لطالما خدعت الأبصار أصحابها ، مخبرة ًإياهم بأن الأرض ثابتة ، و أن الشمس تتحرك حول هذه الأرض ، تطلع كل يوم من جهة المشرق ، و تغادر في نهاية اليوم من جهة المغرب ، فما كان من الناس إلا أن عظموا الشمس و اعتبروها كبير الآلهة ...
و لكن القرآن ، كلام الرحمن ، خالق السماوات و الأرض ، العليم بكل شيء ، كان له قول آخر ...
نبدأ بالآية الصريحة القاطعة في الأمر ، و هي قول الله تعالى : { و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون } [ النمل / 88 ] .
أما عن مجيء هذه الآية في سياق الحديث عن شدائد و أهوال الساعة { و يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات و الأرض إلا من شاء الله و كل أتوه داخرين * و ترى الجبال تحسبها جامدة ... } ، فهذا من الأسلوب الحكيم في مخاطبة عقول البشر بما يتفق مع مداركهم و أفهامهم ، فلو أن الله تعالى جعل الأمر صريحا ًمكشوفا ً فذكر هذه الآية بعد آية من آيات الأحكام أو آية من الآيات التي تحث على فعل الخير ، لما آمن أحد من الناس بالقرآن و لقالوا : هذا كذب مستحيل نحن نراها بأم أعيننا ساكنة في أماكنها مطلق السكون ... و لكنه سبحانه ذكر هذه الآية بعد الحديث عن أهوال القيامة حتى يظن الناس في الأزمان السابقة أن هذه الآية تتحدث عن الآخرة ... و لكن و بما أن القرآن جاء لكل زمان و مكان فقد غاير سبحانه و تعالى بين الصيغتين : { و يوم يُنفخ في الصور } ، { و ترى الجبال تحسبها جامدة } ، فجاءت الآية الأولى بصيغة المجهول ، و جاءت الآية الثانية بصيغة المعلوم ، و بأسلوب المخاطبة للناظر المشاهد الذي يرى الجبال بعينيه ، حتى إذا جاء عصر الأقمار الصناعية ، و المراكب الفضائية ، و عصر غزو الفضاء ، رأى الناس بأم أعينهم صدق ما أخبر به القرآن .
و لو عدنا الى الآية التي تسبق هاتين الآيتين لوجدناها تتحدث عن الليل و النهار ، الذان ينتجان عن دوران الأرض حول محورها ، يقول تعالى : { ألم يروا أنّا جعلنا الّيل ليسكنوا فيه و النهار مبصراً ًإن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون * و يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات و الأرض إلا من شاء الله و كل أتوه داخرين * و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون } [ النمل / 86 – 88 ] ، و يظهر لنا هنا كيف أن الآيتين ( 86 و 88 ) مترابطتان أتم الإرتباط ، و لكن الله تعالى ذكر الآية ( 87 ) التي تتحدث عن يوم القيامة بينهما حتى يستوعب هذا القرآن جميع الأزمان ...
و مما يجعلنا نجزم بأن الآية { و ترى الجبال تحسبها جامدة ... } لا تتحدث عن يوم القيامة هو ببساطة أن الجبال عند قيام الساعة ستنسف و تتلاشى ، و هذا ما صرحت به الآيات القرآنية ، فيقول تبارك و تعالى : { و يسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعا ًصفصفا ً* لا ترى فيها عوجا ًو لا أمتا ً} [ طه / 105 – 107 ] ، و يقول سبحانه : { إذا رجت الأرض رجا ً* و بست الجبال بسا ً* فكانت هباءً منبثا ً} [ الواقعة / 4 – 6 ] ؛ أي كالغبار المتطاير ، و يقول تعالى : { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * و تكون الجبال كالعهن المنفوش } [القارعة / 4 – 5 ] ؛ أي كالقطن المتطاير، و يقول : { يوم تكون السماء كالمهل * و تكون الجبال كالعهن } [ المعارج / 8 – 9 ] ، و يقول : { و إذا الجبال نسفت } [ المرسلات / 10 ] ، و يقول : { يوم ترجف الأرض و الجبال و كانت الجبال كثيبا ًمهيلا ً} [ المزمل / 14 ] ، أي تصير الجبال مثل كثبان الرمل ، و ذلك قبل نسفها ، و يقول : { و حملت الأرض و الجبال فدكتا دكة واحدة} [ الحاقة / 14 ] ، و يقول : { و سيرت الجبال فكانت سرابا ً} [ النبأ / 20 ] ؛ أي نسفت الجبال حتى صارت كالسراب الذي يظنه الناظر ماء و هو في الحقيقة هباء ، و يقول : { و يوم نسير الجبال و ترى الأرض بارزة } [ الكهف / 47 ] ، أي نزيل الجبال من أماكنها حتى تصبح الأرض بارزة ، بمعنى أنها تصبح ظاهرة للعيان ليس عليها ما يسترها من جبل و لا شجر و لا بنيان ...
إذا ًليس هناك أي جبال يوم القيامة ، و لا وديان ، و لا هضاب ، فكيف يمكن للإنسان أن ينظر الى الجبال و يحسبها جامدة و هي قد تناثرت عند النفخ في الصور ؟؟
ثم إن الناس يكونون عند النفخة في فزع و إضطراب يفقدهم الرشد و الصواب ، و الواحد منهم حاله كحال السكران ، فمن أين لهم الإستمتاع برؤية الجبال و هي تسير ؟ و إذا كانت المرأة تذهل عن وليدها و تسقط حملها من أثر الزلزلة ، فكيف يتأتى للبشر النظر الى الجبال ؟! { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت و تضع كل ذات حمل حملها و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكن عذاب الله شديد } [ الحج / 2 ] .
و هنا قد يسأل سائل : كيف فهم السابقون هذه الآية { و ترى الجبال تحسبها جامدة ... } على أنها تتحدث عن يوم القيامة مع أنه لا وجود للجبال في ذلك اليوم ؟.. و هنا نذكر ما كتبه الجلالين في تفسيرهما لهذه الآية : " ( و ترى الجبال ) تبصرها وقت النفخة (تحسبها جامدة ) تظنها واقفة مكانها لعظمها ( و هي تمر مر السحاب ) تمر مر المطر إذا ضربته الريح ؛ أي تسير سيره حتى تقع على الأرض فتستوي بها مبسوسة ، ثم تصير كالعهن ، ثم تصير هباءً منثورا " ، فهكذا فهمت هذه الآية ، مع ما في هذا التفسير من تكلف و تأويل ...
و نشير الى أن بعض المفسرين اللذين أمعنوا النظر في هذه الآية عرفوا أنها تتحدث عن الدنيا ، فنجد الإمام الرازي يقول : " و وجه حسبانهم أنها جامدة أن الأجسام الكبار ، إذا تحركت سريعة على نهج واحد ، ظنّ الناظر إليها أنها واقفة ، مع أنها تمر مرا ًسريعا " ، و يقول الإمام البيضاوي : " ( و ترى الجبال تحسبها جامدة ) ثابتة في مكانها ، ( و هي تمر مر السحاب ) في السرعة ، و ذلك لأن الأجرام الكبار إذا تحركت في سمت واحد لا تكاد تبين حركتها ( صنع الله ) مصدر مؤكد لنفسه و هو لمضمون الجملة السابقة ( الذي أتقن كل شيء ) أحكم خلقه و سواه على ما ينبغي " .
و من المفسرين من ذهب الى تفسير هذه الآية بأسلوب مجازي ، فنجد الإمام الماوردي يقول : " ضُرب في تفسير هذه الآية ثلاثة أقوال :- الأول : أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا ، حيث يظن الناظر اليها أنها واقفة كالجبال ، و هي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب ، الثاني : أنه مثل ضربه الله للإيمان ، تحسبه ثابتا ًفي القلب كالجبال ، بينما عمله صاعد إلى السماء ، الثالث : أنه مثل ضربه الله للنفس عند خروج الروح " .
و الآن نعود للآية ... يقول الله تعالى : { و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون } ، و لا بد لنا أن نتوقف عند كلمة ( تحسبها ) ، فهذه الكلمة في غاية الدقة و الإعجاز ، حيث أنها تشير الى النسبية في الحركة ، فنحن محمولين مع الجبال على نفس القطار و هو الأرض ، و هذا يجعلنا نظن أن الجبال ثابتة مع أنها تتحرك ، و السبب في ذلك أننا نتحرك معها ، و هذا ما أشارت اليه الآية بشكل صريح ، فالآية تخبرنا بكل وضوح أننا نظر الى الجبال نحسبها جامدة و لكنها في الحقيقة تمر مسرعة ...
و لا بد لنا من وقفة أخرى عند قوله تعالى : { و هي تمر مر السحاب } ، و نتسائل : لماذا كالسحاب و ليس كالريح أو البرق أو غير ذلك ؟.. و الجواب : أن السحاب كما هو معروف لعلماء الطبيعة الجوية لا يتحرك بذاته ولكن ينتقل محمولا ًعلى الرياح ، فكذلك الجبال يراها الرائي فيظنها جامدة في مكانها بينما هي في الحقيقة تمر مسرعة محمولة على الأرض ...
و بعد ذلك يلفت القرآن أنظار المتأملين في آياته البينات لفتة بديعة رائعة في قوله سبحانه : { صنع الله الذي أتقن كل شيء } فبين أن هذا الأمر المدهش ( حركة الجبال ) هو أثر صنع الله و تدبيره لهذا الكون ، و هذا لا يكون الا في الحياة الدنيا ، و أما عند قيام الساعة فيحل الخراب و الدمار ، ومثل هذا لا يوصف بالصنع و لا بالإتقان ، فالصنع و الإبداع إنما يكون في البناء و لا يمكن أبدا ًأن يكون في التدمير ، فبالإمكان أن ننسف عمارة من خمسين طابق بشيءٍ من المتفجرات خلال ثوان ٍ، فهل يقال ان هذا اتقان و ابداع ؟!
و مرة أخرى ينبهنا الله عزّ و جلّ بأن هذه الآية تتحدث عن الدنيا ، فيختم الآية بقوله : { إنه خبير بما تفعلون } ؛ أي أنه سبحانه عالم بما تفعلونه الآن في الدنيا ...
صدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم : { و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون } .
و من الآيات القرآنية التي تشير الى دوران الأرض حول محورهاقوله تعالى عن الشمس في سورة الشمس :{ و النهار اذا جلاها }[ الشمس / 3 ] ، فالآية تقررحقيقة أن دخول منطقة ما الى النصف المضيء من سطح الكرة الأرضية ( النهار ) يؤدي الى ظهور الشمس و تجليتها ، أي أن الآية تشير الى أن الشمس في جميع الأوقات ثابتة في مكانها – بالنسبة للأرض – و لكن الدخول في منطقة النهار هو الذي يؤدي الى ظهورها و تجليتها ... هذه الإشارة واضحة جدا ًفالآية تقرر أن النهار هو الذي يظهر الشمس و ليس الشمس هي التي تظهر النهار كما في الإعتقاد الخاطئ بأن الشمس تدور حول الأرض ...
الدخول في منطقة النهار هو الذي يظهر الشمس
و من الآيات التي تشير الى دوران الأرض حول محورها قوله تعالى : { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } [ الحديد / 6 ] ، وحيث إنه لا معنى مطلقا ًلإيلاج زمن الليل في زمن النهار أو بالعكس ، فالمقصود بكل من الليل والنهار هنا هو المكان الذي يتغشيانه ، بمعنى ان الله تعالى يدخل نصف الأرض الذي يخيم عليه ظلام الليل بالتدريج في النصف الذي يعمه النهار، كما يدخل نصف الأرض الذي يعمه النهار بالتدريج في النصف الذي تخيم عليه ظلمة الليل ، وهذا معناه بلغة الطبيعة والفلك : أنه تعالى يجعل الأرض تدور حول نفسها أمام مصدر الضياء .
و يتضح لنا من الصورة السابقة أن عملية الإيلاج تتم على طول دائرة تحيط بالأرض و هي المنطقة التي يحدث في أحد و جهيها غروب للشمس و على الوجه الآخر يحدث شروق للشمس ، فالمناطق التي تكون في منطقة الليل تنتقل إلى منطقة النهار في نفس اللحظة التي تنتقل فيها مناطق أخرى تقع على خط طول مقابل من منطقة النهار إلى منطقة الليل و قد وردت عدة اشارات قرآنية الى هذه الحقيقة ، كما في قوله تعالى : { و الضحى * و الليل إذا سجى } ، و قوله تعالى : { و الليل إذا عسعس * و الصبح إذا تنفس } ، و قوله تعالى : { و اليل إذا يغشى * و النهار إذا تجلى } ، حيث تؤكد هذه الآيات على أنه عندما تشرق الشمس في منطقة ما ، فان المنطقة المقابلة لها تكون قد دخلت في وقت الغروب .
آية أخرى تشير الى حقيقة دوران الأرض حول محورها هي قوله تعالى : { و آية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون } [ يس / 37 ] ، الحقيقة أن هذه الآية مذهلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، فمن الذي كان يجرؤ زمن نزول القرآن على أن يصف تبدل الليل و النهار بمثل هذا الوصف ؟ و حيث إنه لا معنى لسلخ زمن النهار من زمن الليل ، يتضح ان الله تعالى قد ذكر الليل وقصد مكانه الذي يحدث فيه ، ومعنى الآية ان الله ينزع نور النهار من أماكن الأرض التي يتغشاها الليل بالتدريج كما ينزع جلد الذبيحة عن كامل بدنها بالتدريج ، ولا يكون ذلك إلا بدوران الأرض حول محورها امام الشمس ، فالمقصود إذا ًبسلخ الليل من النهار هو فصل النور من مكانه الذي سيصير مكان الليل ... وإن في تشبيه إزالة نور النهار من سطح الأرض بإزالة الجلد من اللحم إشارة قوية لبيان أن طبقة النهار طبقة رقيقة ، و هذه هي الحقيقة فسمك طبقة النهار لا يتجاوز الواحد على مائة من قطر الأرض ... و اذا ما تذكرنا معتقد الناس قديما ًعن السماء في النهار نجد أنفسنا أمام كلمات قرآنية غاية في الدقة و الإعجاز .
و يشير أيضا ًالى دوران الأرض حول محورها قوله تعالى : { يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا } [ الأعراف / 54 ] ، و معنى هذه الآية أن الله تعالى يغطي بظلمة الليل مكان نور النهار على الأرض بالتدريج فيصير ليلا ً، و هذا بالضبط ما يحصل نتيجة لدوران الأرض حول نفسها ، كما و يشير وصفه تعالى للنهار بأنه يطلب الليل حثيثا ( سريعا ً) الى سرعة حركة الأرض حول نفسها ، و الحقيقة أن هذا الوصف غاية في الإعجاز ، فما كان يراه الناس زمن النبي – عليه الصلاة و السلام – هو أن الليل و النهار يحلان بمنتهى البطء و التدرج !
النهار هو الذي يجلي الشمس ، و الليل يُسلخ منه النهار ، و النهار يطلب الليل حثيثا ... من كان يجرؤ على استخدام مثل هذه التعبيرات في الأزمان السابقة ؟ و لكنه التعبير القرآني المعجز الذي يستوعب جميع الأزمان ...
* * *
المفضلات