.
ويخاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيقول:
(ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلاً"74" )
(ولولا) أداة شرط إن دخلت على الجملة الاسمية، وتفيد امتناع وجود الجواب لوجود الشرط، ويسمونها حرف امتناع لوجود، كما لو قلت: لولا زيد عندك لزرتك، فقد امتنعت الزيارة لوجود زيد.
فإن دخلت (لولا) على الجملة الفعلية أفادت الحث والحض، كما في قوله تعالى:
{لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء .. "13"}
(سورة النور)
و(لولا) في الآية دخلت على جملة اسمية؛ لأن (أن) بعدها مصدرية، فالمعنى: لولا تثبتنا لك لقاربت أن تركن إليهم شيئاً قليلاً.
والمتأمل في هذه الآية يجدها تحتاط لرسول الله عدة احتياطات، فلم تقل: لولا تثبتنا لك لركنت إليهم، لا، بل لقاربت أن تركن فمنعت مجرد المقاربة، أما الركون فهو أمر بعيد وممنوع نهائياً وغير متصور من رسول الله، ومع ذلك أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله:
{شيئاً قليلاً "74"}
(سورة الإسراء)
أي: ركوناً قليلاً.
مما يدل على أن طبيعته صلى الله عليه وسلم ـ حتى دون الوحي من الله ـ طبيعة سليمة بفطرتها، فلو تصورنا عدم التثبيت له من الله ماذا كان يحدث منه؟ يحدث مجرد (كاد) أو (قرب) أن يركن إليهم شيئاً قليلاً، وقلنا: إن المقارنة تعني مشروع فعل، لكنه لم يحدث، مما يدل على أن لرسول الله ذاتية مستقلة. ومعنى
{ثبتناك .. "75"}
(سورة الإسراء)
التثبيت هو منع المثبت أن يتأرجح، لذلك نقول للمتحرك: اثبت.
ومعنى: (تركن) من ركون الإنسان إلى شيء يعتصم به ويحتمي، والناس يبنون الحوائط ليحموا بها ممتلكاتهم، وإذا احتمى الإنسان بجدار فأسند ظهره إليه مثلاً فقد حمى ظهره فقط، وأمن أن يأتيه أحد من ورائه، فإن أراد أن يحمي جميع جهاته الأربع، فعليه أن يلجأ إلى ركن وأن يسند ظهره إلى الركن فيأمن من أمامه، ويحتمي بجدار عن يمينه وجدار عن شماله. إذن: الركون أن تذهب إلى حرز يمنعك من جميع جهاتك.
ومن الركون قوله تعالى عن لوط عليه السلام مع قومه:
{لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركنٍ شديدٍ "80"}
(سورة هود)
أي: احتمي به وألجأ إليه.
والحق سبحانه في هذه الآيات يريد أن يستل السخيمة على محمد صلى الله عليه وسلم من قلوب أعدائه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هدايتهم وتأليف قلوبهم، وقد كان يشق على نفسه ويحملها ما لا يطيق في سبيل هذه الغاية، ومن ذلك ما حدث من تركه عبد الله بن أم مكتوم الذي جاءه سائلاً، وانصرافه عنه إلى صناديد قريش؛ لذلك عتب عليه ربه تبارك وتعالى لأنه شق على نفسه.
وكأن الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يقول: يا قوم إن لم يوافقكم محمد على ما كنتم تريدون منه الانصراف عما أنزل إليه من ربه، فاعذروه؛ لأن الأمر عندي والتثبيت مني، ولا ذنب لمحمد فيما خالفكم فيه، كما لو كان عندك خادم مثلاً ارتكب خطأ ما، فأردت أن تتحمل عنه المسئولية، فقلت: أنا الذي كلفته بهذا وأمرته به، فالأمر عندي وليس للخادم ذنب فيما فعل.
.
المفضلات