افتراء او شبهة جديدة



يسألون أو لا يسألون؟

قالوا: من أسباب تناقض القرآن لبعضه اختلاف الموضع كقوله وقِفُوهم إنهم مسئولون (آية 24) أي احبسوهم. فلنسألنّ الذين أُرسل إليهم ولنسألنّ المرسَلين (الأعراف 7: 6). مع أنه ورد فيومئذٍ لا يُسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جانّ (الرحمن 55: 39).

قال الحليمي: تحمل العبارات الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل، والثانية على ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه، ولكن حمله غيره على اختلاف الأماكن، لأن في القيامة مواقف كثيرة، ففي موضعٍ يُسألون وفي آخر لا يُسألون.

------------------------

الرد:

قال الإمام الرازي

فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: { فَلَنَسْـئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ }

وبين قوله :
{وقِفُوهم إنهم مسئولون}
لصافات24]

وبين قوله:
{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْـئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ }
[الرحمن: 39]

وقوله:
{ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ }
[القصص: 78].

قلنا فيه وجوه:

أحدها: أن القوم لا يسألون عن الأعمال، لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال، وعن الصوارف التي صرفتهم عنها.

وثانيها: أن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة، وقد يكون لأجل التوبيخ والإهانة، كقول القائل ألم أعطك وقوله تعالى:
{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى آدمَ }
[يس: 60]

قال الشاعر:ألستم خير من ركب المطايا

إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى لا يسأل أحداً لأجل الاستفادة والاسترشاد، ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم، ونظيره قوله تعالى:
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ }
[الصافات: 27]

ثم قال:
{ فَلاَ أَنسَـابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ }
[المؤمنون: 101]

فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضاً، والدليل عليه قول:

{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَـاوَمُونَ }
[القلم:30]

وقوله: { فَلاَ أَنسَـابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ } معناه أنه لا يسأل بعضهم بعضاً على سبيل الشفقة واللطف، لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام.

وقوله :
{وقِفُوهم إنهم مسئولون}
لصافات24]
أي : احبسوهم للسؤال وللحساب ، وهذا السؤال سيكون فردياً ليس جماعياً ، فكل واحد منهم سيُسأل وسيناقش .


والوجه الثالث: في الجواب: أن يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة، فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال، وعن بعضها بعدم السؤال.

فالآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده، لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا رُسُلاً أو مُرْسَلاً إليهم، ويبطل قول من يزعم أنه لا حساب على الأنبياء والكفار.

والآية تدل ايضا على كونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة، لأنه تعالى قال: { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } ولو كان تعالى على العرش لكان غائباً عنا.

فإن قالوا: نحمله على أنه تعالى ما كان غائباً عنهم بالعلم والإحاطة.

قلنا: هذا تأويل والأصل في الكلام حمله على الحقيقة.

فإن قالوا: فأنتم لما قلتم أنه تعالى غير مختص بشيء من الأحياز والجهات، فقد قلتم أيضاً بكونه غائباً.

قلنا: هذا باطل لأن الغائب هو الذي يعقل أن يحضر بعد غيبة، وذلك مشروط بكونه مختصاً بمكان وجهة، فأما الذي لا يكون مختصاً بمكان وجهة وكان ذلك محالاً في حقه، امتنع وصفه بالغيبة والحضور، فظهر الفرق والله أعلم.
.