وردت الشبهة فى قوله تعالى ((وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ )) فزعموا أن يوسف عليه السلام عزم القيام بالفاحشة ، و ساعدهم على الإسهاب فى بهتانهم بعض الروايات الباطلة المنقولة عن مسلمة أهل الكتاب و بعض الصحابة أوردها و تبناها ابن جرير و صاحب الدر المنثور و غيرهما ، مفادها باختصار أن يوسف عليه السلام حل سراويله فصيح به: يا يوسف لا تكن كالطير له ريش فإذا زنى قعد ليس له ريش، و قيل : رأى كفاً مكتوباً عليها أيات قرأنية بالعبرية، و قيل : رأى صورة يعقوب على الحائط، بل و زعموا أنه لما لم يرعوا من رؤية صورة أبيه عاضاً على أنامله ضربه أبوه يعقوب فخرجت شهوته من أنامله !!
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
فإن هذه الروايات الباطلة لا تعدو أن تكون من أكاذيب و افتراءات الإسرائيليات و لم يصح أى من هذه الخرافات على الإطلاق على لسان رسول الله عليه الصلاة و السلام ، و إنما وردت موقوفة كما أن بعض طرقها تصل إلى وهب بن منبه و هو من مسلمة أهل الكتاب المشهورين بكثرة اسرائيلياتهم و كذا كعب الأحبار ، و كان ابن عباس و ابن عمر و غيرهم من الصحابة الكرام يحدثون عنهم أخذاً برخصة ذلك، حتى انه روى عن بعض الصحابة أنه كان يملك حمل بعيرين من كتب القوم! و هذه مسألة فصل فيها أئمة المحققين،
و قد نبه لهذا الامر ثلة من كبار المفسرين كالامام ابن كثير و القاسمى و السعدى و السنوسى و أبو السعود و الزمخشرى و غيرهم....، قال القاسمى{ هذا و قد ألصق بعض المفسرين المولعين برواية كل غث و ثمين ما تلقفوه من أهل الكتاب و بعض المتقولين من تلك الروايات الباطلة التى أنزه قلمى عن نقلها لردها، و كلها خرافات و أباطيل} و ليس أدل على بطلان هذه الرويات من تهافتها و اختلافها ، و الحق أبلج و الباطل لجلج ، و كذلك ينكشف زيفها من خلال الرواية الموضوعة الأخرى التى نسبت إلى النبى عليه الصلاة و السلام زوراً أنه لما قرأ: ((ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ)) قال: لما قال يوسف ذلك قال له جبريل: ولا يوم هممت بما همت به؟
و حاشا لله أن يكون رسول الله (ص) قد تلفظ بشىء من هذا العبث ، و هو الذى نزه اخوانه الأنبياء و أكرمهم فى كل موضع، و قال فى مديح صبريوسف على البلاء ((لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي)) و قال عليه الصلاة و السلام عن يوسف أيضاً ((فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله))
و قد نسى من دس هذه الرواية (الموضوعة) أن قوله تعالى ((ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)) ليست مقالة سيدنا يوسف عليه السلام و إنما هى مقالة امرأة العزيز ، و هو ما يتفق مع سياق الأية، ذلك: أن الملك لما أرسل رسوله إلى يوسف لإحضاره من السجن قال له: ارجع إلى ربك، فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن أيديهم فأحضر النسوة، و سألهن، و شهدن ببراءة يوسف، فلم تجد امرأة العزيز بداً من الإعتراف بفعلتها و أن يوسف هو الذى استعصم فلم تقع الفاحشة ((قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ )) فكل ذلك من قولها ، و لم يكن يوسف حاضراً بل كان فى السجن ، فكيف يعقل أن يصدر منه ذلك فى مجلس التحقيق الذى عقده العزيز؟
و قد انتصر لهذا الرأى السديد الإمام ابن تيمية و ألف فى ذلك تصنيفاً على حده، و قال الإمام ابن كثير فى تفسيره: {" ذَلِكَ لِيَعْلَم أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ " تَقُول إِنَّمَا اِعْتَرَفْت بِهَذَا عَلَى نَفْسِي لِيَعْلَم زَوْجِي أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ فِي نَفْس الْأَمْر وَلَا وَقَعَ الْمَحْذُور الْأَكْبَر وَإِنَّمَا رَاوَدْت هَذَا الشَّابّ مُرَاوَدَة فَامْتَنَعَ فَلِهَذَا اِعْتَرَفْت لِيَعْلَم أَنِّي بَرِيئَة " وَأَنَّ اللَّه لَا يَهْدِي كَيْد الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئ نَفْسِي " تَقُول الْمَرْأَة وَلَسْت أُبَرِّئ نَفْسِي فَإِنَّ النَّفْس تَتَحَدَّث وَتَتَمَنَّى وَلِهَذَا رَاوَدْته لِأَنَّ " النَّفْس لَأَمَّارَة بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِم رَبِّي " أَيْ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّه تَعَالَى " إِنَّ رَبِّي غَفُور رَحِيم " وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الْأَشْهَر وَالْأَلْيَق وَالْأَنْسَب بِسِيَاقِ الْقِصَّة وَمَعَانِي الْكَلَام وَقَدْ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ فِي تَفْسِيره وَانْتُدِبَ لِنَصْرِهِ الْإِمَام أَبُو الْعَبَّاس رَحِمَهُ اللَّه فَأَفْرَدَهُ بِتَصْنِيفٍ عَلَى حِدَة وَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَام يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول " قَالَ لِيَعْلَم أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي زَوْجَته " بِالْغَيْبِ " الْآيَتَيْنِ أَيْ إِنَّمَا رَدَدْت الرَّسُول لِيَعْلَم الْمَلِك بَرَاءَتِي وَلِيَعْلَم الْعَزِيز " أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ " فِي زَوْجَته " بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّه لَا يَهْدِي كَيْد الْخَائِنِينَ " الْآيَة وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الَّذِي لَمْ يَحْكِ اِبْن جَرِير وَلَا ابْن أَبِي حَاتِم سِوَاهُ قَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب حَدَّثَنَا وَكِيع عَنْ إِسْرَائِيل عَنْ سِمَاك عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ لَمَّا جَمَعَ الْمَلِك النِّسْوَة فَسَأَلَهُنَّ هَلْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُف عَنْ نَفْسه ؟ " قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوء قَالَتْ اِمْرَأَة الْعَزِيز الْآن حَصْحَصَ الْحَقّ " الْآيَة قَالَ يُوسُف " ذَلِكَ لِيَعْلَم أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ " فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام : وَلَا يَوْم هَمَمْت بِمَا هَمَمْت بِهِ ؟ فَقَالَ " وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي " الْآيَة وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعِكْرِمَة وَابْن أَبِي الْهُذَيْلِ وَالضَّحَّاك وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَالْقَوْل الْأَوَّل أَقْوَى وَأَظْهَر لِأَنَّ سِيَاق الْكَلَام كُلّه مِنْ كَلَام اِمْرَأَة الْعَزِيز بِحَضْرَةِ الْمَلِك وَلَمْ يَكُنْ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام عِنْدهمْ بَلْ بَعْد ذَلِكَ أَحْضَرَهُ الْمَلِك }
التفسير الصحيح للأية:
- بدأت الأيات الكريمات بقوله تعالى ((وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ)) قال أبو السعود: قوله (معاذ الله) يعكس تقوى قلبه و هو اجتناب منه على أتم الوجوه و إشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، و هذا من شفافية نفس يوسف الزكية فقد أراه الله القبيح فى صورته الحقيقية ، و ذلك ما يفتقر إليه الكثيرون لذا جاء فى دعاء أبى بكر الصديق رضى الله عنه ((اللهم أرنا الحق حقاً. و ارزقنا اتباعه و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه.))
وقوله ((إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)) فيه تمام الإعتراف بفضل الله و استحضار مراقبته و خشية عقابه لذا قال بعدها ((إنه لا يفلح الظالمين))، و قيل : الضمير يعود على العزيز و و لو كان كذلك فهو إنتقال سديد لذكر بعض أسباب الإمتناع المقنعة لامرأة العزيز ، فكيف تطلبين منى خيانة سيدى الذى أكرمنى و كفلنى فى بيته و طالبك بإكرامى و أنت زوجته؟ فكانت هذه الكلمات الموجزة أدق أرشاد لها بألطف طريقة
- و قوله تعالى (( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)) الهم هو أول العزيمة و أعلاه الهمة، قال البغوى: الهم همان (1) هم ثابت معه عزم و رضا و هو مذموم مأخذ به و هذا هو مقصود امرأة العزيز (2) و هم هو الخاطر و حديث النفس بغير تصميم و هو غير مأخذ به ، قال أبو السعود: { همه بها: ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية ميلاً جبلياً لا يكاد يدخل تحت التكليف لا أنه قصدها قصداً إختيارياً، ...و الأنبياء ليسوا معوصومين من حديث النفس و الخواطر الجبلية و لكنهم معصومون من طاعتها و الإنقياد إليها و لو لم توجد لديهم دواعى جبلية لكانوا إما ملائكة و إما عالم أخر ، و لا يصلحون قدوة للبشر حينئذ، و لما كانوا مأجورين على ترك الملاهى لأن الترك مع وجود الداعى هو العمل المتعبد به المشتمل على جهاد النفس }
و قوله (هم) بعد (همت) من قبيل المشاكلة اللفظية مع اختلاف الدلالة المعنوية و هذا كقوله تعالى (( و مكروا و مكر الله )) و قوله ((و جزاء سيئة مثلها..)) و قيل: العبارة فيها تقديم و تأخيرو هو أسلوب مشهور فى لسان الكوفيين و أعلام البصريين فيكون المعنى (( لولا أن رءا برهان ربه لهم بها)) ، فقوله تعالى ((و هم بها)) جواب مقدم، قال ابن حيان و غيره: { أى قاربت الإثم لولا أن الله عصمك }
و معروف فى العربية أن (لولا) حرف امتناع لوجود، أى امتناع الجواب لوجود الشرط، فيكون الهم ممتنعاً لوجود البرهان الذى ركزه الله تعالى فى فطرته، و المقدم إما الجواب أو دليله على خلاف بين النحويين
- و قوله تعالى ((كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء )) قال العلامة أبو السعود: { هذه أية بينة و حجة قاطعة على أن يوسف لم يقع منه هم بالمعصية ولا توجه إليها قط} و لنتامل بلاغة النص القرأنى إذ لم يقل ((كذلك لنصرفه عن السوء و الفحشاء)) لأن هذا المعنى يفيد أنه ذهب إلى الفحشاء فصرفه الله عنها ، لذا قال تعالى ((كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء)) و هذا دليل عدم إقدامه على السوء قط بل إن الله صرف السوء عنه,و كذلك المغايرة بين السوء و الفحشاء يبرىء يوسف من كل شبهة ، لأن الفحشاء هى الإثم الكبير و السوء لفظ أعم يضم الفواحش و غيرها، و قد أخبر الله تعالى أنه صرف عنه كليهما، فيوسف عليه السلام لم يرتكب الزنا ولا مقدماته
- و قوله تعالى (( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)) دليل قاطع على أن الأنبياء الذين هم صفوة عباد الله المخلصين الطاهرين يعصمهم تعالى من إرتكاب الفواحش، و هذه الأية لا تزكى
المفضلات