بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و العاقبة للمتقين
و لا عدوان إلا عدوان إلا على الظالمين
و الصلاة و السلام على من بعثه الله بشيرا و نذيرا للعالمين و على آله و صحبه المنتجبين
أما بعد:
ما أكثر أمجاد الأمة !
إن الأمة التي تنقطع عن ماضيهاتموت و خاصة و نن لا يصلح آخرنا إلا بما صلح به أولنا .
إنه الإسلام الذي يربي في النفوس الشجاعة و البسالة و الإقدام .
ما أكثر الأشاوس الذين سطَّروا بمداد الفخر بطولاتهم في سجل التاريخ لكن طوتهم ذاكرة النسيان و الإهمال.
اسأل مسلما هل تعلم من هو أبو دجانة سماك بن خرشة فيجيب : لا
إنا لله و إنا إليه راجعون
و من هؤلاء الضياغم فارس و يا للأسف الشديد كتب عنه الأعداء و خلت من ذكره كتبنا و لا أدري ما مزيد الأسباب علاوة على المتقدم
لن أطيل إنه :آخر فارس في آخر مدينة:
ظل نور الاسلام يشع في سهول الاندلس بالهدى و الحضارة والعلم ثمانية قرون,كان في اربعتها الاولى شديد السطوع و الشيوع ,لانه كان ينبثق من مصدر متحد,ويشرق في صحوشامل فلا غيوم كانت تحجب ضوءه ,ولاعواصف كانت تبدد سناه.فلما وهنت اليد المصرفة :ووهى السمط الجامع انتثر الرأي الجميع ,وانفرط العقد النظيم ,وانقسم ملك عبد الرحمن الناصر الى دويلات تتنافس في الحكم,وتتخاذل في الشدة و تتواطأ مع العدو. ثم انطفأ في قلوب المسلمين نور الله فضلت الهداة, و تعادت الأخوة, و تحارب الجيرة, و جف الثرى بين بعض البلاد و بعض, على حين كانت أسبانيا الأروبية تتقارب و تتجاذب حتى اتحدت ممالكها الخمس في مملكة قشتالة, ثم أخذت تغير على اسبانيا العربية مستعينة على إخضاعها و ابتلاعها بالطابور الخامس من العرب و البربر, حتى لم يبق في أيدي المسلمين منها إلا غرناطة.
وكان الملك في هذه المدينة الباقية قد إستقر في بني الأحمر, و انتهى إلى آخرهم عبد الله بن حمد, و كان هذا الملك مأفون السياسة, ضعيف الوطنية,خَوَّار العزيمة, فلم يكد يعلم أن "فرديناند" الخامس ملك قشتالة قد مد عينيه إلى غرناطة, عروس الأندلس و موضع الحمراء, و آخر ما بقي ملك العرب من الفردوس المفقود, حتى أشفق على نفسه و ملكه و فترك الدفاع و آثر العافية. و أرسل إلى العدو سرًّا من يفاوضه في تسليم المملكة على أن يقطعه بعض الأرض ليحكمها تحت لوائه و في ظله. و حان موعد التسليم فعارض فيه جماعة من فرسان غرناطة لا تزال فيهم بقية من نخوة العروبة و نجدة الفتوة.
و كان على رأس هؤلاء الفتية فارس من سلالة الملوك يقال له موسى بن أبي الغسان, كان مثلا للفروسية العربية التي تركت طابعها البارز في الفروسية الغربية, و كان جامعا للصفات الجمالية التي جعلته موضع إعجاب الشباب, و مهوى قلوب الأوانس, و كان منقطع القرين في ادب السيف و أدب اللسان, و مغامراته الحربيةكانت حديث المجالس في أسبانيا النصرانية و المسلمة.
قال ابن أبي الغسان للملك:
"يا ملك المسلمين قل لملك النصارى إن العربي لا يقبل الحيف، ما دام يحمل السيف, و إن الأبي الحر يفضل أن يكون له قبر في أنقلض غرناطة, على أن يكون له قصر في رياص أندلس."
فلم يسع أبا عبد الله إلا أن ينزل على حكم السادة و القادة, فطوى المعاهدة, و اتخذ الأهبة للدفاع. فأصبح الناس ذات يومفإذا هم يرون في أودية "شينيل" ثمانين ألفا من جنود قشتالة يقصدون مرج غرناطة ليحاصروها. و كان موسى, حبيب الجيش و الشعب, قد قسم الدفاع عن المدينة على الرؤساء و القادة, و تولى هو قيادة الفرسان يعاونه محمد بن أبي زايدة, و نعيم بن رضوان, و اتقدت نار الحرب بين قشتالة, يناصرها أرجون و ليون و نافار, و بين غرناطة لا يناصرها إلا البأس و الصبر و الإيمان. و كان لفروسية ابن أبي الغسان في وقائعها حملات مظفرة أرهقت قوات العدو و عوقت أمداده و قطعت سبله. و لكن القشتاليين أحكموا الحصار على غرناطة و أهلكوا ما حولها من الزرع, و حالوا بينها و يبن المدد من البر و البحر.
و أقبل الشتاء فغطى الحقول و المروج بالثلج, فلم يستطع الفرسان أن يتسللوا إلى الخارج ليجلبوا الميرة و الدخيرة. و دام هذا الحصار الشديد سبعة أشهر قل فيها القوت و ضاق الوسع و أوشك الصبر أن بنفذ. فتقدم حاكم المدينة أبو القاسم عبد الملك إلى مجلس الحكم و قرر أن الجوع آت لا ريب فيه, و أن الدفاع عناء لا جدوى منه.
فابتدره موسى بقوله: إن نفوس المجاهدين الصابرة لا تعرف اليأس.
ثم أمر ففتحت الأبواب و خرج بكتيبة إلى لقاء العدووجها لوجه, و قال لفرسانه:"لم يبق لدينا من الأندلس كلها إلا الأرض التي نقف عليها. فإذا فقدناها فقدنا الوطن و الحرية" ثم حمل بهم على المحاصرين حملة صادقة فكشفوهم عن المدينة, و لكنهم عادوا فأطبقوا عليها.
و استمرت المعركة أياما على المد و الجزر حتى مس الجنود الضُر, و ساورهم اليأس فارتدوا إلى المدينة حتى لم يبق في المعركة غيره.
و في مساء ذلك اليوم عقد الملك في بهو الحمراء من الفقهاء و الزعماء و القادة, قلبوا فيه الأمر على وجوهه المختلفة ثم اجتمع رأيهم على التسليم.
و هنالك نهض موسى وحده يفند الرأي و يعارض الاستسلام و يحاول ان يبعث في النفوس القانطة روح الرجاء, فقال فيما قال:
" يا قوم, إن وسائلنا الدفاعية لم تنفذ بعد. فما زلنا نملك الوسيلة التي تبطل المستحيل و تصنع المعجزات و هي اليأس, فلنحي ِ في نفوس الشعب روح التضحية, و لنضع في أيديه السلاح و لنقاتل نحن و هو حتى نفنى جميعا."
و إذا لم يجد كل منا القبر الذي يواريه فإنه لن يعدم السماء التي تغطيه .ولخير لنا ان نحصى فيمن جاهدوا وقتلوا,من أن نحصى فيمن سلّموا وسَلِموا".
ولكن بلاغة موسى لم تصادف في هذه المرة هوى في الناس فأعرضوا بأسماعهم عنها , وأجال الملك التعس نظرة في الجلوس فلم يجد على الوجوه الا السهوم و الوجوم ,فصاح بأعلى صوته:" الله أكبر,فلتكن إرادة الله" فردد القوم ما قال و بكوْا,إلا موسى فقد ظل صامتا ,شاخصا لا يطرف.
فلما رأى بعض الوزراء يخرجون ليفاوضوا العدو في تنفيذ المعاهدة,ثار الدم في وجهه وقال :" يا قوم,لا تخدعوا أنفسكم,ولا تطنوا أن الاسبان إذا عاهدوكم يفون.إن الموت أقل ما تخشون.
وسترون إذا سلمتم ان مدينتنا تخرب,و أموالنا تنهب, ونساءنا تستبا,ومسجدنا تساط , ودماءنا تراق ,وبقيتنا تنفى ,وسترون كل ذلك وأفضع منه , با من تضنون بنفوسكم من الموت الكريم ,أما أنا فو الله لن أراه".
ثم نهض مسرعا من مكانه فاجتاز " بهو الأسود من قصر الحمراء و مضى لايلوي على أحد حتى دخل داره فلبس سلاحه,وركب جواده ,ثم خرج من باب (البيرة) إلى ظاهر غرناطة.
وهنا يقول المؤرخ الاسباني (انطونيو أجابيدا):
في عشية ذلك اليوم الذي خرج فيه بطل الاندلس على هذه الحال ,كانت كوكبة من الفرسان الاسبان يسيرون على نهر شنيل فأبصروا في ضياء الغروب الشاحب فارسا مسلماً,قد غاص هو و فرسه في الحديد ,فاستوقفوه ليعرفوه ,فعمد إلى كبيرهم فانتزعه من سرجه وضرب به الارض .ثم حمل عليهم حملة من يطلب الموت ,يهجم ولا يدافع ,ويضرب ولا يتقي ,حتى قتل اكثرهم . ثم تناوشته السيوف من كل جهة فجرح ,وأصابت الرماح فرسه فصرع . فلما خرّ مضرَّجا بدمه ترجل الفرسان ليحيوه أو ليأسِروه , فجثا على ركبتيه واستل خنجره أخذ يثخن فبهم حقى خارت قواه من كثرة ما نزف من دمه . وخشي أن يقع في أسر عدوه فارتد إلى الوراء و قذف بنفسه في النهر فغاص من ثقل دروعه إلى قاعه
لم يرض أن يستسلم لعباد الصليب و قاوم مقامة الأشاوس .
اللهم قيض لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أولياؤك و يذل فيه أعداؤك
اللهم آمين.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
المفضلات