إن للكلمة القرآنية مزية لا تجدها في الكلمات التي يتكون منها كلام الناس وتعابيرهم مهما سمت في مدارج البلاغة والبيان.
فهي أولاً: تتناول من المعنى سطحه وأعماقه وسائر صوره وخصائصه، لا تقف عند العموميات التي تقف عند حدودها تعبيراتنا البشرية.
وهي ثانيًا: تمتاز عن سائر مرادفاتها اللغوية بتطابق أتم مع المعنى المراد، فمهما استبدلت بها غيرها، لم يَسُدَّ مَسَدَّها ولم يُغْنِ غَناءها، ولم يؤدِّ الصورة التي تؤديها.
ولك أن تسأل: إذا كانت اللغة ذاتها عاجزة عن التعبير عن جميع المعاني والمشاعر، فكيف يتأتى للقرآن أن يُسَخِّر كلماته لما وراء الحدود التي تقف عندها طاقة اللغة، وهو إنَّما يستعمل في تعبيراته اللغة ليس إلاَّ؟
والجواب: أن القرآن يتناول ـ كما سترى ـ من الكلمات المترادفة أدقَّها دلالة، وأتَمَّها تصويرًا بالنسبة إلى نظائرها، فإذا استنفدت اللغة طاقتها ولا تزال بقية من المعنى أو الصورة شاردة وراء حدود البلاغة، اتَّسَعَتْ لها الكلمة القرآنية وشملتها عن طريق ما تتسم به من جرس ووزن وإيقاع.
ولن تعثر مهما حاولت، على أي ضابط لهذا الجرس والوزن، والإيقاع، مؤملاً أن تطبقه في كلامك وتعبيرك. إنما هو الإحساس الذي يفيض به شعور القارئ عند تلاوته لهذه الكلمات أو سماعه لها مسبوكة مع بعضها، قائمة ضمن هيكلها القرآني الفريد.
فكلمة (أغطش) مثلاً في قوله تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} (النازعات: 29) متقاربة من حيث الدلالة اللغوية مع كلمة (أظلم)، ولكن "أغطش" تمتاز بدلالة أخرى من وراء حدود اللغة يستقل بها جرس الأحرف متآلفة مع بعضها، فالكلمة بهذه الدلالة تعبر عن ظلام انتشر فيه الصمت رغم الركود، وتَجلَّت في أنحائه مظاهر الوحشة. ولست بحاجة ـ لفهم هذه الصورة من الكلمة ـ إلى وساطة لغة أو مراجعة قاموس، وإنما هو إحساس ينبعث في نفسك من طبيعة الكلمة ووقع حروفها.
وكذلك كلمة "سَكَنًا" من قوله تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} (الأنعام: 96)، فهي من حيث الدلالة اللغوية متقاربة مع قولك: هدوءًا، طمأنينة. ولكن المعنى الذي تبثه في شعورك الكلمة القرآنية لا تجد شيئًا منه في غيرها مهما تَقارب معها في أصل الدلالة اللغوية تقاربًا يسمح بوقوع الترادف بينهما.
إن طبيعة الأحرف التي تتكون منها كلمة "سكنًا" مع توالي الفتحات على حروفها، تشعرك بذلك الهدوء الذي يبعث الطمأنينة وينشر الأمن والراحة في أنحاء النفس، دون أن تحتاج في ذلك إلى معرفة أي دلالة لغوية.
ثم حاول أن تحذف كلمة واحدة من كلمات هذه الآية، وأن تستبدل بها غيرها مِمَّا يؤدي المعنى ذاته، مستعينًا باللغة وقواميسها، فلسوف ترى أن اللغة كلها أعجز من أن تأتي بألفاظ مثلها أو خير منها في الدلالة على المعنى وتصوير الأحاسيس المطلوب تصويرها، ومهما غيرت في الآية أفسدت من بهائها ونقصت من روعتها وإشراقها، ابحث عن أي كلمة تقوم مقام "فالق" في أداء المعنى وتصوير المراد وتجسيم الفكرة، أو ابحث عن أي كلمة أخرى تضعها موضع "الإصباح" في دلالتها على الحركة والانبثاق وبث الصورة المطلوبة، أو حاول أن تأتي بكلمة أخرى مكان "سكنًا" أو بكلمة أخرى أدل وأخصر وأجمع من هذه الكلمة العجيبة "حسبانًا" فإنك لن تملك من ذلك كله إلا إفساد الآية وتشويه دلالتها.
وربما عجزت اللغة عن اللحاق بالصورة المحلِّقة التي يريد المتكلم أو الكاتب أن يبثها في خيال السامع، فاضطر أن ينزل عن بساط خياله المحلق، لحاقًا بكلمة تقف دون الصورة التي يريدها، لا يجد في اللغة سواها، فيفسد بها الصورة كلها.
غير أن القرآن لا يعجزه أن تكون الكلمة دائمًا في مستوى المعنى المراد، على أدق وجه، فهو يصعد باللغة إلى المعنى أو الصورة المطلوبة، ولا ينزل بالمعنى أو الصورة إليها في حال من الأحوال.
انظر حينما يصف البيان الإلهي دعوة امرأة العزيز للنسوة اللاتي يتحدثن منتقدات، عن مراودتها ليوسف عن نفسه، إلى جلسة رائعة مترفة في بيتها،لتطلعهن فيها على يوسف، فيعذرنها فيما أقدمت عليه. لقد قدمت لهن في ذلك المجلس طعامًا ولا ريب. ولقد أوضح القرآن هذا، ولكنه لم يعبر عن ذلك بالطعام، وهو اللفظ الذي لا بد أن يعبر به أو بنظيره أي واحد من الناس مهما امتلك ناصية البلاغة والبيان، لم يعبر البيان الإلهي بهذه الكلمة؛ لأنها إنما تصور شهوة الجائعين من حوله، وتنقل الفكر والخيال إلى (المطبخ) بكل ما فيه من ألوان الطعام وروائحه وأسبابه.
فبماذا عبر القرآن إذن؟ وأين في اللغة الكلمة التي تؤدي معنى الطعام ولا تمس الصورة بأي تعكير أو تشويه؟!
لقد أبدع القرآن في ذلك تعبيرًا عجيبًا رائعًا. فانظر ماذا قال: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف: 31).
(مُتَّكَأً) كلمة قرآنية، تصور لك من الطعام ذلك النوع الذي لا يقدم إلا ترفًا وتفكُّهًا وتجمُّلاً للمجلس، وتوفيرًا لمظاهر المتعة فيه، حتى إن الشأن فيه أن يكون الإقبال إليه على حالة من الراحة والاتكاء. والكلمة من الألفاظ الكثيرة التي أبدع القرآن صياغتها واشتقاقاتها فتعلق العرب بها من بعده، ولولا ذلك لما اهتدوا إليها ولخانتهم اللغة في هذا الباب عن تصوير ما يريدون.
ونظرًا إلى أن القرآن إنما تنزل خطابًا للناس جميعهم، على تفاوت ثقافاتهم واختلاف عصورهم، فإن الكلمة القرآنية تنطوي على دلالات متعددة، تستجيب للظروف كلها ولأحوال الناس كلهم، إذا كانت تلك الكلمة تتعلق بمعنى يختلف من عصر إلى آخر، أو يتفاوت فهم الناس له حسب تفاوت ثقافاتهم وعلومهم.
ومكان الغرابة والعجب في هذه الكلمات: أن دلالاتها لا تتناقض على الرغم من اختلافها، ولا يشرد شيء منها عن قواعد اللغة ومقتضياتها، فهي تحتضن في وقت واحد هذه الدلالات، لتقدم إلى كل عصر أو فئة من الناس ما هو أقرب إلى مألوف ذلك العصر أو ثقافة أولئك الناس. وجميعها دلالات صادقة صحيحة لا تنسخ واحدة منها الأخرى.
وأنت لو حاولت أن تلتقط من اللغة كلمات مرنة غنية بهذا الشكل، لرأيت أن الأمر يحتاج إلى جهد عظيم لا يمكن أن ترقى إليه طاقة البشر. مهما أُوتُوا من قوة الحفظ وسمو البيان.
من الأمثلة على ذلك أن القرآن حدثنا عن مظاهر نعم الله على عباده، ومن جملتها النار، فنبهنا إلى مختلف فوائدها لحياتنا، وأوضح أنها متاع يحتاج إليه في حالات السفر واجتياز القفار، ولتحضير الطعام، ولما وراء ذلك من أسباب المتعة والرفاهية. فكم هي الكلمات أو الجمل التي تفي بالتعبير عن هذه الفوائد كلها؟
إنها ليست أكثر من كلمة واحدة! واسمع في ذلك قول الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} (الواقعة: 71 ـ 73).
المقوين! هذه هي الكلمة التي تحمل المعاني كلها، فالـ (مقوين) جمع مُقْوٍ، أي نازل في القَوَاء (وهو المكان القفر) أو مجتاز به، وعليه قول النابغة:يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلياءِ فَالسََّنَدِ *** أَقوَتْ وَطالَ عَلَيها سالِفُ الأَبَدِ
والمقوين أيضًا من القَوَى وهو الجوع، وعليه قول حاتم الطائي:
وإنِّي لأختارُ القَوَى طاويَ الْحَشَا *** مُحاذَرَةً منْ أنْ يُقالَ لئيمُ1
والمقوين: أيضًا جمع مُقْوٍ بمعنى مستمتع، كما قال مجاهد، وعموم الاستمتاع في هذا المعنى الثالث إنما يفسره الزمن وتطور الأحوال وتقدم أسباب الحياة والعيش.
فهل يطيق بشر، كائنًا من كان، أن يُخضِعَ اللغة لمقاصده هذا الإخضاع العجيب، فيحشدَ مثل هذه المعاني المتباعدة في كلمة واحدة تأتي طوع قصده ومراده، بدون أي تَمَحُّل أو تكلُّف أو تقعُّر؟!
إن العقل لا يرتاب في أنها صنعة ربِّ العالمين وكلامه2.
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ
*************************
(1) لسان العرب (ق و ا).
(2) من روائع القرآن، د. محمد سعيد رمضان البوطي، ص 139ـ 143.
المفضلات