر الملائكة بالسجود له, وعلمه من علمه, وفضله علي كثير من خلقه, وحمله أمانة الاستخلاف في الأرض بعمارتها, وإقامة عدل الله فيها, وعبادة خالقه بما, والإنسان هو المخلوق المتميز بالعقل والذكاء, وبالقدرة علي كسب المعارف وتعليمها, وعلي كسب المهارات وتطبيقها, وعلي التفكير والإبداع, وعلي الشعور والانفعال, وعلي البيان المنطقي المرتب, والتعبير عن الذات وعن المشاعر بدقة ووضوح, ومن ثم كان الإنسان مكلفا بمسئولية الاستخلاف في الأرض, ومحاسبا علي أقواله وأعماله ومختلف نشاطاته فيها.
والإنسان توازن دقيق بين المادة والروح, وميزانه في ضبط هذا التوازن هو عقله الذي يعينه علي تحصيل المعارف المكتسبة من تفهم للقوانين الحاكمة للكون ولسنن الله فيه, وتوظيف ذلك كله في عمارة الأرض, وفي التعرف علي الخالق العظيم من خلال التعرف علي خلقه, وتلقي هدايته الربانية في الأمور التي لايقوي علي وضع ضوابط صحيحة لنفسه فيها من مثل ركائز الدين من العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات, فيخضع لخالقه بالطاعة والعبادة بما أمر, وبالالتزام بمكارم الأخلاق وطيب المعاملات حتي يتحقق له الارتقاء في معراج الله إلي أعلي الدرجات, والوصول إلي رضاء الله وهي الغاية من وجوده في الأرض.
والإنسان بالإضافة إلي روحه وعقله هو جسد مادي من عناصر الأرض, ولذلك فهو خاضع لقوانين المادة ولسنن الله فيها, وهذا الجسد الإنساني يتكون أساسا من الماء(54% إلي أكثر من70%) بالإضافة إلي قدر من المواد البروتينية( من11% إلي17%) والدهون14% إلي26%) وعدد من العناصر والمركبات غير العضوية(5% إلي6%) وتشمل الكالسيوم, الفوسفور, الكبريت, البوتاسيوم, الصوديوم, الكلور, الماغنيسيوم وآثار طفيفة من كل من اليود والفلور, والبروم والحديد والنحاس, والمنجنيز, والزنك, والكروم, والكوبالت, والنيكل, والموليبد ينوم, والقصدير, والفاناديوم, والسيليكون, والألومنيوم وكلها من عناصر الأرض. ولو اختلفت نسب بناء جسم الإنسان قليلا ما صلحت لبنائه, وحتي شوارد العناصر التي توجد بنسب في حدود الآحاد من الألف في المائة فإن أقل خلل في نسبها بالزيادة أو النقصان قد يؤدي إلي اعتلال جسم الإنسان أو افنائه.
ويتكون جسم الإنسان من ألف مليون مليون خلية حية في المتوسط, وهي خلايا متخصصة تتنوع بتنوع وظائفها, وتنتظم كل مجموعة متخصصة من تلك الخلايا في أنسجة متخصصة, ثم في أعضاء متخصصة, ثم في أجهزة أو نظم متخصصة تتعاون كلها في خدمة هذا الكيان المبهر في دقة بنائه, والعلماء يعجزون اليوم عن إدراك كيفية تعرف الخلايا المتخصصة علي بعضها البعض لبناء الأنسجة المتخصصة, ولا معرفة كيفية تعرف الأنسجة, ولا توافق الأجهزة لبناء هذا الجسد المتكامل الأداء, بذاتها ولكنه تدبير الخالق العظيم.
والخلية الحية التي لايتعدي قطرها في المتوسط00,03 من المليمتر ولايتعدي وزنها جزءا من مليار جزء من الجرام تعتبر بناء فائق التعقيد والكفاءة في الأداء, يفوق في تعقيده جميع المصانع التي أقامها الإنسان, بل التي فكر في إقامتها ولم يتمكن من ذلك بعد. فالخلية البشرية لها جدار حي, ولها سائل خاص يعرف باسم الهيولي( السيتو بلازم), ولها نواة تمثل مركز التحكم في الخلية( عقل الخلية), ويغلف النواة غشاء خاص يسمح بتبادل المعلومات والبروتينات النووية مع هيولي الخلية, بدقة وإحكام بالغين.
وللخلية جسيمات حية متناهية الضآلة في الحجم تعوم في سائل الخلية وتعرف باسم العضيات(Organelles), ومنها مولدات الطاقة أو المقتدرات(Mitochondria), ومراكز تصنيع البروتينات أو الريباسات,(Ribosomes), وغيرها, ويحيط بالخلية الحية غشاء خلوي له كفاءة عالية في المحافظة علي كيان الخلية كوحدة مستقلة دون عزلها عما حولها من الخلايا التي تتعايش معها في تفاعل كامل.
وفي داخل النواة توجد الشفرة الوراثية المكونة من الصبغيات علي هيئة شبكة صبغية تحمل نوية واحدة, وعدد الصبغيات محدد في كل نوع من أنواع الحياة, وهي تحمل الصفات الوراثية كما تحمل مراكز توجيه صنع البروتينات المختلفة التي يحتاجها الجسم. وتستطيع الخلية الحية علي ضآلة حجمها انتاج مائة ألف صنف من البروتينات يكفي الجسم منها ألف بروتين أساسي, ويعجز الإنسان عن انتاج هذا العدد من البروتينات في أضخم المصانع التي تم إنشاؤه في الزمن الذي تنتجه الخلية الحية. ويختلف بناء الجزيء البروتيني باختلاف عمله فهناك بروتينات الغضاريف, والعضلات, والأوعية الدموية, والأنسجة الرئوية, وبروتينات كل من الجلد والشعر, وبروتينات الدم وتجلطه, وهناك الإنزيمات والهرمونات المختلفة, وغيرها من المركبات الكيميائية والفيتامينات المختلفة التي يحتاجها الجسم وتنتجها الخلية حسب الحاجة.
هذه العجالة تؤكد أن تكون خلية واحدة من أكثر من مائة تريليون خلية حية في المتوسط في جسم الفرد الواحد منا لايمكن أن يتم بعشوائية أو بمصادفة, بل يحتاج إلي تقدير الخالق الباريء المصور, بل إن تكوين جزيء بروتيني واحد, بل جزيء واحد من جزيئات الأحماض الأمينية المكونة للجزيء البروتيني لايمكن أن يتم إلا بتقدير مسبق وتدبير حكيم, فالمصادفة لا تجدي في إنتاجه أبدا.
وإذا قرر العلم ذلك, فلا مفر من الاعتراف بحقيقة الخلق, وتدبير الخالق, وإذا قال الخالق العظيم:... إني خالق بشرا من طين فإن المخلوقات لا يملكون التمحك في تفسير ذلك مهما توفرت المشاهدات, لأنهم لم يشهدوا خلق أنفسهم والشواهد علي الخلق هي في الواقع قليلة ومتناثرة مع إيماننا بالأمر الإلهي: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخرة إن الله علي شيء قدير
(العنكبوت:20).
ومع ندرة شواهد الخلق وتناثرها, فإن مناقشتها بمعزل عن الهداية الربانية تصبح مضيعة للوقت والجهد دون أدني طائل, وهنا يتضح دور القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في تجليه مثل هذه الأمور.
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:17 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:10 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:08 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:07 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 20-12-2009, 10:48 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات