-
اسرار القران (160)
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة
اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين*
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل سورة الأعراف, وهي سورة مكية, وآياتها(206) بعد البسملة, وهي أطول سور القرآن الكريم بعد البقرة, وأطول السور المكية علي الإطلاق, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي الأعراف وهي أسوار مضروبة بين كل من الجنة والنار للحيلولة بينهما.
ويدور المحور الرئيسي لسورة الأعراف حول الركائز الأساسية للعقيدة الإسلامية والتي لخصتها في ردود أربعة من رسل الله( سبحانه وتعالي) علي أقوامهم وهم نوح, وهود, وصالح وشعيب( علي نبينا وعليهم من الله السلام) وذلك بالمنطق السديد الذي عبر عنه القرآن الكريم بقول كل واحد منهم لقومه:
... ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...*
وقد أتبع كل واحد من هؤلاء الأنبياء تلك النصيحة الغالية بتحذير شديد من مغبة الخروج عليها أو الحيود عنها, أو بتقريع صاعق للخارجين فعلا عليها, وذلك من مثل قول نبي الله نوح( عليه السلام) لقومه:... إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم..*( الأعراف:59), وقول نبي الله هود( عليه السلام) لقومه:... أفلا تتقون*( الأعراف:65). ومن مثل قول كل من نبي الله صالح ونبي الله شعيب( عليهما من الله السلام) كل إلي قومه:... قد جاءتكم بينة من ربكم..*( الأعراف:85,73). وقد فصلت سورة الأعراف قصص هؤلاء الأنبياء الأربعة تفصيلا بينا.
وتبدأ سورة الأعراف بأربعة من الفواتح الهجائية هي( ا ل م ص), وقد سبق لنا تفصيل أقوال المفسرين فيها. وبعد هذا الاستهلال خاطبت الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) موصية إياه بألا يتحرج من التبليغ بالقرآن الكريم والإنذار به, وجعله ذكري للمؤمنين. ونادت علي الناس جميعا بضرورة اتباع الهداية الربانية التي أنزلت إليهم في الرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم), محذرة إياهم من اتخاذ أولياء من دون الله( سبحانه وتعالي) فيقعون في أدران الشرك وظلماته, لأن الناس قليلا ما يتذكرون إلا بعد فوات الأوان, وفي ذلك تقول الآيات: وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون* فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين* فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين* فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين*( الأعراف:4 ــ7).
ثم ذكرت الآيات بموقف الحساب يوم القيامة وبمصائر كل من المفلحين والخاسرين فتقول:
والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون*( الأعراف:9,8).
وأشارت الآيات إلي فضل الله( تعالي) علي عباده بتمكينهم في الأرض تمكينا يستوجب الحمد والشكر, وذلك بتذليلها وتسخير كل شئ فيها لهم, ثم شرعت في استعراض قصة البشرية مممثلة في خلق أبينا آدم( عليه السلام), وفي صلبه جميع نسله فردا فردا إلي يوم الدين بصفات كل فرد المميزة له, وأمر الله( تعالي) الملائكة أن تسجد لآدم.. فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين*( الأعراف:11).
وخلق الله( سبحانه وتعالي) من آدم زوجه ليسكن إليها, وليكون له منها النسل إلي يوم الدين.
وسجود الملائكة لأبينا آدم( عليه السلام) هو أولا: طاعة لأمر الله( سبحانه وتعالي), وهو ثانيا: تكريم لآدم الذي أراد الله( تعالي) إكرامه ورفعه وتفضيله, وتفضيل نسله علي كثير ممن خلق تفضيلا, فخلقه( تعالي) بيديه, ونفخ فيه من روحه, وعلمه الأسماء كلها, وأسجد له ملائكته, وخلق زوجه منه, وأسكنهما الجنة, وأثبت في محكم كتابه قوله العزيز:
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا*.( الاسراء:70)
وصورت الآيات بعد ذلك حقد الشيطان علي أبينا آدم( عليه السلام) وتآمره ضده وتوعده له ولذريته من بعده فطرده الله( تعالي) من الجنة, وأمهله حين طلب النظرة إلي يوم البعث.
وقد ابتلي أبونا آدم وأمنا حواء بالاختبار الذي أخرجهما من الجنة بعد توبة الله( سبحانه وتعالي) عليهما, والهبوط بهما إلي الأرض لتبدأ بهما رحلة الحياة والموت, ومن بعدهما البعث, والنشور, والحساب, والجزاء بالخلود, إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا.
وفي سياق هذه السورة المباركة يأتي تحذير الله( سبحانه وتعالي) لعباده من الشيطان وجنوده وأعوانه وفتنه ودسائسه, ويوصيهم ربهم بما يحفظهم من كل ذلك, ويحل لهم ربهم الطيبات, ويحرم عليهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن, والإثم والبغي بغير الحق وذلك من مثل الشرك بالله( تعالي أو الكفر به, أو التقول عليه بغير علم, أو التكذيب بآياته ورسله, وغير ذلك من الاعتقادات الفاسدة, والسلوكيات الهابطة التي تودي بصاحبها إلي جهنم وبئس المصير..!!
ثم تنتقل الآيات إلي استعراض موقف من مواقف يوم القيامة وأهل الجنة في الجنة, وأهل النار قد ألقوا فيها, وأهل الأعراف علي الأسوار الفاصلة بينهما, وتستمر الآيات في ذكر شيء من أفضال الله( سبحانه وتعالي) علي عباده ــ وما أكثرها ـ وتخلص إلي الدعوة بالالتجاء دوما إلي الله( تعالي) بالدعاء والضراعة سرا بخشوع وخضوع تامين لأنه( سبحانه وتعالي) لايحب المتشدقين برفع الأصوات في الدعاء رياء وتظاهرا, وفي ذلك تقول الآيات:
ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لايحب المعتدين* ولاتفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين*.( الأعراف:56,55).
ومن قبيل التثبيت لرسول الله( صلي الله عليه وسلم), والتعليم لأتباعه من بعده عرضت سورة الأعراف لقصص عدد من المرسلين, وتفاعل أقوامهم معهم, وجزاء هؤلاء الأقوام, وفي ذلك ما يؤكد علي وحدة رسالة السماء, وعلي الأخوة بين الأنبياء.
وفي سياق هذا القصص القرآني فصلت سورة الأعراف قصة سيدنا موسي( عليه السلام) مع فرعون وملئه, عارضة أخذ الله( تعالي) آل فرعون بالسنين والآفات, ثم إغراق فرعون وجنده.
كذلك أكدت الآيات في هذه السورة المباركة انحراف بني اسرائيل عن منهج الله, بعبادة العجل, ثم صلفهم بطلب رؤية الله جهرة, ودك الجبل بهم عقابا علي ذلك الصلف, وتنزيل الألواح علي موسي, وصعق قومه في الميقات الثاني, وعصيانهم عن دخول القرية, وتحايلهم من أجل الصيد في يوم السبت وقد كان ذلك محرما عليهم, ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة, ومسخ الفاسقين الظالمين منهم قردة وخنازير, والقرار الإلهي ببعث من يسومهم سوء العذاب إلي يوم القيامة, وتشريدهم في الأرض, عقابا لهم علي إجرامهم وإفسادهم في الأرض, وتحريفهم كلام الله( تعالي).
وتتابع الآيات في سورة الأعراف الإشارة إلي الرسالة الخاتمة وذلك في الرد علي نبي الله موسي( عليه السلام) وهو يتضرع إلي الله( تعالي) ألا يهلكه بما فعل السفهاء من قومه.
ثم تأتي البشري الإلهية بمقدم خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) وتأمره الآيات بالإعلان عن عالمية رسالته السماوية الخاتمة وذلك بالأمر الإلهي إليه الذي نصه:
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون*.( الأعراف:158)
وتؤكد سورة الأعراف حقيقة العهد الذي أخذه ربنا( تبارك وتعالي) علي جميع بني آدم وهم في عالم الذر في أصلاب آبائهم وأشهدهم علي أنه لا إله إلا الله, وأنه لارب ولا معبود سواه فتقول:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين*( الأعراف:172).
وتضرب هذه السورة الكريمة مثلا للذي آتاه الله( تعالي) آياته فكذب بها, وانسلخ منها, فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين فأصبح كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث, وتؤكد أن الهداية من الله( سبحانه وتعالي) وتدعو إلي استخدام الحواس التي وهبها ربنا( تبارك وتعالي) للإنسان إلي أبعد مدي, وتدعو المؤمنين بالمداومة علي ذكر الله بأسمائه الحسني وصفاته العليا, وبمقاطعة الذين يلحدون في أسمائه.
وتؤكد الآيات دور خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) بأنه النذير المبين, والبشير للمؤمنين, وتدعو إلي النظر في ملكوت السماوات والأرض وماخلق الله من شئ غيرهما, وتحذر من اقتراب الأجل, ومن فجائية الساعة التي علمها عند الله وحده ولكن أكثر الناس لايعلمون. وتذكر الآيات علي لسان الرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) أنه لا يملك النفع والضر ولا يعلم الغيب إلا الله, وتنهي عن الشرك بالله( تعالي), وتأمر بمكارم الأخلاق وبحسن الاستماع إلي القرآن الكريم إذا قرئ, وبذكر الله في النفس تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال تشبها بملائكة الله( سبحانه وتعالي) الذين لايستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون, ومن هنا تختتم هذه السورة الكريمة بسجدة من سجدات التلاوة, تأكيدا علي توحيد الله( سبحانه وتعالي) والخضوع له وحده بالطاعة والعبادة, كما بدأت بتوحيده, وبالتأكيد علي تفرده( سبحانه) بالألوهية, والربوبية, والخالقية, وبالتأكيد علي صدق الوحي بالقرآن الكريم, وبصدق نبوة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين.
من ركائز العقيدة الإسلامية في سورة الأعراف
(1) الايمان بالله( تعالي) ربا واحدا أحدا, فردا صمدا, وبالإسلام دينا واحدا, أنزله الله( تعالي) علي عدد كبير من الأنبياء والمرسلين, وأتمه في بعثة خاتمهم أجمعين.
(2) التصديق بالقرآن الكريم وحيا خاتما من رب العالمين, محفوظا بحفظه في نفس لغة وحيه علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية وإلي أن يرث الله( تعالي) الأرض ومن عليها.
(3) اليقين بأن الله( تعالي) الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته منزه عن الشريك, والشبيه, والمنازع, والصاحبة والولد, لأن هذه كلها من صفات المخلوقين, والله( سبحانه وتعالي) منزه تنزيها كاملا عن جميع صفات خلقه.
(4) التسليم بضرورة الحساب والجزاء, والتصديق بجميع صور العذاب الذي أنزله الله( تعالي) بالكفار والمشركين والعصاة المتمردين من الأمم السابقة.
(5) الايمان بحتمية البعث بعد الموت, وبضرورة الحساب والجزاء في الآخرة, واليقين بالجنة والنار وبما في كل منهما من صور الجزاء التي أوضحها القرآن الكريم, وفسرتها سنة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم).
(6) الخضوع لله( تعالي) بالعبادة والطاعة, والمواظبة علي تسبيحه وتحميده وتمجيده وشكره علي كل نعمة أنعم بها علي عباده, ومداومة ذكره بأسمائه الحسني وصفاته العليا, تضرعا وخفية ودون الجهر من القول.
(7) اليقين بأن الله( سبحانه وتعالي) هو خالق كل شيء, وبأن الإنسان مخلوق مكرم مادام خاضعا بالطاعة والعبادة لله( تعالي), وما دام مستقيما علي المنهج الذي وضعه له الله, ومتأسيا بسنة رسول الله( صلي الله عليه وسلم).
(8) التصديق بمحاولة الشيطان غواية أبوينا آدم وحواء( عليهما السلام) عند بدء خلقهما, وبأنهما تابا إلي الله( تعالي) وأنابا, وأن الله( سبحانه وتعالي) قد قبل توبتهما, وأن أحدا من ذريتهما لا يحمل شيئا من وزرهما الذي غفره الله( جل جلاله) لهما بواسع رحمته.
(9) اليقين بأن الشرك بالله كفر به, وكذلك التقول علي الله( سبحانه وتعالي) بما لم ينزل به سلطانا, وبأن الخوض في الفواحش ما ظهر منها وما بطن, وفي الإثم والبغي بغير الحق خروج علي أوامر الله ومنهجه, وكذلك الاسراف والافساد في الأرض.
(10) الايمان بأن كلا من الأجل والرزق محدد سلفا لكل فرد من قبل خروجه إلي مسرح الحياة, وعليه فإن المسلم لا يخشي علي الرزق, ولا يخاف الأجل, ومن ثم لا يجبن بسبب ذلك أبدا.
(11) التسليم بأن خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) هو بشير ونذير مبين للناس جميعا, وأن ذكره العطر قد جاء في كتب الأولين من الأنبياء والمرسلين, وأن انكار نبوته أو التنكر لرسالته هو من الكفر بالله الذي يحبط الأعمال في الدنيا والآخرة ويردي في نار الجحيم.
من الدلالات اللغوية للآية الكريمة
في قوله تعالي: ولقد خلقناكم ثم صورناكم....*
(الواو) من حروف العطف, تجمع بين الشيئين ولا تدل علي الترتيب. و(اللام) من حروف الزيادة, وهي هنا للتأكيد. و(قد) ـ بالتخفيف ـ حرف لا يدخل إلا علي الأفعال, خاصة الفعل الماضي لاثبات سبقه لفعل ماض آخر, والنحويون يقولون هو للتوقع, والحقيقة أنه إذا دخل علي فعل ماض فإنه يدخل علي كل فعل متجدد, وذلك من مثل قوله( تعالي):
لقد من الله علي المؤمنين إذا بعث فيهم رسولا من أنفسهم..*( آل عمران:164).
وقوله( عز من قائل):
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة..*( الفتح:18).
وقوله( سبحانه وتعالي):
قد كان لكم آية في فئتين التقتا..*
( آل عمران:13).
وإذا دخل الحرف( قد) علي الحاضر أو المستقبل من الفعل فإن ذلك الفعل يكون في حالة دون حالة وذلك من مثل قوله( تعالي): قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا.*
(النور:63).
أي الذين قد يتسللون أحيانا فيما علم الله( سبحانه وتعالي). ولا يصح استخدام الحرف( قد) في الأوصاف الذاتية لله( تعالي) فيقال كما قال الله( سبحانه وتعالي)... وكان الله عليما حكيما*
( النساء:17)
ولا يقال: وقد كان الله عليما حكيما لأن هذا النص يوحي بانقضاء العلم والحكمة, وصفات الله الباقي لا تنقضي أبدا لأنه خالق كل من الزمان والمكان ليحد بهما مخلوقاته, ويبقي( جل جلاله) فوق كل من المكان والزمان والمادة والطاقة التي خلق منها الخلق, وكلها من مخلوقاته, والمخلوق لا يحد خالقه أبدا.
أما عن الفعل( خلقناكم) فأصل( الخلق) هو الابداع والتقدير الدقيق المستقيم, ويستعمل في التعبير عن الابداع للشيء علي غير مثال سابق أي من غير أصل ولا احتذاء, وذلك من مثل قوله( تعالي): وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق..*
( الأنعام:73)
أي أبدعهما علي غير مثال سابق بدلالة وصفه لذاته العلية بصفة:
بديع السماوات والأرض..*( البقرة:117).
ويستعمل الفعل( خلق) في التعبير عن إيجاد شيء من شيء آخر وذلك من مثل قوله( تعالي):
... الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها.*( النساء:1)
و(الخلق) الذي يقصد به الابداع( أي الايجاد من العدم علي غير مثال سابق) لا يكون إلا لله( سبحانه وتعالي) ولذلك وصف ذاته العلية بـ( الخالق) و(الخلاق), وفرق بين الخالق والمخلوق بقوله العزيز: أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون*
( النحل:17)
وفعل( الخلق) لا يستخدم في حق المخلوقين إلا علي وجهين أحدهما يعني التقدير لشيء من شيء آخر, والثاني في التعبير عن الكذب ويسمي( الاختلاق) بمعني الافتراء, وذلك من مثل قوله( تعالي): إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا..*
(العنكبوت:17).
أما قوله( تعالي):.... فتبارك الله أحسن الخالقين* فمعناه أحسن المقدرين لأن الله( سبحانه وتعالي) هو خالق كل شيء, وغيره لا يخلق وإن استطاع التقدير.
ولفظة( الخلق) تقال في معني( المخلوق), ولفظتا( الخلق) و(الخلق) في الأصل واحد ولكن خصت لفظة( الخلق) بالهيئات والأشكال المدركة بالبصر, وخصت لفظة( الخلق) بالسجايا المدركة بالبصيرة أي( الأخلاق), و(الخلاق) هو ما يكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه, و(الخليقة) و(الخلائق) هم خلق الله, و(الخلقة) هي الفطرة.
يقال: فلان( خليق) بكذا أي جدير به, كأنه مخلوق فيه ذلك, أو كأنه مجبول بفطرته علي ذلك أي مدعو إليه بالفطرة, و(الخلاق) هو النصيب, و(الخلوق) ضرب من الطيب.
(صور) هذا الفعل معناه صنع( صورة) و(الصورة) هي الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة التي خص بها كل مخلوق أو هي الهيئة التي يوجد عليها الشيء ومنها المحسوس الذي يدركه كل من الخاصة والعامة بالمعاينة والمشاهدة الحسية وذلك من مثل الصور المادية الملموسة المجسمة لكل من الانسان والحيوان والنبات والجماد, ومنها الصور المستنتجة, غير المدركة بالحس كالصور الضمنية التي اختص الانسان بها من مثل ما وهبه الله( تعالي) من قدرات الذكاء, والإدراك, والمشاعر, والأحاسيس, والانفعال, والتعبير والقدرة علي كسب العلم والمهارات وتعليمهما, وغير ذلك من المعاني التي اختص الله( سبحانه وتعالي) بها الانسان. وقد أشار القرآن الكريم إلي هاتين الصورتين بقول ربنا( تبارك وتعالي):
(1) هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لاإله إلا هو العزيز الحكيم*( آل عمران:6)
(2) ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدواإلا إبليس لم يكن من الساجدين*( الأعراف:11)
(3)... وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات.*( غافر:64)
(4) الذي خلقك فسواك فعدلك* في أي صورة ماشاء ركبك*( الانفطار:8,7).
ووصف ربنا( تبارك وتعالي) ذاته بـ المصور فقال( عز من قائل):
ـ هو الله الخالق الباريء المصور له الأسماء الحسني..*( الحشر:24).
وجمع( الصورة)( الصور) بضم الصاد وكسرها. يقال( صوره)( تصويرا)( فتصور), وتصورت الشيء توهمت( صورته)( فتصور) لي, و( التصاوير) هي التماثيل.
و(السجود) أصله الخضوع والتطامن والتذلل لله( تعالي) وعبادته بما أمر, ومنه( سجود) الصلاة وهو وضع الجبهة علي الأرض, وهناك السجود الإرادي, الاختياري للمخلوقات المكلفة ذات الإرادة الحرة كالإنس والجن, والسجود الفطري التسخيري وهو للمخلوقات غير المكلفة.
من الدلالات العلمية للآية الكريمة
أولا: إدراك حقيقة قوانين الوراثة التي ترد الناس جميعا إلي أب واحد:
فالخطاب في الآية الكريمة التي نحن بصددها موجه إلي الناس كافة بقول ربنا( تبارك وتعالي):
ولقد خلقناكم ثم صورناكم..*( الأعراف:11)
وتؤكده الآية السابقة مباشرة والتي يقول فيها الحق( جل جلاله):
ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون*( الأعراف:10)
ولكن تكملة الآية الحادية عشرة تتحدث عن أبينا آدم( عليه السلام) مما يشير إلي حقيقة أن ذريته جميعا كانوا في صلبه لحظة خلقه بدليل قوله تعالي في نفس السورة:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين*( الأعراف:173)
وبدليل قوله( عز من قائل) في نفس السورة أيضا:
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها.*( الأعراف:189)
ودراسات الوراثة تؤكد هذه الحقيقة, فالشيفرة تتكدس في حيز لا يتعدي واحدا من المليون من الملليمتر المكعب في داخل نواة الخلية, والخلية الحية في جسم الإنسان لا يتعدي قطرها(0,03 ـ مم) في المتوسط, وتحتوي هذه الشيفرة علي46 جسيما صبغيا يتكون كل منها من تجمعات لعدد من البروتينات والحمض النووي المشكلة في هيئة لفائف مزدوجة الجانب لافة حول محور وهمي علي هيئة حلزونية تعرف باسم لفائف الحلزون المزدوج للحمـض النووي الريبي غير المؤكسد(DoubleHelixDNAStrandsorTemplets) ويبلغ سمك جدار هذه اللفيفة(50/1 مليون مم), ويبلغ قطرها(500,000/1 مم), ويصل طولها إذا فردت إلي قرابة المترين, وتحمل كل واحدة منها ما يزيد علي الأربعمائة مليون قاعدة كيميائية(404,347,800*46 صبغي=18,6 بليون قاعدة كيميائية) مرتبة ترتيبا محكما دقيقا, لو اختلت قاعدة واحدة منها عن مكانها فإن هذا البناء ينهار تماما أو يشوه. ويقسم كل صبغي علي طوله بعدد من العلامات المميزة(Markers) إلي عدد من المورثات(Genes) تنتشر علي مسافات محددة من بعضها البعض, ويحمل كل منها عددا من الأوامر لإنتاج كل من الأحماض الأمينية والإنزيمات والهرمونات والمضادات الحيوية وغيرها من البروتينات اللازمة لبناء مختلف خلايا الجسم, كما يتحكم كل مورث في عدد من صفات وأنشطة الجسم بما يميزه عن غيره من البشر. وقد وهب الله( سبحانه وتعالي) الخلية الواحدة من خلايا جسم الإنسان القدرة علي إنتاج أكثر من مائتي ألف نوع من أنواع البروتينات اللازمة لبناء جسمه والتي تحضر بأوامر من الشيفرة الوراثية داخل جسيمات ميكروسكوبية خاصة من عضيات الخلية الحية تعرف باسم الريباسات(Ribosomes).
وتحتوي كل خلية من خلايا جسم الإنسان علي(46) صبغيا موزعة في(23) زوجا منها(22) زوجا مهمتها الانقسام المتكرر لبناء مختلف خلايا الجسم, وزوج واحد من هذه الصبغيات للتناسل يتكون من صبغيين متماثلين في الأنثي(XX) وغير متماثلين في الذكر.(XY) وفي الوقت الذي يتم فيه انقسام الخلايا الجسدية انقساما طوليا يعرف باسم الانقسام الفتيلي(Mitosis) يحافظ علي عدد الصبغيات في كل خليتين وليدتين بالانقسام, فقد شاءت إرادة الخالق العظيم أن تتكون الخلايا التناسلية من الخلايا الجسدية بانقسام انتصافي(Meiosis) ليعطي لكل خلية تناسلية نصف عدد الصبغيات في الخلية الجسدية حتي إذا ما اتحدت خليتان تناسليتان إحداهما مذكرة والأخري مؤنثة تكامل عدد الصبغيات المحدد للنوع في النطفة الأمشاج.
ويبدأ تخلق جنين الإنسان من اندماج نطفتي الزوج والزوجة لتكوين النطفة الأمشاج التي تنشط في الانقسام فتكرر ذاتها لمرات عديدة مكونة التويتة(Morula) التي تتحول إلي الكرة الأرومية بمزيد من الانقسام ثم تنغرس ببطانة الرحم لتنمو في عدد من الأطوار المحددة حتي يتم الوضع.
وبالرجوع بعمليات انقسام الخلايا التناسلية إلي الوراء مع الزمن فإن نسل أبينا آدم كله( بالبلايين التي تملأ جنبات أرض اليوم, والبلايين التي عاشت من قبل وماتت, وتلك التي سوف تخلق إلي قيام الساعة) يلتقي في صلبه لحظة خلقه, ومن هنا فإن الخطاب الموجه إليه في الآية الكريمة التي نحن بصددها كان موجها إلي جميع نسله من لحظة خلقه إلي قيام الساعة. وعلي ذلك فإن المقصود بقول ربنا( تبارك وتعالي): نحن خلقناكم هو خلق آدم عليه السلام من طين ثم اكرامه بنفخة الروح فيه, وخلق جميع ذريته في صلبه لحظة خلقه.
وقوانين الوراثة لم تدرك تفاصيلها إلا في أوائل القرن العشرين, والإشارة إليها في هذه الآية الكريمة وأمثالها مما يقطع بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق, ويشهد بالنبوة وبالرسالة للنبي الخاتم الذي تلقاه فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين.
ثانيا: الإشارة إلي تقدير صفات الجنين في بطن أمه عبر مراحل متتالية بوصف التصوير:
وذلك انطلاقا من قول ربنا( تبارك وتعالي): ثم صورناكم أي قدرنا صفاتكم الوراثية تقديرا كاملا وأنتم في عالم الذر في صلب أبيكم آدم( عليه السلام) حتي تكونوا علي صورته, ووضعنا الأوامر بذلك في الشيفرة الوراثية الخاصة بكل منكم حتي يخرج إلي الحياة علي الصورة التي حددنا لكل فرد واحد منكم, وقد جاء ذلك في وقت سيادة الخرافات والأساطير عن خلق الجنين كاملا بصورة مصغرة في ماء الرجل والتي سادت حتي أواخر القرن السابع عشر الميلادي(1694 م), أو في ماء المرأة كما ساد حتي أواسط القرن الثامن عشر الميلادي(1745 م) واستمرار المعارك الطاحنة بين أنصار كل من هاتين الأسطورتين حتي ثبت دور كل من الذكر والأنثي في تكوين الجنين وذلك في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي, ولم يتم الإجماع علي ذلك إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين, وقد نزل القرآن الكريم من قبل أربعة عشر قرنا مؤكدا هذه الحقيقة, وواصفا مراحل خلق الجنين البشري بدقة وشمول يفتقر إليهما العلم الحديث في قمة من قمم العلم الكسبي, وأجمل ذلك في التعبير القرآني ثم صورناكم الذي جاء في الآية الكريمة التي نحن بصددها.
فربنا( تبارك وتعالي) قد قدر صفات كل فرد من بني آدم في علمه الأزلي, وضمن صلب أبينا آدم( عليه السلام) تلك الصفات لحظة خلقه, وأظهرها في الوقت الذي حدده لظهورها علي هيئة شيفرة مبرمجة نصفها في صلب الأب الموعود, ونصفها الآخر في صلب الأم المحددة, فإذا التقيا في زواج تكاملت الصفات المحددة في النطفة الأمشاج المحددة التي تستقر في الرحم فتمر بعدد من المراحل المقدرة بدقة فائقة( العلقة, المضغة, وفيها تنفخ الروح, ثم تخلق العظام وتكسي لحما, ثم ينشأ الجنين خلقا آخر) ومن الأمور المبهرة حقا في تلك المراحل الاختيار الدقيق لنطفة محددة من بلايين النطف التي يهبها الخالق العظيم للزوج لتلتقي مع بييضة محددة من بين بلايين البييضات التي يهبها للزوجة لتتخلق منهما نطفة أمشاج محددة الصفات مسبقا في علم الله الحكيم الخبير.
ثم الانقسامات السريعة للنطفة الأمشاج لتكوين التويتة ثم الكرة الأرومية التي هيأها الله( تعالي) بعدد من الخلايا الآكلة التي تحفر لها طريقا في بطانة الرحم فتنغرس فيه وتتشبث به لكي تتغذي علي دم الأم بعد نفاد غذائها فتأخذ طور العلقة, ثم يظهر الشريط الأولي علي سطحها فتتخلق عبره كل خلايا وأنسجة وأعضاء وأجهزة الجسم عبر الخلايا الجذعية للكرة الأرومية والتي وهبها الخالق العظيم قدرات فائقة علي التشكل والتكيف لكل عضو حسب وقت ظهوره, وهو ما وصفه الخالق( سبحانه وتعالي) بقوله العزيز: ثم صورناكم علي مستوي الصفات المحددة في المورثات وهو أمر مقدر سلفا, ثم علي مستوي الخلايا والأنسجة والأعضاء يتم عبر الأطوار المتتالية التي حددها القرآن الكريم بدقة بالغة قبل أن تصل العلوم المكتسبة إلي معرفة شيء عنها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
والجنين البشري لا يبدأ في اكتساب الملامح الإنسانية إلا بعد نفخ الروح فيه بنهاية الأسبوع السادس, وتبقي المرحلة إلي وضع الجنين( بنهاية الاسبوع الثامن والثلاثين) مرحلة للنمو والتكامل في بناء الأعضاء والأجهزة المختلفة. وهذه الأطوار من النطفة الأمشاج إلي اكتمال نمو الجنين هي مرحلة التصوير التي قدرها الخالق( سبحانه وتعالي) في الشيفرة الوراثية التي كانت في صلب أبينا آدم( عليه السلام) وفرده وأطلقها إلي حيز الوجود عند لحظة نخلق كل فرد من بن آدم التي ذكرتها الآية الكريمة.
هذه الحقائق العلمية عن مراحل الجنين في الإنسان والتي لا يتعدي طول بعضها أجزاء من الملليمتر لم تصل إليها العلوم المكتسبة إلا في القرن العشرين, وتفصيل القرآن الكريم لها من قبل أربعة عشر قرنا في زمن لم تتوافر أية وسيلة من وسائل التكبير أو التصوير أو الكشف العلمي لمما يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه( اللغة العربية) وحفظه حفظا كاملا: كلمة كلمة وحرفا حرفا حتي يبقي حجة علي جميع الخلق إلي يوم الدين, فالحمد لله علي نعمة القرآن الكريم, والحمد لله علي نعمة الإسلام العظيم, والصلاة والسلام علي أنبياء الله أجمعين, وعلي رأسهم خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد النبي الأمين الذي ختم الله ببعثته النبوات, ليكون رسول الله للناس كافة, وبه أكمل الدين, وأتم النعم فالحمد لله رب العالمين.
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:11 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:10 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:08 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:07 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 20-12-2009, 10:48 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات