بسم الله الرحمن الرحيم
"وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبَك من الدّنيا وأحسن كما أحسنَ الله اليك ولا تبغ الفساد في الارض انّ الله لا يحبّ المفسِدين"
لا شك ان افتتاح كتاب "النظام الاقتصادي في الاسلام" بهذه الآية العظيمة أمر له معنى هام كبير. فالآية الكريمة يظهر فيها بوضوح الاساس الذي بني عليه نظام الاقتصاد في الاسلام ألا وهو العقيدة. ففي الاية تأكيد على حقيقة ان الرزق من عند الله، وهو من صلب العقيدة، وأن الدار الاخرة هي دار القرار، وهو من صلب العقيدة، وأن الله تعالى ألزمنا أحكاما ما بين أمر ونهي وأنه محاسبنا عليها، وهو من صلب العقيدة.
ونحن حين نطرح هذا الكتاب على الامة لتناقشه وتتبنى ما فيه من احكام الاسلام وتقوم لتطبيقه، انما نطرح فيه نظام الاقتصاد الاسلامي، ونطرحه بطريقة الاسلام في معالجة الامور، اي ان ما نطرحه فيه هو الاحكام الشرعية المتعلقة بالاقتصاد.
ولقد كان الاصل ان تجمع الاحكام الشرعية والقواعد العريضة وترتب في ابواب مع بيان ادلتها التفصيلية. غير ان الواقع اننا حين نخاطب الامة اليوم فانما نخاطب امة غاب الاسلام عن واقع حياتها، ومال كثير من افرادها الى انظمة الاقتصاد والحكم الرأسمالية والديمقراطية. فكان لا بد قبل طرح الاحكام الشرعية وأدلتها ان نتعرض للآراء والانظمة والقوانين الوضعية الرأسمالية الكافرة فنبيّن بطلانها وفسادها وعدم نجاحها في حل مشاكل الانسان، بل وشقاء البشرية بسبب تطبيقها.
وعليه فلقد كانت هذه المقدمة بحثا عقليا انسانيا يبحث في واقع الانسان وواقع الامم والدول والحضارات، وينظر بعمق الى نظام الاقتصاد الرأسمالي وما جرّه على العالم من ويلات، فيعمد الى اركانه والاساس الذي قام عليه وخطوطه العريضة فيهدمها حجرا حجرا بالادلة العقلية الدامغة.
والناظر في تاريخ الامم وحاضرها واحوالها يجد انها لم تكن سوى واحدة من اثنتين: اما مجموعات او شعوبا لا تتبنى وجهة نظر شاملة في الحياة، وليس لديها اية طريقة تفكير ثابتة، فعاشت في دياجير الجهل والفقر والظلام، وتراوحت احوالها بين ان تُحكم من قبل امم اخرى متجبرة ظالمة او من قبل امم اخرى رحيمة عادلة. غير انها لم تصل يوما الى الغنى المادي او الى الاكتشافات المؤثرة او الاختراعات الكبيرة.
واما انها مجموعات تبنت بمجملها وجهة نظر في الحياة، اي كان لديها عقيدة انبثقت عنها انظمة تعالج شؤون الحياة، فهذه الامم لطالما امتلكت المدنية بين اصابعها، وبلغت مرحلة الغنى المادي، والتطور العلمي، والازدهار في شتى مجالات الانتاج.
لذلك كانت مقولة ان الافكار هي اعظم ثروات الامم مقولة صحيحة. فان الامة اذا لم يكن لديها فكر شامل عن الحياة فانها لا تكون امة منتجة، ولا تصل الى حال التطور العلمي والاختراع الصناعي والتطور المادي، بل انها تفقد ما لديها من ثروات وعلوم ومخترعات ولا تتمكن من مجرد الاحتفاظ بها.
ومثل ذلك كمثل الصياد الذي لا يضيره ان كانت لديه اسماك ام لم تكن في لحظة من اللحظات؛ ذلك انه يملك مهارات الصيد ويعشق البحر فلا يخشاه، ومثل من يملك السمك ويخاف البحر ولا يعرف الصيد؛ فانه سرعان ما ينفذ مخزونه من الاسماك فلا يستطيع ان يحافظ عليه فضلا عن ان يطوره.
ومثال ذلك الاعراب قبل الاسلام كانوا قبائل خالية من اي فكر، فلم يكن لديهم اي تطور علمي او اكتشاف مادي او غنى له وزن. ثم لما تبنوا الاسلام عقيدة ونظام منبثقا عنها، فسرعان ما تغيرت الاحوال وتطورت العلوم وتوالت الاكتشافات والاختراعات، وامتلأت خزائن الدولة والرعية. ثم لما ابتعدت الامة عن طريقة تفكيرها ووجهة نظرها في الحياة توقف التطور العلمي وانعدمت الاختراعات والاكتشافات، وفقدت الامة بسرعة ثرواتها الهائلة التي ورثتها عن اسلافها.
وكذلك الشعوب الاوروبية التي لم تكن لديها وجهة نظر وطريقة تفكير في الحياة، فكانت شعوبا فقيرة غير منتجة، ثم لما تبنت فكرة فصل الدين عن الحياة وما انبثق عنها من انظمة فانها سرعان ما انتقلت الى حالة الانتاج والغنى والاختراع.
ولا اقرب من مثال الاتحاد السوفياتي البائد، الذي نشاهده اليوم وفي هذه اللحظات بالذات يفقد بسرعة كل ما توصل اليه من اكتشافات ومخترعات، وينتقل بسرعة هائلة الى حالة الفقر والمديونية.
وخلاصة القول ان الاساس في تطور الشعوب اقتصاديا وعلميا هو الفكر وحده، وما لم يكن لدى الامة اي فكر فانها لا تتمكن من الانتقال الى حالة ازدهار الاقتصاد والغنى والاختراع.
"والمراد بالافكار هو وجود عملية التفكير عند الامة في وقائع حياتها، بأن يستعمل افرادها في جملتهم ما لديهم من معلومات عند الاساس بالوقائع للحكم على هذه الوقائع. أي ان تكون لديهم افكار يبدعون باستعمالها في الحياة. فينتج عندهم من تكرار استعمالها بنجاح، طريقة تفكير منتجة."
يتبع ....
المفضلات