جاء في أصول فخر الاسلام لفخر الاسلام البزدوي رحمه الله تعالى ما يلي:
(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ) . وَهُوَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ, وَهُوَ الاتِّصَالُ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ صُورَةً وَمَعْنًى مِنْ الْقِسْمِ الأَوَّلِ, وَهُوَ الاتِّصَالُ أَمَّا ثُبُوتُ الشُّبْهَةِ فِيهِ صُورَةً فَلأَنَّ الاتِّصَالَ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَثْبُتْ قَطْعًا., وَأَمَّا مَعْنًى فَلأَنَّ الأُمَّةَ مَا تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ. وَهُوَ كُلُّ خَبَرٍ يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ أَيْ الْمُخْبِرُ الْوَاحِدُ وَالاثْنَانِ أَيْ أَوْ الاثْنَانِ.
لا عِبْرَةَ لِلْعَدَدِ فِيهِ يَعْنِي لا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ حُكْمًا, وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ مُتَعَدِّدًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ وَالاشْتِهَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ خَبَرِ الاثْنَيْنِ وَالْوَاحِدِ فَقُبِلَ خَبَرُ الاثْنَيْنِ دُونَ الْوَاحِدِ. وَبَعْضُهُمْ قَبِلَ خَبَرَ الأَرْبَعَةِ دُونَ مَا عَدَاهَا فَسَوَّى الشَّيْخُ بَيْنَ الْكُلِّ قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ, وَلا يُوجِبُ الْعِلْمَ يَقِينًا أَيْ لا يُوجِبُ عِلْمَ يَقِينٍ, وَلا عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ, وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ....
وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ عَنْهُ سَمْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {, وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ}. أَيْ لا تَتْبَعْ مَا لا عِلْمَ لَك بِهِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لا يُوجِبُ الْعِلْمَ فَلا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ بِظَاهِرِ هَذَا النَّصِّ. قَالُوا, وَلا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ الْعِلْمَ ذُكِرَ نَكِرَةً فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَقْتَضِي انْتِفَاءَهُ أَصْلا .....
فَلا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ ; لأَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ فَهُوَ مُحَرَّمُ الاتِّبَاعِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى. {إنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ, وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا}. ثُمَّ أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى شُبْهَةِ مَنْ مَنَعَ عَنْهُ عَقْلا بِقَوْلِهِ, وَهَذَا أَيْ عَدَمُ جَوَازِ الْعَمَلِ ;
لأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَيْ مَنْ يَتَوَلَّى وَضْعَ الشَّرَائِعِ, وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى إذْ الرَّسُولُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى إثْبَاتِ مَا شَرَعَهُ بِأَوْضَحِ دَلِيلٍ فَأَيُّ ضَرُورَةٍ لَهُ فِي التَّجَاوُزِ عَنْ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ إلَى مَا لا يُفِيدُ إلا الظَّنَّ.
كَيْفَ, وَأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ, وَهِيَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَوْ رَوَى خَبَرًا فِي سَفْكِ دَمٍ أَوْ اسْتِحْلالِ بُضْعٍ وَرُبَّمَا يَكْذِبُ فَنَظَرَ أَنَّ السَّفْكَ وَالإِبَاحَةَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى, وَلا يَكُونَانِ بِأَمْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْهُجُومُ بِالْجَهْلِ, وَمَنْ شَكَكْنَا فِي إبَاحَةِ بُضْعِهِ وَسَفْكِ دَمِهِ لا يَجُوزُ الْهُجُومُ بِالشَّكِّ فَيَقْبُحُ مِنْ الشَّارِعِ حَوَالَةُ الْخَلْقِ عَلَى الْجَهْلِ, وَاقْتِحَامُ الْبَاطِلِ بِالتَّوَهُّمِ بَلْ إذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَمْرٍ فَلْيُعَرِّفْنَا أَمْرَهُ لِنَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ إمَّا مُمْتَثِلُونَ أَوْ مُخَالِفُونَ. بِخِلافِ الْمُعَامَلاتِ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُقْبَلُ فِيهَا بِلا خِلافٍ ;
لأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِنَا أَيْ قَبُولَهُ فِيهَا مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ ; ...
لأَنَّا نَعْجِزُ عَنْ إظْهَارِ كُلِّ حَقٍّ لَنَا بِطَرِيقٍ لا يَبْقَى فِيهِ شُبْهَةٌ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا الاعْتِمَادَ فِيهَا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ الرَّأْيُ مِنْ ضَرُورَاتِنَا جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْقِيَاسِ فِي الأَحْكَامِ مَعَ أَنَّهُ لا يُفِيدُ إلا الظَّنَّ فَقَالَ هُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ أَيْضًا ;
لأَنَّ الْحَادِثَةَ إذَا وَقَعَتْ, وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ يُعْمَلُ بِهِ يُحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ ضَرُورَةً. ;
وَلأَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِمُثْبِتٍ بَلْ هُوَ مُظْهِرٌ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مُثْبِتٌ وَالإِظْهَارُ دُونَ الإِثْبَاتِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ التَّمَسُّكَ بِالْقِيَاسِ مِنْهُمْ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْقِيَاسَ حُجَّةً مِثْلُ النَّظَّامِ, وَأَهْلِ الظَّاهِرِ فَلا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ) كَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّ الأَخْبَارَ الَّتِي حَكَمَ أَهْلُ الصَّنْعَةِ بِصِحَّتِهَا تُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ, وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَذَهَبَ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ إلَى أَنَّهَا تُوجِبُ عِلْمًا اسْتِدْلالِيًّا, وَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى شُبْهَةِ الْفَرِيقَيْنِ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الاسْتِدْلالِيَّ تَمَسَّكَ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَوْ لَمْ يُفِدْ الْعِلْمَ لَمَا جَازَ اتِّبَاعُهُ لِنَهْيِهِ تَعَالَى عَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ}. وَذَمِّهِ عَلَى اتِّبَاعِهِ فِي قَوْلِهِ جَلَّ جَلالُهُ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ}, {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}. وَقَدْ انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الاتِّبَاعِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فَيَسْتَلْزِمُ إفَادَةَ الْعِلْمِ لا مَحَالَةَ.
وَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا قَالَ إنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي وُجِدَ شَرَائِطُ صِحَّتِهِ الْعِلْمَ بِالْمُخْبَرِ بِهِ ضَرُورَةً مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلالٍ وَنَظَرٍ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالْمُتَوَاتِرِ.
وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا لَمَا, وَقَعَ الاخْتِلافُ فِيهِ, وَلاسْتَوَى الْكُلُّ فِيهِ فَقَالُوا هَذَا الْعِلْمُ يَحْصُلُ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ الْبَعْضُ وَوُقُوعُ الاخْتِلافِ لا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا كَالْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالْمُتَوَاتِرِ فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ,
وَقَدْ وَقَعَ الاخْتِلافُ فِيهِ قَوْلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآيَةَ, أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ وَالْعَهْدَ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ, وَلا يَكْتُمُوهُ عَنْهُمْ فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِالْبَيَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَنَهْيًا لَهُ عَنْ الْكِتَابِ ;
لأَنَّهُمْ إنَّمَا يُكَلَّفُونَ بِمَا فِي وُسْعِهِمْ, وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا ذَاهِبِينَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلْقِ شَرْقًا وَغَرَبَا بِالْبَيَانِ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَدَاءُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ;
وَلأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْجَمْعِ الْمُضَافِ إلَى جَمَاعَةٍ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ;
وَلأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ مِنْ أَصْلِ الدِّينِ وَالْخِطَابُ لِجَمَاعَةٍ بِمَا هُوَ أَصْلُ الدِّينِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الأَفْرَادِ ثُمَّ ضَرُورَةُ تَوَجُّهِ الأَمْرِ بِالإِظْهَارِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَمْرُ السَّامِعِ بِالْقَبُولِ مِنْهُ وَالْعَمَلِ بِهِ إذْ أَمْرُ الشَّرْعِ لا يَخْلُوَا عَنْ فَائِدَةٍ حَمِيدَةٍ, وَلا فَائِدَةَ فِي الأَمْرِ بِالْبَيَانِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْكِتْمَانِ سِوَى هَذَا.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ انْحِصَارَ الْفَائِدَةِ عَلَى الْقَبُولِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ الْفَائِدَةُ هِيَ الابْتِلاءُ فَيُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ إنْ امْتَثَلُوا وَالْعِقَابُ إنْ لَمْ يَمْتَثِلُوا أَلا تَرَى أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْهُمْ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْخِطَابِ مَأْمُورٌ بِالْبَيَانِ بِحَيْثُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ يَأْثَمُ ثُمَّ لا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ, وَكَذَا الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلامُ مَأْمُورِينَ بِالتَّبْلِيغِ, وَإِنْ عُلِمَ قَطْعًا بِالْوَحْيِ أَنَّهُ لا يُقْبَلُ مِنْهُمْ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ لِلْبَيَانِ وَالتَّبْلِيغِ طَرَفَيْنِ طَرَفِ الْمُبَلِّغِ وَطَرَفِ السَّامِعِ, وَلا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِكُلِّ طَرَفٍ فَائِدَةٌ ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْفَائِدَةِ مُخْتَصٌّ بِجَانِبِ الْمُبَلِّغِ, وَلَيْسَ فِي طَرَفِ السَّامِعِ فَائِدَةٌ سِوَى وُجُوبِ الْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ.
وَلا يُقَالُ بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى, وَهِيَ جَوَازُ الْعَمَلِ بِهِ ; لأَنَّا نَقُولُ جَوَازُ الْعَمَلِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُوبِهِ ;
لأَنَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ قَالَ بِالْوُجُوبِ, وَمَنْ أَنْكَرَ الْوُجُوبَ أَنْكَرَ الْجَوَازَ, وَأَمَّا الْفَاسِقُ فَلا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْبَيَانِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ ثُمَّ تَرْتِيبُ الْبَيَانِ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا بَيَانُهُ يُفِيدُ وُجُوبَ الْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الأَئِمَّةِ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ:
{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآيَةَ وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ خَرَجَتْ مِنْ فِرْقَةٍ الإِنْذَارَ, وَهُوَ الإِخْبَارُ الْمَخُوفُ عِنْدَ الرُّجُوعِ إلَيْهِمْ, وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الإِنْذَارَ طَلَبًا لِلْحَذَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. وَالتَّرَجِّي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الطَّلَبِ اللازِمِ, وَهُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَذَرِ, وَالثَّلاثَةُ فِرْقَةٌ, وَالطَّائِفَةُ مِنْهَا إمَّا وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ فَإِذَا رَوَى الرَّاوِي مَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ فِعْلٍ وَجَبَ تَرْكُهُ لِوُجُوبِ الْحَذَرِ عَلَى السَّامِعِ, وَإِذَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ الاثْنَيْنِ هَاهُنَا وَجَبَ مُطْلَقًا إذْ لا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.
وَلا يُقَالُ سَلَّمْنَا أَنَّ الرَّاجِعَ مَأْمُورٌ بِالإِنْذَارِ بِمَا سَمِعَهُ, وَلَكِنْ لا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّامِعَ مَأْمُورٌ بِالْقَبُولِ كَالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ, وَلا يَجِبُ الْقَبُولُ مَا لَمْ يَتِمَّ نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَتَظْهَرُ الْعَدَالَةُ بِالتَّزْكِيَةِ ; لأَنَّا نَقُولُ وُجُوبُ الإِنْذَارِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُوبِ الْقَبُولِ عَلَى السَّامِعِ كَمَا بَيَّنَّا كَيْفَ, وقَوْله تَعَالَى:
{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. يُشِيرُ إلَى وُجُوبِ الْقَبُولِ وَالْعَمَلِ.
فَأَمَّا الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ فَلا نُسَلِّمُ أَنَّ عَلَيْهِ وُجُوبَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ; لأَنَّ ذَلِكَ لا يَنْفَعُ الْمُدَّعِيَ, وَرُبَّمَا يَضُرُّ بِالشَّاهِدِ بِأَنْ يُحَدَّ حَدَّ الْقَذْفِ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ زِنًا, وَلَمْ يَتِمَّ نِصَابُ الشَّهَادَةِ. وَهَذَا أَيْ الدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ, وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ وَسُؤَالُ الْمُجْتَهِدِ لِغَيْرِهِ مُنْحَصِرٌ فِي طَلَبِ الأَخْبَارِ بِمَا سَمِعَ دُونَ الْفَتْوَى, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَبُولُ وَاجِبًا لَمَا كَانَ السُّؤَالُ وَاجِبًا.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}. أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ, وَمَنْ أَخْبَرَ عَنْ الرَّسُولِ بِمَا سَمِعَهُ فَقَدْ قَامَ بِالْقِسْطِ وَشَهِدَ لِلَّهِ, وَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِالأَمْرِ, وَإِنَّمَا يَكُونُ وَاجِبًا لَوْ كَانَ الْقَبُولُ وَاجِبًا, وَإِلا كَانَ وُجُوبُ الشَّهَادَةِ كَعَدَمِهَا, وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
المفضلات