وحلّ "روح الربّ" على الّذين لا يستحقّون!
(وحلّ روح الربّ على جدعون) قض 6/ 34
يتصوّر السّامع أنّ روح الربّ حين تحلّ على شخصٍ ما سيكون مفعماً بالإيمان والتقوى والبصيرة وحسن الظنّ بالله، وبالتّالي بعيداً عن المعاصي والأخطاء غير اللائقة، وقدوةً يقتدى بها، فهذه "روح الله" لا تحلّ إلّا على من هو جديرٌ بها، والله أعلم بمن هو جديرٌ بها، ولكن على عادة شخصيّات الكتاب المقدّس لا يوجد أحدٌ عمل معروفاً وكمّله، بل على العكس لا بدّ من صدمةٍ وتخييب ظنّ في النهاية، وتتكرّر الصّدمات بالنّاس الطيّبين، وفي حالة جدعون هنا لا تكاد ترتسم في ذهنك صورة جميلة لحال رجل حلّت عليه روح الربّ إلّا ويفقع ظنّك الجميل بعد نَصّين مباشرةً حيث نجد أنّه يجرّب الربّ! وبدل المرّة مرّتين!
(إن كنتَ مخلّص بني إسرائيل على يدي كما قلت فها أنا واضعٌ جزّة صوفٍ على البيدر فإذا سقط الندى على الجزّة وحدها وكان على الأرض حولها جفاف علمتُ أنّك مخلّص بني إسرائيل على يدي كما قلت. فكان كذلك وبكّر في الغد وعصر الجزّة فخرج منها الماء ملء سطل، فقال جدعون لله: لا تغضب عليّ دعني أتكلّم فقط هذه المرّة وأجرّب هذه المرّة أيضاً بجزّة الصّوف: ليكن على الجزّة وحدها جفاف وعلى الأرض حولها ندى..) قض6/ 36-40
ما هذا؟ لعبة؟ أليس هذا من صفات ضعاف الإيمان والموسوسين؟ ما فائدة "روح الربّ" إن لم تعصمه من خطأ كهذا؟!
ألم يقل موسى عليه السّلام: (لا تجرّبوا الربّ إلهكم) تث 6/ 16، وقالها المسيح عليه السّلام أيضاً: (لا تجرّب الربّ إلهك؟) لوقا 4/ 12
أضف إلى ذلك أنّه بعد كلّ جهاده وإنجازاته يصنع تمثالاً فيعبده بنو إسرائيل! قض 8/ 22-27،
فماذا قدّمت لهم "روح الرب" وماذا نالهم منها؟!
(وحلّ روح الربّ على يفتاح) قض 11/ 29
ويفتاح الجلعادي هذا قدّم ابنته محرقةً للربّ قض 11/ 30-39، وهو أمرٌ لم يأمر به الله تعالى بل هو يشبه أفعال الوثنيّين، وجلعاد نفسه أسف لذلك فلماذا لم تعصمه "روح الربّ" من هكذا جريمة في حقّ دينه ونفسه وابنته وأهله؟!
(وحلّ روح الربّ على شمشون) قض 13/ 25
وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: بأيّ حقٍّ قتل شمشون ثلاثين رجلاً من الفلسطيّين ليسلب ثيابهم؟ قض 14/ 19، هل هذه ثمار حلول روح الرب فيه؟!
شاول بين "روح الربّ" و"الروح الشرّيرة"!
وتحلّ من الربّ أرواحٌ شريرةٌ أيضاً كما حلّت على شاول –إحدى الشخصيات التي عملت المعروف ولم تكمله- وشاول هذا اختاره الله من بين جميع الناس ليكون ملكاً على بني إسرائيل ثمّ "ندم الرب" بعد ذلك، ففارقته روح الربّ وحلّت عليه روح شريرة 1صم 16/ 14، ولكنّ هذه الروح الشريرة علاجها سهل؛ الموسيقى! نعم كان داود يعزف له على العود فيستريح (وكان إذا اعترى شاول الروح الشّرّير من عند الله يأخذ داود العود ويضرب به فيستريح شاول وينتعش وينصرف الروح الشرير عنه) 1صم 16/ 23
والظّاهر أنّه لا فرق بين شخصية شاول حين كانت "روح الرب" حالّةً عليه وبين شخصيّته بعد أن فارقته وحلّت مكانها "الروح الشريرة"، فهناك كان مائلاً عن الربّ لا يطيعه وهنا هو مائلٌ عن الربّ ولا يطيعه. فما معنى هذا؟!
يا عمّي أشعر وكأنّ روحاً حائرةً مرتبكةً تحلّ عليّ حين أقرأ هذا، وليس لديّ عود، ولا عازفاً موهوباً كداود، حسناً الموسيقى قد تُنعِش وتنسي الهموم والغيتار ماشي حاله، ولكن لا يقشع ضباب الارتياب إلّا الكتاب المبين، الذي بيّن لنا على من تُلقى الرّوح فصدّقه الواقع ولم تناقضه الحقائق، بل أيّدته (يُنَزّلُ الملائكةَ بالرّوحِ من أمرهِ على من يشاءُ من عبادهِ أن أنذِروا أنّهُ لا إلهَ إلّا أنا فاتّقون 2) النحل، (يٌلقي الرّوحَ مِن أمرِهِ على من يشاءُ من عبادهِ لينذرَ يومَ التّلاقِ 15) غافر،
والرّوح هنا الوحي، وقد نزل على محمد صلى اللهُ عليه وسلّم فأدّى الأمانة وبلّغ الرّسالة كأحسن ما يكون الأداء وأبلغ ما يكون البلاغ، وكان قدوةً للعالمين، وكتبت لأتباعه أسباب السعادة والرّوح (النّصر): (أولئكَ كتبَ في قُلوبِهِمُ الإيمانَ وأيّدَهُم بِروحٍ منه) 22 المجادلة.
ولا يعني هذا أنّني أذمّ شخصيّات بني إسرائيل المذكورة، ربّما حلّت عليهم روح الربّ حقّاً وكانوا قوماً صالحين، ولكنّ صورتهم وصلت إلينا مشوّهةً كما شوّهت صورة الأنبياء عليهم السّلام، من يدري، بعض الكتبة ادّعوا أنّهم كتبوا الكتاب المقدّس بالوحي، ولكن يبدو أنّ ما يسمّونه وحياً لم يكن غير "أرواحٍ شرّيرة" حلّت عليهم جعلتهم يحرّفون ما استحفظوه من كتاب الله، حتّى غيّروا معالمه وضيّعوا مكامنه.
وصدق الله العظيم: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا 82) النساء
المفضلات