-
اسرار القران (155)
(155) فخلقـــــنا العلقــــة مضــــــغة...
*( المؤمنون:14)*
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
النص القرآني المعجز جاء في مقدمات سورة المؤمنون, وهي سورة مكية, وعدد آياتها ثماني عشرة ومائة(118) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم الكريم لإشادتها بالمؤمنين وقد استعرضت جانبا من صفاتهم يجسد النموذج البشري الذي يرتضيه الله( تعالي) من عباده.
وهذا الدستور الأخلاقي الرفيع تلاه استعراض عدد من آيات الله في الخلق الدالة علي طلاقة قدرته في إبداعه لخلقه الذي توج بخلق الإنسان من سلالة من طين, ثم جعله نطفة في قرار مكين. وتتابع الآيات وصف مراحل الجنين البشري للإنسان في أطواره المتعاقبة: من النطفة إلي العلقة فالمضغة فالعظام وكسوتها باللحم( العضلات) ثم إنشائه خلقا آخر( فتبارك الله أحسن الخالقين).
ووصف هذه المراحل بهذه الدقة العلمية المتناهية وهي في أبعادها الضئيلة( المتأرجحة بين أجزاء من الملليمتر وبضعة ملليمترات قليلة) في غيبة كاملة من وسائل الرؤية بالتكبير أو التصوير, وفي بيئة بدائية بسيطة من قبل أكثر من أربعة عشر قرنا يعتبر من أوضح جوانب الإعجاز العلمي في كتاب الله, وهو إعجاز يشهد لهذا الكتاب الكريم بأنه كلام الله الخالق الذي يعلم دقائق خلقه.
وبعد ذلك تنتقل الآيات إلي الحديث عن الموت وحتميته, وعن البعث وضرورته, ثم إلي استعراض قصص عدد من أنبياء الله منهم نوح, هود, صالح, موسي وهارون, وعيسي ابن مريم( علي نبينا وعليهم جميعا من الله السلام) مما يؤكد وحدة رسالة السماء, والأخوة بين الأنبياء, فدعوتهم جميعا كانت واحدة أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره, وهي دعوة التوحيد الخالص التي جاءت بها كل رسالات السماء, ولكن انصرف أغلب الناس عن رسلهم, وقاوموا دعوتهم, وحاربوا أتباعهم, وحتي هؤلاء الأتباع سرعان ما اختلفوا فيما بينهم, وابتدعوا في دينهم, وحرفوا رسالات ربهم حتي أخرجوها عن إطارها الرباني, وجعلوها عاجزة عن هدايتهم, فضلوا وأضلوا, واستذلتهم الدنيا بشهواتها ظانين أن ما يمدهم الله( تعالي) به من مال وبنين هو خير لهم, وهو في الحقيقة استدراج لهم, وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي):
فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون* فذرهم في غمرتهم حتي حين* أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين* نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون.( المؤمنون:53 ـ56)
وإذا قارنا هذا الوصف الذي نزل في أمة من الأمم السابقة وقد أمرهم الله( تعالي) بالاجتماع علي الملة الواحدة, ففرقوا كلام الله وحرفوه وغيروه, واختلفوا فيما بينهم عليه, وأصبح كل فريق منهم فرحا بنصيبه من هذا الانحراف, ولا يرضي به بديلا, إذا قارنا ذلك بوصف هذه السورة المباركة للمؤمنين, اتضح الفارق جليا واضحا بين الإيمان والكفر. وتصف الآيات المؤمنين بقول ربنا في مطلع هذه السورة المباركة
قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون* والذين هم عن اللغو معرضون* والذين هم للزكاة فاعلون* والذين هم لفروجهم حافظون* إلا علي أزواجهم أو ماملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين* فمن ابتغي وراء ذلك فأولئك هم العادون* والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون* والذين هم علي صلواتهم يحافظون* أولئك هم الوارثون* الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون.( المؤمنون:1 ـ11).
وتعاود السورة إلي إضافة عدد آخر من صفات المؤمنين فتقول:
إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون* والذين هم بآيات ربهم يؤمنون* والذين هم بربهم لا يشركون* والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلي ربهم راجعون* أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون* ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون.
(المؤمنون:57 ـ62).
وبالمثل تعاود السورة الكريمة إلي ذكر عدد من صفات الكفار والمشركين من أمثال كفار ومشركي قريش ومن سار علي نهجهم إلي يوم الدين, عارضة جانبا مما سوف يعانون من حسرة وندم في يوم القيامة فتقول:
بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون* حتي إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون* لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون* قد كانت آياتي تتلي عليكم فكنتم علي أعقابكم تنكصون* مستكبرين به سامرا تهجرون* أفلم يدبروا القول أم جاءهم مالم يأت آباءهم الأولين* أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون* أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون* ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون* أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين* وإنك لتدعوهم إلي صراط مستقيم*وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون.( المؤمنون:63 ـ74).
وبعد استعراض صور من عذاب الكفار والمشركين في يوم القيامة, وذكر عدد من آيات الله في الخلق ترد السورة الكريمة علي كل من منكري البعث, والمتطاولين علي وحي السماء, والمشركين بالله فتقول:
بل قالوا مثل ما قال الأولون* قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أننا لمبعوثون* لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين* قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون* سيقولون لله قل أفلا تتذكرون* قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم* سيقولون لله قل أفلا تتقون* قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون* سيقولون لله قل فأني تسحرون* بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون* ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم علي بعض سبحان الله عما يصفون* عالم الغيب والشهادة فتعالي عما يشركون.( المؤمنون:81 ـ92).
وبعد ذلك تنتقل الآيات إلي وصف صورة من صور إكرام المؤمنين. وذل كل من الكفار والمشركين والظالمين الجائرين في ساعات الاحتضار وعند البعث وبعد الحساب فتقول:
حتي إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون* لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلي يوم يبعثون* فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون* فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون* تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون* ألم تكن آياتي تتلي عليكم فكنتم بها تكذبون* قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين* ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون* قال اخسأوا فيها ولا تكلمون* إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين* فاتخذتموهم سخريا حتي أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون* إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون.( المؤمنون:99 ـ111)
وتختتم السورة الكريمة بإعادة التأكيد علي أن البشر لم يخلقوا عبثا, وأنهم راجعون حتما إلي الله الملك الحق الذي لا إله إلا هو رب العرش الكريم, وعلي استنكار شرك المشركين الذين أنذرتهم بعقاب الله الشديد, ونعتتهم بالكفر, وقضت بعدم فلاحهم أبدا.
وفي المقابل وجهت الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) ومن بعده كل فرد من المؤمنين إلي يوم الدين ـ أن يطلب المغفرة والرحمة من الله الذي هو خير الراحمين, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي):
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون* فتعالي الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم* ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون* وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.( المؤمنون:115 ـ118)
من ركائز العقيدة في سورة المؤمنون
(1) الإيمان بالله( تعالي), وبملائكته, وكتبه, ورسله.. واليوم الآخر, وبالجنة والنار, وبأنه لن يرث الجنة إلا المؤمنون الذين ذكرت السورة الكريمة عددا من صفاتهم.
(2) اليقين بأن الله( تعالي) قد خلق الإنسان من سلالة من طين, وقدر مراحل الجنين في نسله مرحلة بعد أخري حتي تتم تسويته في خلقته الكاملة, وأن الإنسان له بعد هذه الحياة الموت, وعليه بعد الموت البعث, ثم الحساب والجزاء بالخلود في الجنة أو في النار, وذلك لأن الإنسان لم يخلق عبثا, وأنه حتما عائد إلي خالقه ليجزيه علي عمله في الحياة الدنيا.
(3) التصديق بأن الله( تعالي) هو خالق السماوات السبع والأرضين السبع وما فيهن, وأنه( سبحانه وتعالي) منزل الماء بقدر من السماء, ومسكنه في الأرض, وأنه( تعالي) قادر علي الذهاب به وإفنائه, كما أنه( سبحانه) هو منبت النبات ومنشئ الزروع, وخالق الأنعام, ومبدع كل شئ, وهو بكل شئ عليم.
(4) التسليم بوحدة رسالة السماء, وبالأخوة بين الأنبياء الذين كانت دعوتهم جميعا إلي توحيد الخالق( سبحانه وتعالي) توحيدا خالصا( بلا شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحبة ولا ولد) وتنزيهه( جل شأنه) عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله.
(5) اليقين بأن الله( تعالي) هو عالم الغيب والشهادة, وأنه( سبحانه) هو خير الرازقين, وهو الذي يحيي ويميت, وأن له اختلاف الليل والنهار, وأنه هو رب العرش الكريم, وأن الشرك بالله كفر به, وأنه لا يفلح الكافرون.
(6) التصديق بأنه لا عودة بعد الموت إلا في يوم البعث لأن الأموات من ورائهم برزخ إلي يوم يبعثون, وسوف يبعثون بعد نفختي الصور, وبعد الأولي يصعق كل حي, ثم بعد الثانية يبعث كل ميت.
(7) الإيمان بأن المفلحين هم الذين ثقلت موازينهم في الآخرة, وأن من خفت موازينهم هم الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون.
من ركائز العبادة والسلوك في سورة المؤمنون
ينغرس طور العلقة فى جدرا الرحم ـــ طور المضغة ويشبه قطعة صغيرة من اللحم النيئ لاكتها الأنسان
1 ـ المحافظة علي الصلاة, والخشوع فيها وأداء الزكاة بقلوب وجلة رجاء قبولها عند الله تعالي.
2 ـ الإعراض عن اللغو بكل أشكاله وصوره, وعن الشرك بكل ألوانه وأطيافه.
3 ـ المحافظة علي الأعراض الخاصة والمغايرة( أعراض الغير) محافظة كاملة.
4 ـ مراعاة الأمانات والعهود.
5 ـ تقوي الله( تعالي) وخشيته في السر والعلن, والمسارعة في الخيرات, والسبق بها.
6 ـ النهي عن التكبر والدعوة إلي النظر في كل أمر بشئ من التدبر والحكمة والعقل.
7 ـ الحرص علي طيب المطعم والعمل الصالح, والدفع بالتي هي أحسن.
8 ـ العمل علي توحيد صف المؤمنين في أمة واحدة.
9 ـ عدم التكذيب بأي من آيات الله, وعدم الاغترار بكثرة المال والبنين, فقد يكون ذلك من قبيل الاستدراج أو الابتلاء والاختبار.
10 ـ الحرص علي حب الحق, والعمل علي إشاعته, والانتصار له, ودعوة الخلق إلي صراط الله المستقيم.
11 ـ النهي عن الظلم بمختلف أشكاله وصوره.
12 ـ الحرص علي مداومة التضرع إلي الله( تعالي) بالدعاء الذي هو مخ العبادة, وعلي مداومة الاستعاذة به من همزات الشياطين, وسؤاله المغفرة والرحمة لعباده المؤمنين.
من الإشارات الكونية في سورة المؤمنون
1 ـ الإشارة إلي خلق الإنسان من سلالة من طين.
2 ـ وصف مراحل الجنين البشري من( النطفة/ الأمشاج) في القرار المكين, إلي العلقة, ثم المضغة, إلي العظام وكسوتها باللحم, إلي إنشائه خلقا آخر في زمن ساد الاعتقاد بتخلق الجنين من دم الحيض وحده أو ماء الرجل وحده تخلقا كاملا دفعة واحدة, وبصورة متناهية في ضآلة الحجم ثم ينمو ويزداد في الحجم حتي يصل الي لحظة الميلاد. ووصف القرآن الكريم لتلك المراحل التي تتراوح في طولها بين أجزاء قليلة من الملليمتر إلي بضعة ملليمترات في غيبة تامة لجميع وسائل التكبير والتصوير والكشف هو من اوضح صور الاعجاز العلمي في كتاب الله.
3 ـ ذكر خلق السماوات السبع, وهي حقيقة غيبية لا تستطيع العلوم المكتسبة الوصول اليها نظرا لضخامة أبعاد الكون, وتمددها باستمرار في كون دائم الاتساع الي نهاية لا يعلمها الا الله( تعالي).
4 ـ الإشارة الي انزال الماء من السماء بقدر, والي اسكانه في الارض بحكمة, وهذه هي اول اشارة الي ان اصل الماء المخزون في صخور القشرة الارضية هو من ماء المطر, وهي حقيقة لم يصل اليها العلم المكتسب الا في اواخر القرن الثامن عشر الميلادي, اي بعد تنزل القرآن الكريم بأكثر من احد عشر قرنا من الزمان, وواضح انها استمدت من التراث الاسلامي المترجم الي اللغتين اللاتينية واليونانية.
5 ـ الربط بين انزال الماء من السماء واخراج النبات من الارض وانشاء جنات من نخيل واعناب, ومن غيرهما من اشجار الفواكه والثمار, ونباتات المحاصيل المختلفة.
6 ـ وصف شجرة الزيتون بأنها تنبت بالدهن( الزيت) وصبغ للآكلين( الإدام الذي يؤكل), والتركيز علي شجر الزيتون الذي ينبت في طور سيناء بصفة خاصة.
7 ـ الإشارة إلي أن في خلق الأنعام عبرة للمعتبرين, ويتضح ذلك فيما يخرج من بطونها من لبن, وما يؤكل منها من لحم, وفي اتخاذها وسيلة للركوب والحمل في البر كما تحمل السفن في البحر, وفي غير ذلك من منافعها العديدة.
8ـ ذكر حاسة السمع قبل كل من الأبصار والأفئدة, والملاحظات المتكررة تؤكد سبق حاسة السمع عند المولود لبقية تلك الحواس.
9ـ تقرير حقيقتي كروية الأرض ودورانها حول محورها أمام الشمس بالاشارة الضمنية الرقيقة إلي اختلاف الليل والنهار.
10ـ ذكر عدد من أنبياء الله ورسله, وايجاز تفاعل أقوامهم معهم بدقة فائقة تؤكدها دراسات الآثار في الحالات التي تمت دراستها, ومن هؤلاء الأنبياء: نوح, وموسي وهارون, وعيسي ابن مريم( علي نبينا وعليهم جميعا من الله السلام).
وكل قضية من هذه القضايا العشر تحتاج إلي معالجة خاصة بها, ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي طور واحد من الأطوار المذكورة في النقطة الثانية من القائمة السابقة وهو طور المضغة الذي جاء في قوله( تعالي):
ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة..( المؤمنون:14)
من الدلالات اللغوية للنص الكريم
جاءت لفظة( مضغة) في القرآن الكريم ثلاث مرات احداها في الآية الخامسة من سورة الحج, والمرتان الأخريان جاءتا في الآية الرابعة عشرة من سورة المؤمنون.
واللفظة تعني في اللغة العربية القطعة من اللحم غير الناضج قدر مايمضغ, ولذلك جعلها ربنا( تبارك وتعالي) في محكم كتابه اسما للمرحلة التي ينتهي إليها الجنين بعد العلقة فقال( تعالي):
... فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما...( المؤمنون:14)
وقال( عز من قائل):
يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة...
(الحج:5)
و(المضاغة) مايبقي عن المضغ في الفم, و(الماضغان) هما الشدقان لمضغهما الطعام أو لمساعدتهما في مضغه, وقلب الإنسان مضغة من جسده. و(مضغ) الأمور هي صغارها.
وقيل في( المضغة) إنها شيء لاكته الأسنان وتركت آثارها عليه, وهي آثار متغيرة نظرا لتكرر مضغها حين لوكها.
من الدلالات العلمية للنص الكريم
يقول ربنا( تبارك وتعالي) في سورة المؤمنون:
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين* ثم جعلناه نطفة في قرار مكين* ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين( المؤمنون:12 ـ14)
وهذه الآيات الثلاث تعرض المراحل المتتالية في خلق الانسان بدقة فائقة ـ وهي مراحل متناهية الضآلة في الحجم لايتعدي طول بعضها جزءا من الملليمتر إلي ملليمترات قليلة, ووصفها بهذه الدقة العلمية في تتابعها الزمني بترتيب مبهر في زمن افتقر إلي أبسط وسائط التكبير أو التصوير أو الكشف لمما يقطع بربانية القرآن الكريم وبنبوة النبي والرسول الخاتم الذي تلقاه( صلي الله عليه وسلم).
والإعجاز هنا ليس إعجازا علميا فحسب, بل هو إعجاز لغوي أيضا, فالتعبيرات: نطفة( نطفة أمشاج), علقة, مضغة( مخلقة وغير مخلقة), وتتابع تلك الأطوار بخلق العظام وكسوتها لحما, ثم إ نشاء الجنين خلقا آخر, هي تعبيرات تبلغ من الدقة والشمول والكمال مالم يبلغه العلم المكتسب في قمة من قممه اليوم.
فنظرا للبعد الزماني والمكاني بين الخلق من سلالة من طين وجعله نطفة في قرار مكين, والنقلة النوعية الهائلة بين هاتين المرحلتين جاء الفصل بينهما بحرف العطف( ثم) الذي يدل علي الترتيب مع التراخي, أي يقتضي تأخر مابعده عما قبله إما تأخيرا بالذات, أو بالمرتبة, أو بالوضع. وكذلك استخدم نفس الحرف( ثم) بين طوري النطفة والعلقة للبون الشاسع بينهما. ثم تتحرك العلقة إلي طور المضغة بالتدريج, ودون فاصل زمني يذكر, ولذلك عطف طور المضغة علي طور العلقة باستخدام حرف العطف( فـ) الذي يدل علي الترتيب والتعقيب مع الاشتراك.
الانتقال من طور العلقة إلي طور المضغة:
لاحظ علماء الأجنة أنه في خلال الأسبوعين الأولين من حياة الجنين البشري تتم عملية انغراس الكيسة الأرومية(Blastula) الناتجة عن تعدد انقسام ونمو النطفة الأمشاج( المختلطة) والمعروفة باسم اللقيحة(Zygote) في جدار الرحم وذلك بدءا من اليوم السادس إلي السابع من تاريخ الاخصاب, ويتم تعلقها بواسطة المشيمة الابتدائية التي تتحول فيما بعد إلي الحبل السري وبذلك يبدأ طور العلق الذي سبق وأن تحدثنا عنه والذي يستمر من اليوم الخامس عشر إلي الخامس والعشرين من عمر الجنين, وتتكون العلقة أساسا من خلايا خارجية آكلة وهبها الله تعالي القدرة علي أن تنشب بجدار الرحم كي تتعلق به, وكتلة داخلية من الخلايا التي يتخلق منها الجنين. ولهذه الكتلة طبقة خارجية تسقف تجويف السلي, وطبقة داخلية تسقف كيس المخ. وهذه الكتلة تكون مستديرة في بادئ الأمر ولكن لاتلبث أن تستطيل في نهاية الأسبوع الثاني حتي تأخذ شكل حبة الكمثري تقريبا. وفي اليوم الخامس عشر من الإخصاب يظهر علي الجزء الخلفي من العلق خط دقيق للغاية يعرف باسم الشريط الأولي(Theprimitivestreak) ويخلق ربنا( تبارك وتعالي) من هذا الشريط الأولي السريع الانقسام مجموعة من الخلايا التي تتحرك لتكون طبقة وسطي بين الطبقتين الخارجية والداخلية. ويستمر الشريط الأولي في نشاطه إلي نهاية الأسبوع الثالث من عمر الجنين عندما تبدأ الكتل البدنية(Somites) في الظهور, وهذه الكتل يخلق منها كل أجهزة الجسم, وتظهر كتلة واحدة منها إلي أربع كتل قبل نهاية الأسبوع الثالث, وتتزايد في العدد بالتدريج حتي تصل إلي قرابة العشرين(17 ـ20) بنهاية اليوم الخامس والعشرين من عمر الجنين, وتعتبر الفترة من اليوم العشرين إلي الخامس والعشرين من لحظة الإخصاب مرحلة انتقالية بين طوري العلقة والمضغة لبدء تكون الكتل البدنية فيها, وتستمر مرحلة المضغة من اليوم السادس والعشرين إلي الثاني والأربعين من عمر الجنين. وبنهاية الأسبوع الثالث يبدأ الشريط الأولي في الانحسار التدريجي حتي يختفي في نهاية الاسبوع الرابع تقريبا بعد أن كان في ذروة نشاطه طوال الأسبوع الثالث من عمر الجنين( بين اليوم الخامس عشر والحادي والعشرين) حينما تبدأ الكتل البدنية في التخلق.
والشريط الأولي ينمو من مؤخرة العلقة لينتهي بعقدة تسمي بإسم العقدة الأولية(ThePrimitiveNode) التي ينمو منها شريط من خلايا الطبقة الخارجية يتجه إلي مقدمة العلقة. ويشجع الشريط الأولي العلقة علي النمو السريع والانقسامات المتتالية التي تتكون منها كل أجهزة الجسم وأولها الجهاز العصبي, ثم ينحسر الشريط الأولي علي هيئة أثر لايكاد يري في العظم العصعصي, وقد سماه رسول الله( صلي الله عليه وسلم) باسم عجب الذنب الذي قال فيه: كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب( الإمام مسلم)
وفي لفظ آخر جاء هذا النص: وليس من الإنسان شيء إلا يبلي إلا عظما واحدا هو عجب الذنب, ومنه يركب الخلق يوم القيامة. وأخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) قال: مابين النفختين أربعون.. ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل, وليس من الانسان شيء إلا يبلي, إلا عظما واحدا, وهو عجب الذنب, ومنه يركب الخلق يوم القيامة وفي رواية لأبي سعيد الخدري( رضي الله عنه) أن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) قال: يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه. قيل وماهو يارسول الله؟ قال: مثل حبة خردل منه نشأ.
وقد عرضنا قضية عجب الذنب في مقال سابق, وأوضحنا جانب الإعجاز العلمي بإخبار رسول الله( صلي الله عليه وسلم) عنه قبل أن تصل العلوم المكتسبة إلي اكتشافه بأكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان.
وطور المضغة يتميز بتزايد عدد الكتل البدنية حتي يصل إلي أكثر من(20) كتلة, علي كل جانب, ويبلغ عدد الكتل البدنية عند اكتمالها إلي مابين(42),(45) كتلة علي كل جانب من جوانب المضغة من مقدمتها إلي مؤخرتها, ولا يكاد عددها يكتمل حتي تبدأ هذه الكتل في التمايز من القمة في اتجاه المؤخرة إلي قطاع عظمي, وقطاع عضلي, وقطاع جلدي, وهذه الكتل البدنية هي أبرز مايميز الجنين في هذه المرحلة, ويمكن التعرف عليها من النظر إلي السطح الخارجي للجنين, ويمكن تحديد عمر الجنين عن طريق عدد هذه الكتل البدنية الظاهرة علي سطحه, وهي تبدأ في الظهور من نهاية الأسبوع الثالث إلي نهاية الأسبوع الخامس, وتتحول إلي العظام والعضلات في الأسبوعين السادس والسابع, وإن كان الهيكل العظمي لايكتمل إلا في نهاية الأسبوع السابع, والهيكل العضلي لايكتمل إلا بنهاية الأسبوع الثامن.
ومن الأمور المبهرة حقا تسمية القرآن الكريم لهذه المرحلة من مراحل نمو الجنين البشري بإسم المضغة لأن الجنين فيها يتراوح طوله بين(4 مم) في نهاية الأسبوع الرابع من عمره,(13مم) بنهاية الأسبوع السادس وهو في هذا الطور كتلة من اللحم النيئ في حجم مايمكن مضغه وهو من المعاني اللغوية للفظة المضغة.
كذلك تبدو المضغة وكأنها مادة قد لاكتها الأسنان وتركت طبعاتها واضحة عليها, ومع النمو السريع للمضغة فإنها تتغير باستمرار في الشكل, وي مواضع الفلقات فتتغضن في أماكن, وتنتفخ في أماكن أخري, وتتثني في أماكن ثالثة تماما, كما تتغير المادة الممضوعة بتكرار مضغها وبتغير مواقع طبعات الأسنان عليها.
وتتخلق جميع أجهزة الجنين علي هيئة براعم في طور المضغة ويتم نموها في الأطوار التالية, فينمو الجهاز العصبي للجنين من شق عصبي(NeuralGroove) إلي قناة عصبية(Neuralcanal) تنمو في منطقة الرأس لتكون المخ بنتوءاته المختلفة: المتقدمة(Forebrain) والمتوسطة(MiddleBrain) والمتأخرة(Hindbrain).
كذلك تنمو انحناءات الرأس, وتظهر فتحة الفم البدائية, ثم تظهر حويصلة العينين كامتداد من مقدمة المخ, ثم حويصلة السمع, ولوح قرص الشم, ويظهر الحبل السري, وتتحول الأوعية الدموية إلي أنبوب ملتو للقلب علي شكل حرف(S) ثم تظهر غرف القلب متصلة ببعضها( الأذينان والبطينان) وتبدأ الدورة الدموية في الاكتمال, وفي الاتصال بالدورة المشيمية في رحم الأم. وفي هذا الطور أيضا تبدأ القناة الهضمية في التكون, ويظهر برعما البنكرياس والكبد, وحويصلتا الإبصار والسمع, وبدايات الجهاز التنفسي علي هيئة كل من القصبة الهوائية وبرعما الرئة, كما تظهر أنابيب أولية للكلي تتشكل منها الكلي الحقيقية وبدايات الجهاز البولي فيما بعد.
والكتل البدنية التي تعطي طور المضغة صفته وشكله وتميزه تنقسم في الأسبوع الرابع إلي قسمين ينموان في الأسبوعين الخامس والسادس إلي المرحل التالية'
1ـ قسم أمامي يكون الأنسجة الليفية والغضروفية ثم العظمية.. وتنمو خلايا الكتل البدنية في هذا القسم من كل جانب لتلتقي أمام القناة العصبية لتكون فقرات العمود الفقري, وتمتد من جهة مؤخرة الرأس حيث تلتحم أربع كتل بدنية مكونة كلا من قاع الجمجمة ومؤخرة الرأس, ثم تأتي بعدها ثماني فقرات عنقية, واثنتا عشرة فقرة صدرية, وخمس فقرات قطنية, وخمس عجزية, وثماني إلي عشر فقرات عصعصية تلتحم في عظم العصعص الذي يندثر فيه عجب الذنب.
2ـ قسم خلفي( ظهري) علي هيئة كتلة من الخلايا التي تظهر بعد تكون الفقرات الأولية, ثم تتمايز إلي طبقة خارجية تكون الأدمة وماتحت الأدمة(DermisandHypodermis), وطبقة داخلية تكون العضلات.
وتبدأ عملية تكلس الغضاريف في الأسبوعين الخامس والسادس وإن كان الهيكل العظمي لايكتمل إلا في الأسبوع السابع, وتبدأ العضلات في كسوة العظام باللحم في الأسبوعين السادس والسابع منذ بدء الإخصاب وإن كانت لاتكتمل إلا في الأسبوع الثامن, لذلك قال ربنا( تبارك وتعالي):
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين* ثم جعلناه نطفة في قرار مكين* ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين
( المؤمنون:12 ـ14)
وهذا السبق القرآني في زمن سيادة الاعتقاد بخلق الإنسان جملة واحدة من دم الحيض أو من ماء الرجل يعتبر أمرا خارقا للعادة, وقد استمر هذا السبق لأكثر من عشرة قرون كاملة في كتاب أنزل علي نبي أمي( صلي الله عليه وسلم), وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين, ولايمكن أن يكون له من مصدر غير الله الخالق, فالحمد لله العظيم الذي أنزل القرآن الكريم, أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية, في نفس لغة وحيه( اللغة العربية) وحفظه كلمة كلمة, وحرفا حرفا, وحفظ مافيه من حق علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية وإلي أن يرث الأرض ومن عليها, حتي يكون حجة علي الناس كافة إلي يوم الدين. والحمد لله الذي بعث لنا خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) بهذا الدين الخاتم الذي لايرتضي ربنا( تبارك وتعالي) من عباده دينا سواه, والصلاة والسلام علي هذا النبي والرسول الخاتم الذي بلغ الرسالة, وأدي الأمانة, ونصح الثقلين وجاهد في سبيل الله حتي أتاه اليقين فجزاه الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التعديل الأخير تم بواسطة طالب عفو ربي ; 30-12-2009 الساعة 06:43 PM
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:11 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:10 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:08 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:07 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 20-12-2009, 10:48 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات