الاسباب الحقيقية
اما اذا استقصينا الاسباب الحقيقية التى ادت إلى ذلك فيمكن ان نرجع إلى كتاب فقه الجهاد للشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوى فتحت عنوان أهداف القتال في الإسلام ارجع الشيخ القرضاوى الاهداف الى :
1- رد الاعتداء: دفع الاعتداء وردُّه بالقوة، سواء كان هذا الاعتداء واقعًا على الدين أم على الوطن والأرض.
فأما الاعتداء على الدين، فيتمثل في فتنة المسلمين عن دينهم، واضطهادهم من أجل عقيدتهم، أو الوقوف في وجه الدعوة ومنعها، والصدِّ عنها، والتعرُّض لدعاتها بالأذى إلى حدِّ القتل.
يقول تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} البقرة: 190- 192.
وتؤيد الكتابة الايطالية لورا فيشيا فاغليرى الدكتور يوسف القرضاوى حيث تقول فى هذا الصدد فى مؤلفها "دفاع عن الاسلام " : "ان الاسلام لا يبيح امتشاق الحسام الا دفاعا عن النفس ... وهو ينظر الى الحرب على انها حريق يجب اطفاؤه بأسرع ما يمكن كلما اندلعت ناره ... ولقد سن مجموعة من القواعد والعادات ابتغاء جعل الحرب انسانية . (دفاع عن الإسلام، ترجمة منير البعلبكي، دار العلم للملايين، ط/5، 1981م، ص 11(
وتضيف في موضع آخر من كتابها "دفاع عن الإسلام": "لقد كانت الحرب عند المسلمين وسيلة لحماية الدين الجديد وتعظيمه، ولم تكن غاية في ذاتها، بل كانت دفاعاً ضرورياً لا عدواناً جائراً"(المصدر السابق ص38).
وترى أنَّ القرآن عبَّر عن هذا المعنى حين قال:{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }(البقرة:190).
ويقول الشيخ محمد ابو زهرة : كان قتال الاسلام الذى شرعه الله ونفذه النبى صلى الله عليه وسلم دفاعا وليس اعتداء , ولكن من الدفاع ما يلبس لباس الهجوم , فانه بمجرد ان انتشر الاسلام فى البلاد العربية وجاء بمبادىء الاخوة الانسانية العامة , والمساواة بين الخلق , والتكافل الاجتماعى , ومنع القوى فى ان يتحكم بالضعيف , توجس الملوك الظالمين خيفة من ذيوعه وانتشاره فى ديارهم , وبين رعايهم فوقفوا له بالمرصاد , فكسرى هم ان يقتل النبى , وهرقل قتل الذين دخلوا فى الاسلاممن اهل الشام , وبذلك صار الاسلام يرلد به السوء وينال بالاذى , وتنتهز الفرص لللانقضاض عليه , وما كان من شأن القائد ان ينتظر عدوه حتى يغزوه , ومن هنا لبس الدفاع ثوب الهجوم . (من مقال منشور بمجلة لواء الاسلام بعنوان الجهاد فى الاسلام , عدد ذى القعدة والحجة , 1379ه – 1960م) .
وغنى عن البيان ان هذه الحرب تعتبر بلغة العصر الحديث حربا وقائية . والحروب التى يخوضها المسلمون محكومة بقوانين الاسلام التى تلزمها بأيثار المسلم عند اول بوادره , وحماية حق الحياة لغير المقاتلين من الاطفال والنساء والشيوخ والاسرى , ورعاية الجرحى والمصابين , ثم تحمى حرية العقيدة , وحرية العمل , وحرية التعبير لمن كانوا اعداء الامس اذا ما جنوا للسلم والقوا السلاح ولم تكن حروب المسلمين للفتح والاستعمار انما كانت فتوح ايمان وتعمير وبنيان ولم تكن كما زعموا _ الغنائم والسلب والنهب سببا من اسبابها , فقد وضع الاسلام للحرب قوانينا تحكمها من بدأ اعلانها حتى تضع اوزارها , ولقد نهى الاسلام المسلمين عن مباغتة المعاهدين لهم بالحرب اذا نقضوا عهودهم معهم , بل امرهم بمكاشفتهم قبل حربهم حتى يكونوا على بينة من امرهم , وان سماحة الاسلام كان لها السبق فى هذا الشأن منذ اربعة عشر قرنا على القوانين المعاصرة التى تضمنتها قرارات مؤتمر لاهاى سنة 1907 والذى نص على ان يجب ان لا تبدأ الاعمال الحربية الا بعد اخطار سابق . (افتراءات واباطيل – المستشار على عبداللاه طنطاوى ص40 , 41 )
2- منع الفتنة أو تأمين حرية الدعوة: وهذا ما صرَّح به القرآن الكريم في آيتين من كتاب الله، إحداهما في سورة البقرة في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193].
والثانية في سورة الأنفال في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:39].
إنقاذ المستضعفين من خلق الله، من ظلم الجبَّارين، وتسلُّط المستكبرين في الأرض بغير الحقِّ، الذين يستخفُّون بحرمات الضعفاء، ويسومونهم سوء العذاب، ويُهدِرون إنسانيتهم، لأن في أيديهم القوة المادية التي تمنع الأيدي أن تُدافع، وتُخرس الألسنة أن تتكلم، وتُكره الناس على أن يسكتوا عن الحقِّ أو ينطقوا بالباطل.
يقول تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً * وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75،74].
تأديب الناكثين للعهود ولا يرعَون المواثيق، فهم يحافظون عليها ما دامت في صالحهم، فإذا رأوا أنها لم تعُد تخدُمهم، وكان بهم قوة: ضربوا بها عُرض الحائط، وداسوها بأقدامهم، ولم يرعَوا لعهد حرمة، ولم يرقبوا في مؤمن إلاًّ ولا ذمَّة.
وقد أشار القرآن إلى موقف هؤلاء القوم ونقضهم المستمر للعهود المُبرمة بينهم وبين المسلمين، فقال تعالى: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وهُمْ لا يَتَّقُونَ * فَإمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 55-57].
فرض السلام الداخلي بالقوة: وهناك نوع من القتال يختلف عما ذكرناه، فهو ليس موجَّها إلى غير المسلمين، بل هو موجَّه إلى المسلمين أنفسهم، لفضِّ النزاع المُسلَّح بينهم، فله هدف محدَّد، وغاية معلومة، وهي: فرض السلام الداخلي بالقوة بين الطائفتين المتنازعتين من المسلمين، وهذا ما كلَّف الله به الأمة المسلمة متضامنة، فهو من فروض الكفاية الواجبة على الأمة، وأول مَن يطالب به الخليفة أو الإمام أو مَن يقوم مقامه.
يقول تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10،9]. [فقه الجهاد 1/ 423- 4]
وتحت عنوان القتال المرفوض في الإسلام
تحدث الشيخ القرضاوي عن مجموعة من الأهداف المرفوضة للقتال في الرؤية الإسلامية، ومنها:
هدف محو الكفر من العالم مرفوض: وهو هدف مناقض مناقضة صريحة لما قرَّره القرآن من أن اختلاف الناس في أديانهم وعقائدهم، وانقسامهم إلى مؤمنين وكافرين، وموحِّدين ووثنيين، ومصدِّقين بالرسل ومكذِّبين لهم: كل هذا واقع بمشيئة الله تعالى التي لا تنفصل عن حكمته عزَّ وجلَّ، فهو الذي خلق الناس مختلفين، أو قابلين للاختلاف في الإيمان وضدِّه، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2].
هدف قسر الناس -أو بعضهم- على الإسلام مرفوض: القرآن يرفض مبدأ الإكراه في الدين، وقد قال تعالى في القرآن المكي لرسوله محمد: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، وهذا استفهام إنكاري معناه النفي القاطع لفكرة الإكراه، وأن هذا ليس في قدرة الرسول؛ لأنه ضدَّ المشيئة الإلهية.
الهدف الاقتصادي للجهاد مرفوض [وهذا لا ينفي تحقق مكاسب اقتصادية بسبب الحروب التي خاضها المسلمون من أجل نشر الإسلام وتبليغه للعالمين، لكن الغاية في الأساس هي التبليغ والدعوة وليست التسلط على أموال الناس بغير حق]: الحقُّ أن الإسلام يمنع الفرد المجاهد، أو الجماعة المجاهدة، أن تدخل في نيتها وفي غاياتها: المغانم الدنيوية، سواء كانت مادية مثل الأموال والمغانم والمكاسب، أم كانت معنوية مثل الجاه والشهرة والمحمدة عند الناس.
وإذا دخل شيء من ذلك في غاية الجهاد أو نية المجاهد: أفسد الجهاد، وأضاع أجره، وأخرجه من اعتباره جهادا في سبيل الله.
الأديان والجهاد
ويتحدث الشيخ القرضاوي عن الجهاد بين شريعة التوراة وشريعة القرآن ويذكر نصوصا من التوراة وهو النص المقدس عند اليهود والنصارى على حد سواء.
تقول التوراة في (سفر تثنية الاشتراع) في (الإصحاح العشرين) تحت عنوان (شرائع حصار وفتح المدن البعيدة) في الفقرة العاشرة وما بعدها:
(وحين تتقدمون لمحاربة مدينة فادْعُوها للصلح أوَّلاً. فإن أجابتكم إلى الصلح واستسلمت لكم، فكلُّ الشعب الساكن فيها يصبح عبيدا لكم. وإن أبت الصلح وحاربتكم فحاصروها، فإذا أسقطها الربُّ إلهكم في أيديكم، فاقتلوا جميع ذكورها بحدِّ السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم، وكلُّ ما في المدينة من أسلاب، فاغنموها لأنفسكم، وتمتَّعوا بغنائم أعدائكم التي وهبها الربُّ إلهكم لكم. هكذا تفعلون بكلِّ المدن النائية عنكم، التي ليست من مدن الأمم القاطنة هنا) انتهى.
هذا أمر التوراة الصارم لبني إسرائيل، أو لليهود المؤمنين بشريعة موسى في شأن حصار المدن البعيدة وفتحها: إذا أجابت دعوة السلم والصلح، فجميع أهلها عبيد لهم بلا استثناء! وإذا لم تُسلِّم لهم فليحاربوا، وإذا سقطت في أيديهم، فعليهم أن (يقتلوا جميع ذكورها بحدِّ السيف)، هكذا أمرهم (الربُّ الإله). ولم تقبل شريعة التوراة من هؤلاء بديلا لقتلهم بحدِّ السيف: أن يدخلوا في دين اليهودية مثلا، أو يدفعوا لهم جزية، أو غير ذلك. ولم يستثنِ أمر (الربِّ الإله) أحدا من الذكور: لا شيخا كبيرا، ولا طفلا صغيرا.
شرائع حصار وفتح مدن أرض الموعد: أما شعوب المنطقة التي يطلق عليها (أرض الميعاد) أي سكان أرض فلسطين، فتقول التوراة في شأنها: (أما مدن الشعوب التي يَهَبها الرب إلهكم لكم ميراثا، فلا تَسْتَبْقوا فيها نَسَمَة حية، بل دمِّروها عن بكرة أبيها، كمدن الحثِّيِّين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين، كما أمركم الربُّ إلهكم، لكي لا يعلِّموكم رجاستهم التي مارسوها في عبادة آلهتهم، فتغووا وراءهم وتخطئوا إلى الربِّ إلهكم)[ انظر: الكتاب المقدس (التوراة) سفر التثنية: الإصحاح العشرين (10- 18) صـ392، 393] انتهى.
ويعلق شُرَّاح التوراة على هذه الفِقرة فيقولون: (كيف يمكن لإله رحيم أن يأمر بإهلاك كل المراكز الآهلة بالسكان؟ لقد فعل ذلك لحماية بني إسرائيل من عبادة الأوثان، التي كانت، ولابد، ستجلب الخراب عليهم (20:18) وفي الحقيقة؛ لأن بني إسرائيل لم يقضوا تماما على هذه الشعوب الشرِّيرة كما أمرهم الله، تعرَّضوا باستمرار لاضطهادهم، وإلى الكثير من سفك الدماء والتخريب، أكثر مما لو كانوا أطاعوا توجيهات الله قبل كلِّ شيء)!! اهـ.
فأين هذا مما جاء به القرآن من قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة:191،190].
الانتشار بحد السيف
يؤكد الشيخ القرضاوي إشاعة كثير من المنصِّرين -أو المبشِّرين– والمستشرقين المتعصِّبين: أن الإسلام لم ينتشر في العالم إلا بحدِّ السيف، وإخضاع الناس لعقيدته بالقوة العسكرية، ولولا هذا ما انفتحت له القلوب، ولا اقتنعت به العقول، ولكنها أُكرهت عليه إكراها تحت بريق السيوف، فخيَّرهم بين الإسلام والقتل، فإما أن يُسلِم وإما أن يطير عنقه!
وهذه فِرْية تكذِّبها تعاليم الإسلام القطعية، وتكذِّبها وقائعه التاريخية، ويكذِّبها المنصفون من المؤرخين المستشرقين أنفسهم.
فأما تعاليم الإسلام، فهي تنفي الإكراه في الدين نفيا مطلقا عاما، بقوله تعالى في القرآن المدني: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256].
وهو يؤكد ما جاء في القرآن المكي من قوله تعالى بصيغة الاستفهام الإنكاري: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، وقوله تعالى على لسان نوح: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28].
وأما وقائع التاريخ، فهي تقول: إن المسلمين حينما فتحوا البلاد، لم يتدخَّلوا قط في شئون دينها، ولم يرغموا أحدا قط على تغيير عقيدته، ولم يثبت التاريخ واقعة واحدة أكره فيها فرد غير مسلم، أو أسرة غير مسلمة، أو بلدة غير مسلمة، أو شعب غير مسلم، على الدخول في الإسلام.
ولقد اتَّخذ المبشِّرون والمستشرقون من الفتوح الإسلامية: دليلا على أن الإسلام إنما انتشر بهذه القوة والسرعة، نتيجة لأنه قهر الناس بالسيف، فدخل الناس تحت بريقه مذعنين طائعين.
ونقول لأصحاب دعوى انتشار الإسلام بالسيف: إن السيف يمكنه أن يفتح أرضا، ويحتلَّ بلدا، ولكن لا يمكنه أن يفتح قلبا. ففتح القلوب وإزالة أقفالها يحتاج إلى عمل آخر، من إقناع العقل، واستمالة العواطف، والتأثير النفسي في الإنسان.
وأما المستشرقون المنصفون من المؤرِّخين الغربيين، فحسبنا منهم عَلَم واحد، شهد له الجميع بالأصالة في علمه، والاستقصاء في بحثه، ومعاناته في الحصول على وثائقه من شتَّى المصادر، ومختلف الأقطار، ومختلف اللغات، ألا وهو البحَّاثة القدير (توماس آرنولد) كما يتجلَّى ذلك في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) الذي أثبت فيه بما لا يَدَع مجالا للشكِّ أن الإسلام لم ينتشر في العالم بحدِّ السيف، بل انتشر بالدعوة والحجَّة والإقناع، وأخلاق المسلمين، ولم يثبت في التاريخ قط أن شعبا من الشعوب، أو قبيلة من القبائل، أو حتى أسرة من الأسر أُجبروا على التخلِّي عن دينهم، أو الدخول في الإسلام.
كما اعترف بذلك بحقٍّ المؤرخ الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب)، وكذلك المستشرق البريطاني المعروف (مونتجمري وات) في كتابه (الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر).[ فقه الجهاد 1/ 479- 4]
المفضلات