{
وإذ قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم }..
وهو دعاء غريب؛ يصور حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق، حتى ولو كان حقاً! إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق، وأن يهديها إليه، دون أن تجد في هذا غضاضة.
ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة، تأخذها العزة بالإثم، حتى لتؤثر الهلاك والعذاب، على أن تخضع للحق عندما يكشف لها واضحاً لا ريب فيه.. وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكة يواجهون دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن هذه الدعوة هي التي انتصرت في النهاية في وجه هذا العناد الجامح الشموس!
ويعقب السياق على هذا العناد، وعلى هذا الادعاء، بأنهم مع استحقاقهم لإمطار الحجارة عليهم من السماء وللعذاب الأليم الذي طلبوه - إن كان هذا هو الحق من عنده - وإنه للحق.. مع هذا فإن الله قد أمسك عنهم عذاب الاستئصال الذي أخذ به المكذبين قبلهم. لأن رسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم، ولا يزال يدعوهم إلى الهدى. والله لا يعذبهم عذاب الاستئصال والرسول فيهم. كما أنه لا يعذبهم هذا العذاب على معاصيهم إذا كانوا يستغفرون منها؛ وليس تأخير العذاب عنهم لمجرد أنهم أهل هذا البيت. فهم ليسوا بأولياء هذا البيت إنما أولياؤه المتقون:
{
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون، ولكن أكثرهم لا يعلمون، وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية. فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون }..
إنها رحمة الله تمهلهم فلا يأخذهم الله بعنادهم؛ ولا يأخذهم بصدهم عن المسجد الحرام - وقد كانوا يمنعون المسلمين أن يحجوا إليه، وهم لا يمنعون أحداً ولا يهيجونه عنه!
إنها رحمة الله تمهلهم عسى أن يستجيب للهدى منهم من تخالط بشاشة الإيمان قلبه - ولو بعد حين - وما دام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم، يدعوهم، فهنالك توقع لاستجابة البعض منهم؛ فهم إكراماً لوجود رسول الله بينهم يمهلون. والطريق أمامهم لاتقاء عذاب الاستئصال دائماً مفتوح إذا هم استجابوا واستغفروا عما فرط منهم وأنابوا:
{
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون }..
فأما لو عاملهم الله بما هم فيه فهم مستحقون لهذا العذاب:
{
وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام. وما كانوا أولياءه. إن أولياؤه إلا المتقون، ولكن أكثرهم لا يعلمون }..
إنه لا يمنع العذاب عنهم ما يدعونه من أنهم ورثة إبراهيم وسدنة بيت الله الحرام.. فهذه ليست سوى دعوى لا أساس لها من الواقع. إنهم ليسوا أولياء هذا البيت ولا أصحابه. إنهم أعداء هذا البيت وغاصبوه! إن بيت الله الحرام ليس تركة يرثها الخلف عن السلف. إنه بيت الله يرثه أولياء الله المتقون لله.
. ومثله دعواهم أنهم ورثة إبراهيم - عليه السلام - فوراثة إبراهيم ليست وراثة دم ونسب؛ إنما هي وراثة دين وعقيدة. والمتقون هم ورثة إبراهيم وبيت الله الذي بناه لله؛ فإذا هم يصدون عنه أولياءه الحقيقيين المؤمنين بدين إبراهيم!
إنهم ليسوا أولياء لهذا البيت وإن كانوا يصلون عنده صلاتهم. فما هذه بصلاة! إنما كانت صفيراً بالأفواه وتصفيفاً بالأيدي، وهرجاً ومرجاً لا وقار فيه، ولا استشعار لحرمة البيت، ولا خشوع لهيبة الله.
عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض، ويصفقون ويصفرون.
وإن هذا ليخطر بالبال صور العازفين المصفقين الصاخبين الممرغين خدودهم على الأعتاب والمقامات اليوم في كثير من البلاد التي يسمونها " بلاد المسلمين "! إنها الجاهلية تبرز في صورة من صورها الكثيرة. بعدما برزت في صورتها الواضحة الكبيرة: صورة ألوهية العبيد في الأرض، وحاكميتهم في حياة الناس.. وإذا وقعت هذه فكل صور الجاهلية الأخرى إنما هي تبع لها، وفرع منها!
{
فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون }..
وهو ذلك العذاب الذي نزل بهم في بدر بأيدي العصبة المسلمة. فأما العذاب الذي طلبوه - عذاب الاستئصال المعروف - فهو مؤجل عنهم، رحمة من الله بهم، وإكراماً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ومقامه فيهم، عسى أن ينتهي بهم الأمر إلى التوبة والاستغفار مما هم فيه.
والكفار ينفقون أموالهم ليتعاونوا على الصد عن سبيل الله.. هكذا فعلوا يوم بدر، على نحو ما ذكرنا في سياق الحديث عن الموقعة من كتب السيرة.. وهكذا ظلوا بعد بدر يستعدون للوقعة التالية. والله ينذرهم بالخيبة فيما يبغون وبالحسرة على ما ينفقون، ويعدهم الهزيمة في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة:
{
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله. فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة؛ ثم يغلبون؛ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون. ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض، فيركمه جميعاً، فيجعله في جهنم، أولئك هم الخاسرون }..
-----------------
ويذكر مُدعي الشبهة بالشبهة السابقة قول :
علّمنا الله أن النفس التي تخطئ هي تموت، لأنه لا يوجد إنسان كامل حتى يزِر وازرة إنسانٍ آخر، ولكن الله بمحبته أرسل لنا المسيح الذي حمل كل أوزارنا وصالحنا مع الله إلى الأبد.
https://www.ebnmaryam.com/vb/showthread.php?t=5228
والآن يقول :
تعلمنا التوراة أن الخطية فعل شنيع، فالله قد عاقب اليهود لأن واحداً منهم أخطأ وخالف أمر الله (أنظر قصة عخان بن كرمى في يشوع 7). ولم يحاول أيُّ نبيٍّ أن يجد أعذاراً للكفَّار من قومه، خاصةً وأنهم طلبوا العذاب بأنفسهم.
تناقض عجيب ..... هذا يكشف لنا أن الأمر ليس أكشاف شبهات بل محولات فاشلة للكيد من القرآن الكريم
المفضلات