-
اسرار القران (215)
" قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ " (المائدة:60)
هذهالآية القرآنية الكريمة جاءت في منتصف سورة( المائدة), وهي سورة مدنية, وآياتها مائة وعشرون بعد البسملة, وهي من طوال سور القرآن الكريم, ومن أواخرها نزولا, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي المائدة التي أنزلها الله ـ تعالي ـ من السماء كرامة لعبده ورسوله المسيح عيسي ابن مريم ـ عليه السلام . ويدور المحور الرئيسي لسورة( المائدة) حول التشريع الإسلامي الذي أنزله ربنا ـ تبارك وتعالي ـ من أجل إقامة الدولة الإسلامية, وتنظيم مجتمعاتها علي أساس من الأخوة الإنسانية المؤمنة بوحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ وبوحدة رسالة السماء التي أنزلها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي مائة وعشرين ألف نبي, اصطفي منهم ثلاثمائة وبضعة عشر رسولا, ثم أكملها في القرآن الكريم, وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ وتعهد بحفظها تعهدا مطلقا, فحفظت حفظا كاملا علي مدي القرون الأربعة عشر الماضية في نفس لغة وحيها ـ اللغة العربية ـ وسوف تبقي محفوظة بحفظ الله كلمة كلمة, وحرفا حرفا, إلي يوم الدين . وهذا الوحي الإلهي المنزل من السماء يؤكد حق الله ـ سبحانه وتعالي ـ وحده في التشريع لعباده; لتفرده بالألوهية, والربوبية, والخالقية, والوحدانية, والحاكمية المطلقة فوق جميع خلقه ـ بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة, ولا ولد ـ ومن هنا كان أول بنود هذا التشريع هو عقد الإيمان بالله ربا, وبالإسلام دينا, وبسيدنا محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ نبيا ورسولا . وهذا العقد هو القاعدة التي تقوم عليها سائر العقود في حياة المسلمين ـ أفرادا وجماعات ـ بين العبد وربه, وبين العبد ونظيره من عباد الله, وبينه وبين مجتمعه, ثم بينه وبين الإنسانية جمعاء. ومن هنا نصت السورة الكريمة علي الوفاء بالعقود بكل صورها, وأشكالها, وأحجامها; لأن الوفاء بها يعتبر وفاء لله ـ تعالي ـ الذي أنزل أوامره بها, فقال في مقدمة سورة المائدة:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُود " (المائدة:1) .
ويتخلل آيات التشريع في سورة( المائدة) تأكيد سمو العقيدة الإسلامية القائمة علي التوحيد الخالص لله ـ تعالي ـ, وتنزيهه عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله, والإيمان بملائكته, وكتبه, ورسله, بغير تمييز ولا تفريق, واليقين بالأخوة الإنسانية التي لخصها المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ بقوله الشريف: كلكم لآدم وآدم من تراب, والإيمان بالآخرة وما فيها من البعث والحساب والجنة والنار, وبالخلود في أي منهما, كل حسب عمله وحسب عدل الله ـ تعالي ـ أو رحمته به, وفضله عليه . وتستعرض سورة( المائدة) قصص عدد من الأمم السابقة والأنبياء السابقين من أجل استخلاص الدروس والعبر, وتأمر المؤمنين بأن يكونوا " قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ "( المائدة:8), وتبشرهم بالمغفرة والأجر العظيم, وتتهدد الكفار والمشركين الذين كذبوا بآيات الله وتنكروا لرسالته الخاتمة بأن مصيرهم إلي الجحيم, وتعرض لعقائد الكفار والمشركين, وترد عليها, وقد نسبوا إلي الله ـ تعالي ـ من الأوصاف والنعوت ما لا يليق بجلاله, ونقضوا العهود والمواثيق. وتنادي الآيات عليهم بنداءات تتكرر أكثر من مرة, وذلك من مثل قول الحق ـ تبارك وتعالي ـ: " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ( المائدة:19) .
ثم تعرض السورة الكريمة لعدد من الأحكام المتعلقة بحماية النفس الإنسانية, والمال الخاص والعام, والملكيات الفردية والجماعية, والمجتمعات الإنسانية, وتأمر بصيانتها من كل انحراف, وتؤكد قضية الولاء والبراء, وتدعو إلي تعظيم كل من الكعبة المشرفة, والأشهر الحرم, وإلي إنكار ما بقي من تقاليد الجاهلية ـ وما أكثرها في زماننا الراهن . وتختتم سورة( المائدة) بالتذكير بيوم القيامة, وبالإشارة إلي عدد من المعجزات التي أجراها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي يدي عبده ورسوله المسيح عيسي ابن مريم, ومنها إنزال المائدة التي سميت السورة باسمها, وفي ذلك يقول رب العالمين ـ سبحانه وتعالي ـ: " وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ . إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ . قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ . قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ "(المائدة:111 ـ115) .
وانتهت السورة الكريمة إلي تبرئة كل من السيد المسيح وأمه الصديقة( مريم ابنة عمران) من فرية ادعاء ألوهيتهما, وكلاهما من عباد الله الصالحين, والله واحد أحد, لا شريك له في ملكه, ولا منازع له في سلطانه, ولا شبيه له من خلقه, وهو ـ سبحانه وتعالي ـ منزه عن الصاحبة والولد .
من التشريعات الإسلامية في سورة المائدة:
(1) الأمر بالوفاء بالعقود أي العهود المؤكدة بين العباد وخالقهم, وبينهم وبين بعضهم البعض, ومن أولها ما ألزم الله ـ تعالي ـ به عباده, وعقده عليهم من التكاليف من مثل شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدا عبد الله ورسوله, وإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا وحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها وإقامة عدل الله فيها .
(2) تأكيد ضرورة الحكم بما أنزل الله ـ تعالي ـ والالتزام بحدوده, والأمر بالعدل في القضاء, وبتقوي الله في السر والعلن وبالتوكل عليه ـ سبحانه وتعالي ـ حق التوكل وخشيته, وطاعته, وطاعة خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ والحرص علي العمل الصالح والإحسان إلي خلق الله .
(3) المحافظة علي شعائر الإسلام وفرائضه ومنها الوفاء بالعقود, ومن العقود ما يعقده الناس فيما بينهم من عقود المعاملات, والأمانات وغيرها مما يجب شرعا الوفاء به أي الإتيان به وافيا غير منقوص .
(4) الأمر بالجهاد في سبيل الله طلبا لمرضاته. ودفعا لظلم الظالمين وجور الجائرين المعتدين .
(5) أحل الله ـ تعالي ـ أكل لحوم بهيمة الأنعام وشرب ألبانها, والبهيمة اسم لذوات الأربع من الدواب, ولفظة الأنعام يطلقها العرب علي كل من الإبل, والبقر, والغنم, والماعز, وإن كان أكثر ما يقع هذا الاسم علي الإبل, وألحق بها في حل الأكل ما يماثلها من الثدييات اللبونة المجترة المقتصرة علي أكل الأعشاب كالظباء, والغزلان, والزراف, وبقر الوحش, وأشباهها .
(6) تحريم الصيد علي المحرم أو حتي مجرد الانتفاع به سواء كان المحرم في الحل أو في الحرم, وفي حكم المحرم من كان مقيما في الحرم وليس محرما, وتحديد كفارة ذلك .
(7) احترام حرمة الدين وشعائره من مثل حرمة الكعبة المشرفة وحرمها, والحج ومناسكه, والأشهر الحرم الأربعة والأمر بالامتناع عن الاقتتال فيها, وحرمة ما يهدي إلي البيت الحرام, وما يقلد به الهدي, وحرمة الحجاج القاصدين البيت الحرام, وحرمة أمنهم وسلامتهم وأموالهم وأعراضهم.
(8) الأمر بالتعاون علي البر والتقوي( أي علي فعل الطاعات, واجتناب المنكرات) والنهي عن التعاون علي الإثم والعدوان أي عن مجاوزة حدود الله تعالي .
(9) تحريم كل من الميتة, والدم, ولحم الخنزير, وما أهل لغير الله به, والمنخنقة والموقوذة, والمتردية, والنطيحة, وما أكل السبع( إلا ما أدرك ذكاؤه أي تم ذبحه قبل موته), وتحريم كل ما ذبح علي النصب,( وهي أحجار كانت تعظم في الجاهلية, ويذبح عليها وهي غير الأصنام), إلا من اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم.
(10) تحريم الاستقسام بالأزلام أي محاولة استشراف المستقبل بواسطة القداح, وهي سهام كانت في الجاهلية( ولا تختلف عن غيرها من وسائل الدجل المعاصرة من مثل قراءة الطالع, أو الفنجان, أو فتح أوراق اللعب وغيرها), لأن ذلك كله خروج عن طاعة الله وعن الاستسلام لقدره .
(11) الأمر للمسلم بعدم خشية غير الله أبدا, خاصة أهل الكفر والشرك لأنهم أضعف من الضعف لأن الله ـ تعالي ـ لا يرضي عنهم أبدا, ويرضي عن المسلمين الذين أكمل لهم دينهم, وأتم عليهم نعمه, ورضي لهم الإسلام دينا, ومن كان في جوار الله كان الله في جواره .
(12) أحل الله ـ تعالي ـ للمسلمين كل الطيبات, وهو ما أذن في أكله بما في ذلك صيد البحر وطعامه, وصيد البر غير المحرم بعد ذكر اسم الله علي وسيلة الصيد من الجوارح قبل إطلاقها. ومما أحل الله ـ تعالي ـ لعباده المسلمين ذبائح أهل الكتاب وطعامهم إذا ذكروا عليها اسم الله في أثناء الذبح.
(13) أحل الله ـ تعالي ـ للمسلمين زواج المحصنات من المؤمنات, والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبل, أي العفيفات المترفعات عن الرذائل, وذلك بالطرق الإسلامية المشروعة .
(14) فصلت الآيات في سورة المائدة أحكام الطهارة في جميع الحالات .
(15) تحريم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق تحريما قاطعا وتحديد عقوبة القاتل في الأرض, وإنزال حكم القصاص, فمن تصدق به فهو كفارة له .
(16) تحريم قطع الطريق وتحديد عقوبته, وعقوبة غير ذلك من صور الاعتداء علي الخلق.
(17) تحريم السرقة وتحديد عقوبتها, والنهي عن أكل السحت بأشكاله المختلفة ومنه الربا والرشوة, والغش في التجارة والصنعة, وتطفيف كل من المكاييل والموازين .
(18) إنزال حكم الولاء والبراء, وحكم الردة, وحكم الحنث في اليمين.
(19) تحريم الشرك بالله تحريما قاطعا, ومساواته بالكفر بالله, وإنزال حكم الله فيه.
(20) تحريم كل من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام واعتبارها رجسا من عمل الشيطان يجب علي المسلم اجتنابه كل الاجتناب .
(21) تفصيل حكم الوصية ساعة الاحتضار أو قبل ذلك .
من ركائز العقيدة في سورة المائدة:
(1) الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وبالقدر خيره وشره, وببعثة الرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ الذي أكمل الله ـ سبحانه وتعالي ـ برسالته الدين, وأتم النعمة, ورضي لعباده الإسلام دينا .
(2) التسليم لله ـ تعالي ـ بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه, والالتزام بحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض, وإلي الاتباع في الدين, وعدم الابتداع فيه .
(3) اليقين بأن لله ما في السماوات, وما في الأرض, وما بينهما, وأنه ـ تعالي ـ علي كل شيء قدير وإليه المصير, وأنه رب هذا الكون ومليكه, بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة ولا ولد لأن هذه كلها من صفات المخلوقين, والله ـ سبحانه وتعالي ـ منزه عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله .
(4) الإيمان بوحدة رسالة السماء, وبالأخوة بين الأنبياء الذين بعثوا جميعا برسالة واحدة هي الإسلام العظيم, وبأن حزب الله هم الغالبون .
(5) اليقين بنبوة المسيح عيسي ابن مريم, وبعبوديته لله ـ تعالي ـ وبالمعجزات التي أجراها الله له وعلي يديه, كما رواها القرآن الكريم, وأنه قد خلت من قبله الرسل, وأن أمه صديقة, وأنهما كانا يأكلان الطعام, وأنه بشر بمقدم خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ.
(6) الإيمان بأنه... "... مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً " (المائدة: 32 ) , وبأن... " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " (المائدة: 36) .
(7) التسليم بالحقيقة القرآنية التي مؤداها أن اليهود قد زيفوا رسالة الله إليهم, وأنهم سماعون للكذب أكالون للسحت, مسارعون في الإثم والعدوان .
من الإشارات العلمية في سورة المائدة:
(1) تحريم أكل كل من الميتة, والدم, ولحم الخنزير, وما أهل لغير الله به, والمنخنقة, والموقوذة, والمتردية, والنطيحة, وما أكل السبع إلا ما ذكي. والعلم يؤكد أخطار تناول مثل هذه اللحوم .
(2) تأكيد البينية الفاصلة بين الأرض والسماوات .
(3) تحريم كل من الخمر, والميسر, والأنصاب والأزلام, والعلم يؤكد أضرار كل ذلك.
(4) تأكيد كرامة الكعبة المشرفة بجعلها قياما للناس, والعلم يثبت تميز موقعها .
(5) الإشارة إلي أن كثيرا من الناس لفاسقون وتسابق الإدارات الغربية علي إباحة الشذوذ الجنسي وإقرار زواج الشاذين, والسماح لهم بالتبني في هذه الأيام إحدي صور الإثبات المادي الملموس لذلك الفسق .
(6) اختيار الغراب بالذات ـ دون غيره من الطيور والحيوانات ـ لتعليم قابيل كيف يواري سوءة أخيه. والعلم أثبت أنه أذكي الطيور علي الإطلاق .
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها, ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي الذي جاء من دلالات علمية في الآية رقم(60) من هذه السورة المباركة, وقبل الوصول إلي ذلك أري لزاما علي استعراض أقوال عدد من المفسرين في شرح دلالتها:
من أقوال المفسرين:
في تفسير قوله ـ تعالي ـ: " قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ " (المائدة:60) .
*ذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ ما مختصره: يقول ـ تعالي: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا " هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ..." ( المائدة:59) أي هل لكم علينا مطعن أو عيب في هذا؟, وهذا ليس بعيب ولا مذمة, فيكون الاستثناء منقطعا, ثم قال: " قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ... " أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟, وهم المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله:( من لعنه الله) أي أبعده من رحمته,( وغضب عليه) أي غضبا لا يرضي بعده أبدا,( وجعل منهم القردة والخنازير), وقد قال سفيان الثوري عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟, فقال: " إن الله لم يهلك قوما ـ أو قال لم يمسخ قوما ـ فيجعل لهم نسلا ولا عقبا, وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك "( رواه الإمام مسلم في صحيحه), وقال أبو داود الطيالسي عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ عن القردة والخنازير أهي من نسل اليهود؟ فقال:( لا.. إن الله ـ عز وجل ـ لم يلعن قوما قط فيمسخهم فكان لهم نسل, ولكن هذا خلق كان, فلما غضب الله ـ عز وجل ـ علي اليهود مسخهم فجعلهم مثلهم)( أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود). وقوله ـ تعالي:( وعبدالطاغوت) وقرئ( وعبدالطاغوت) بالإضافة, علي أن المعني: وجعل منهم خدم الطاغوت ـ أي خدامه وعبيده ـ والمعني هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ما سواه, كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟, ولهذا قال: " أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً " (المائدة: 60) أي مما يظنون بنا." وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ " (المائدة: 60) وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة .
من الدلالات العلمية للآية الكريمة :
أولا: في قوله ـ تعالى" وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ ":
جاءت الإشارة الي مسخ العصاة من بني إسرائيل إلي قردة في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم يقول فيها الحق ـ تبارك وتعالي ـ:
" وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ "( البقرة:65).
"... وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ .."( المائدة:60)
" فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ "( الأعراف:166).
والقردة من الثدييات المشيمية التي تنسب إلي رتبة الرئيسيات(OrderPrimates), وتعيش متسلقة علي الأشجار, وإن كان بعضها يحيا علي اليابسة, وتتميز بكبر نسبي لحجم الجمجمة, وتسطح الوجه, وبأقدامها ذات الأصابع الطويلة, وبالقدرة علي التسلق بالتشبث بالأطراف, كما تمتاز بزوج من الأعين قوية الإبصار والموجودة في مقدمة الرأس. وأبسط الرئيسيات تركيبا وجدت بقاياها في صخور عهد الباليوسين أو الفجر القديم للحياة الحديثة ـ منذ نحو ستين مليون سنة مضت ـ وتعرف باسم البروسيمات((Porsimii, وهي حيوانات صغيرة الحجم تشبه القردة إلا في استطالة وجهها, وتبعتها الكوبلديات(Tarsiers) في عهد الإيوسين أو فجر الحياة الحديثة ـ منذ نحو خمسين مليون سنة مضت ـ ثم فصيلة الليموريات(Lemurs), ثم فصيلة زبابات الشجرTreeShrews)) ثم فصيلة السعادين(OldWorldMonkerys) وفصيلة القردة مسترخية الذنب((TheNewworldMonkeys وفصيلة القردة الكبيرة الحجم(Apes), ومنها الجبون(Gibbon), والشمبانزي(Chimpanzee), والغوريللا(Gorilla) والأورانج أوتان(Orangutan).
والقردة تسير عادة علي أربعة أرجل, ولكن البعض منها يستطيع أحيانا السير بشكل شبه معتدل علي رجلين فقط, مما يعطي الطرفين الأماميين شيئا من الحرية في الحركة في أثناء التسلق علي الأشجار, وفي التقاط الطعام وتناوله وهي من الرئيسيات آكلة الأعشاب واللحـــــــوم(OmnivorousPrimates), وتحيا غالبا فوق الأشجار في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية, وهي حيوانات تتمتع بقدر من الذكاء, وبقدرة على التعلم ولكن القرد حيوان حاد المزاج, يتسم بالأنانية الشديدة, وبالخيانة والغدر, والميل إلى الاستغلال, وحب التملق, وعدم الوفاء, وحب الرشوة واستمرائها.
ولذلك كان المسخ من مرحلة الإنسانية إلى مرحلة القردة يعتبر امتهانا وإذلالا للعصاة من بني إسرائيل وعقابا من الله ـ تعالي_ لهم, ولكنهم لم يطيلوا العيش ولم ينسلوا ، فقد روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما أنه قال: لم يعش مسخ من الخلق فوق ثلاثة أيام أبدا, ولم يأكل, ولم يشرب, ولم ينسل.
ويروي الإمام أحمد عن أبي دواد الطيالسي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ أنه قال: سألنا رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ عن القردة والخنازير أهي من نسل اليهود؟ قال:" لا, فإن
الله ـ عز وجل ـ لم يلعن قوما قط فيمسخهم فكان لهم نسل, ولكن هذا خلق كان, فلما غضب الله ـ عزو وجل ـ علي اليهود مسخهم فجعلهم مثلهم".
ويروي الإمام مسلم عن سفيان الثوري عن ابن مسعود( رضي الله عنهم أجمعين) قال: سئل رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ فقال: "إن الله لم يهلك قوما" ـ أو قال: "لم يمسخ قوما ـ فيجعل لهم نسلا ولاعقبا, وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك".
ثانيا: في قوله ـ تعالى ـ "وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ" :
وصف القرآن الكريم حيوان الخنزير بأنه رجس, وحرم أكله في أكثر من مقام( البقرة:173; المائدة3, الأنعام:145, النحل:115), كما جاءت الإشارة إلى مسخ عصاة اليهود إلى كل من القردة والخنازير في آية واحدة( المائدة:60).
ولفظة( رجس) هي لفظة جامعة لكل معاني القذارة والقبح, والنجاسة والإثم; وذلك لأن الخنزير
حيوان ضخم الجثة, كتلي الشكل, كريه المنظر, مكتنز اللحم والشحم, قصير الأرجل, طويل البوز, قوي الأنياب, له جلد سميك مغطي بشعر خشن قذر, وهو حيوان جشع, كسول, رمام, يأكل النبات والحيوان والقمامة والجيف, كما يأكل فضلاته وفضلات غيره من الحيوانات, وهذا من أسباب قيامه بدور كبير في نقل العديد من الأمراض الخطيرة للإنسان الذي يربيه أو الذي يأكل لحمه وشحمه لأن كليهما من آكلي الخضراوات واللحوم(Omnivorous) وذلك يسهل انتقال مسببات الأمراض من أحدهما للآخر.
والخــــنزير من الحيـــــوانات الثديية السرية(PlacentalMammals) التي تلد وترضع صغارها, ولها حافر مشقوق يحمل عددا زوجيا من الأصابع( أربعة أصابع), ولذلك يضم في مجموعة من الثدييات المشيمية تعرف باسم( الحافريات زوجية الأصابع), وقد عمرت الأرض خلال الخمسين مليون سنة الماضية( من بدايات عهد الإيوسين أو فجر الحياة الحديثة إلي اليوم), ولكن الخنازير تنفصل عن هذه المجموعة من الحيوانات بكونها رمامة, وغير مجترة, وقذرة, وناقلة للعديد من الأمراض.
وتضم الخنازير عددا من الأنواع البرية والمستأنسة, والتي تجمع كلها في فصيلة واحدة تعرف باسم فصيلة الخنازير(FamilySuidae), ويسمي الذكر منها باسم العفر(Boar), وتسمي الأنثى باسم الخنزيرة(Sow), وهي من النوع الولود, والخنزير المخصي يعرف باسم الحلوف(Hog), ويستعار اللفظ في اللغة الإنجليزية لوصف كل قذر, شره, أناني من البشر. وتستخدم لفظة(swine) الانجليزية للتعبير عن الخنزير بصفة عامة ـ سواء كان ذكرا أو أنثي, مخصيا أو غير مخصي, مستأنسا أو غير مستأنس ـ وتستعار هذه الكلمة كذلك لوصف كل فرد من بني البشر حقير النفس, بخيل اليد, قذر المظهر والملبس, متصف بالخيانة والجبن والغدر وبغير ذلك من أحقر الصفات, فإذا أطلقت علي الأنثي كان لها من هذه الحقارة حظ وافر,بالإضافة إلي وصفها بالمرأة الساقطة المجردة من كل فضيلة, لذلك مسخ العصاة من بني إسرائيل من مستوي الآدمية المكرمة إلي مستوي الخنازير القذرة المهانة; عقابا من الله ـ تعالي ـ لهم علي فجرهم وانغماسهم في ماديات الحياة وفي المعاصي إلي آذانهم, وحربهم المعلنة علي كل ما هو غير يهودي ـ( الأغيار, أو الأمميين, أو الأميين أو الجويم) بالمؤامرات, والخيانة والغدر, والظلم والقهر والمذابح عبر التاريخ الذي يشهد لهم بذلك.
ومن المعجزات العلمية في أقوال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أحاديث المسخ لأنه لم يكن ممكنا لأحد من الخلق في زمن الوحي, ولا لقرون متطاولة من بعده أن يعلم بأن خلق كل من القردة والخنازير كان سابقا لخلق الانسان, ثم بدأت دراسات بقايا الحياة في صخور القشرة الأرضية تثبت ذلك بالتدريج وهي من أحدث الدراسات المكتسبة في التاريخ الإنساني. ومما يشهد للقرآن الكريم بأنه لايمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام رب العالمين; وشاهد للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة.
ثالثا: في قوله ـ تعالى "وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ" :
والمقصود بالتعبير القرآني( وعبد الطاغوت) أي عبيده وخدامه, والطاغوت لغة هو كل مجاوز للحد ومبالغ في العصيان لله ـ تعالي ـ وذلك من مثل من يقوم بعبادة الشيطان, أو الكاهن, أو عبادة كل رأس في الضلال ـ مفردا كان أو جمعا ـ, والكلمة تجمع على طواغيت وكل حكم لايبني علي أساس من شريعة الله هو طاغوت, أي كفر, سواء كان هذا الكفر في حق الله ـ تعالي ـ بإنكار ألوهيته, أو حاكميته, أووحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه, أو في حق العباد بالتآمر عليهم, أو الغدر بهم, أو خيانة أماناتهم أو الاعتداء علي حرياتهم وحقوقهم أو علي دمائهم أو أعراضهم, أو أموالهم, أو ممتلكاتهم, أومقد ساتهم أو أراضيهم كما يفعل شياطين الحركة الصهيونية على أرض فلسطين المباركة, وعلى أراضي الدول العربية المجاورة ـ طوال أكثر من نصف قرن; لأن هؤلاء من شياطين الإنس الذين يمثلون ركازة الكفر عبر التاريخ, ويجسدون عبادة الطاغوت في أقبح صورها; فاليهود ماكانوا يتبعون أحد أنبيائهم لفترة من الفترات حتي يكفروا به, ويعودوا إلى الشرك بالله, وإلى عبادة الطاغوت, ولذلك حاربوا كل نبي بعث إليهم, وحرفوا كل رسالة أنزلت عليهم, ولذلك لعنهم القرآن الكريم, كما لعنهم من قبل كل من أنبياء الله موسي, وداود وعيسي بن مريم ـ عليهم السلام. وركازة الكفر هذه من غلاة الكفار من اليهود والمتهودين إتخذت من محاربة قضية الإيمـــان بالله ـ تعالي ـ غاية لها في الحياة الدنيا, وجعلت من تحريف الدين وسيلة من وسائل الاستعلاء في الأرض, ومن كل من الجربمة والرذيلة وسوء الاستغلال حرفا احترفوها عبر التاريخ, فكرهتهم كل المجتمعات الإنسانية وأبغضتهم, ونبذتهم, واضطهدتهم, واعتبرتهم جنودا للشيطان وعبدة للطاغوت في الأرض.
ولو لم ينزل في القرآن من حقائق الكون غير هذه الآية الكريمة لكانت كافية للشهادة له بأنه كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية في نفس لغة وحيه ـ اللغة العربية ـ وحفظه حفظا كاملا علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد, وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا; حتي يبقي القرآن شاهدا علي الخلق أجمعين إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:11 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:10 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:08 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:07 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 20-12-2009, 10:48 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات