وأما ما جاء في مقدمة يوحنا «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان» يوحنا 1/1-3) فقد كان للمحققين معه وقفات عديدة ومهمة منها :
- ينبه ديدات إلى أن هذا النص قد انتحله كاتب الإنجيل من فيلون الإسكندراني - ت40م ، وأنه بتركيباته الفلسفية غريب عن بيئة المسيح وبساطة أقواله وعامية تلاميذه، وخاصة يوحنا الذي يصفه سفر أعمال الرسل بأنه عامي عديم العلم، فيقول: « فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا، ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان تعجبوا » أعمال 4/13 ).
- كما ينبه ديدات إلى أن ثمة تلاعباً في الترجمة الإنجليزية، وهي الأصل الذي عنه ترجم الكتاب المقدس إلى لغات العالم.
ولفهم النص على حقيقته نرجع إلى الأصل اليوناني.
فالنص في الترجمة اليونانية تعريبه هكذا «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله» وهنا يستخدم النص اليوناني بدلاً من كلمة «الله» كلمة hotheos ، وفي الترجمة الإنجليزية تترجم god للدلالة على أن الألوهية حقيقة.
ثم يمضي النص فيقول «و كان الكلمة الله» و هنا يستخدم النص اليوناني كلمة tontheos وكان ينبغي أن يستخدم في الترجمة الإنجليزية كلمة god بحرف صغير للدلالة على أن الألوهية مجازية، كما وقع في نص سفر الخروج «جعلتك إلهاً لفرعون» الخروج 7/1)، فاستخدم النص اليوناني كلمة tontheos وترجمت في النص الإنجليزي god مع وضع أداة التنكير-a)-.
لكن الترجمة الإنجليزية حرفت النص اليوناني لمقدمة يوحنا فاستخدمت لفظة god التي تفيد ألوهية حقيقة بدلاً من god التي تفيد ألوهية معنوية أو مجازية، فوقع اللبس في النص، وهذا ولا ريب نوع من التحريف.
ولو غض المحققون الطرف عن ذلك كله فإن في النص أموراً ملبسة تمنع استدلال النصارى به على ألوهية المسيح.
أولها: ما معنى كلمة «البدء» ؟ ويجيب النصارى أي الأزل.
لكن ذلك لا يسلم لهم، فإن الكلمة وردت في الدلالة على معانٍ منها:
- وقت بداية الخلق والتكوين كما جاء في « في البدء خلق الله السموات والأرض» التكوين1/1).-
وترد بمعنى وقت نزول الوحي، كما في قول متى «و لكن من البدء لم يكن هذا» متى 19/ 8 ).
وقد تطلق على فترة معهودة من الزمن كما في قول لوقا «كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء» لوقا 1/2)، أي في أول رسالة المسيح.
ومثله «أيها الإخوة لست أكتب إليكم وصية جديدة بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء. الوصية القديمة هي الكلمة التي سمعتموها من البدء» يوحنا -1- 2/7).
ومثله أيضاً «ولكن منكم قوم لا يؤمنون.لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون ومن هو الذي يسلمه» يوحنا6/64).
ومثله « أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق، لأنه ليس فيه حق» يوحنا 8/44).
ومثله «فقالوا له: من أنت؟ فقال لهم يسوع : أنا من البدء ما أكلمكم أيضاً به» يوحنا 8/25).
وعليه فلا يجوز قول النصارى بأن المراد بالبدء هنا الأزل إلا بدليل مرجح.
ويرجح الشيخ العلمي في كتابه الفريد «سلاسل المناظرات» بأن المعنى هنا هو بدء تنزل الوحي على الأنبياء أي أنه كان بشارة صالحة عرفها الأنبياء كما في إرميا 33/14) : « ها ايام تأتي يقول الرب واقيم الكلمة الصالحة التي تكلمت بها الى اسرائيل والى بيت يهوذا.»
ثانيها: ما المقصود بالكلمة؟ هل هو المسيح؟ أم أن اللفظ يحتمل أموراً أخرى، وهو الصحيح. فلفظة «الكلمة» لها إطلاقات في الكتاب المقدس، منها الأمر الإلهي الذي به صنعت المخلوقات، كما جاء في المزامير «بكلمة الله صنعت السماوات» المزمور 13/6).
ومثله «: وقال الله: ليكن نور فكان نور» التكوين 1/3).
ومنه سمي المسيح كلمة لأنه خلق بأمر الله من غير سبب قريب، أو لأنه أظهر كلمة الله، أو أنه الكلمة الموعودة على لسان الأنبياء.
وأما المعنى الذي يريده النصارى بالكلمة، وهو الأقنوم الثاني من الثالوث، فلم يرد في كتب الأنبياء البتة.
ثالثها: «وكان الكلمة الله» غاية ما يستدل بها أن المسيح أطلق عليه: الله، كما أطلق على القضاة في التوراة «الله قائم في مجمع الله. في وسط الآلهة يقضي. حتى متى تقضون جوراً وترفعون وجوه الأشرار» المزمور82/1)، والشرفاء في قول داود: « أحمدك من كل قلبي، قدام الآلهة أرنم لك» 138/1)، وقد قال الله لموسى عن هارون: « وهو يكون لك فماً، وأنت تكون له إلهاً » انظر الخروج 4 /16). وغيرهم كما سبق بيانه
رابعها: «والكلمة كان عند الله» ، والعندية لا تعني المثلية ولا المساواة. إنما تعني أن الكلمة خلقت من الله كما في قول حواء: «اقتنيت رجلاً من عند الرب» التكوين 4/1)، فقايين ليس مساوياً للرب، ولا مثله، وإن جاءها من عنده، وجاء في موضع آخر « وأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من عند الرب» التكوين 19/24).
الله واحد أم ثلاثة_د. منقذ بن محمود السقار
المفضلات