النفس بين تلبية الغريزة ونداء العقل
النفس لها تأثيرها البالغ على الإنسان كصمّام الأمان للطاقة الحيوية التي بدورها تشتمل على الغرائز والحاجات العضوية وتُفَعّل الإنسان وتدفعه للقيام بما من شأنه إشباعها.
ميدل ايست اونلاين
بقلم: حسن الحسن
تتشكل شخصية الإنسان من عقلية ونفسية، وهذا أمر مدرك بالحس المتصل مباشرة بواقع الإنسان، ويحدد انسجامهما أو تباينهما نمط الشخصية وطبيعة الحكم عليها.
والعقل هو أداة التمييز والإدراك والفهم، وهو ميزة الإنسان، إن انتفى، رُفع التكليف عنه، وتعطلت لديه القدرة على التفكر والتأمل والتدبر، ويفقد آنذاك معنى تميزه عن بقية الخلائق المشاهدة. ومن هنا كان العقل مفتاح ارتقاء الإنسان وإعماله سبب نهوضه.
وأما النفس فإنها تقابل العقل، وهي التي تصوغ طبائع الإنسان، وتضفي لشخصيته نمطاً معيناً، فتمنحها نكهة وبصمة خاصتين، لذلك يقال: إنّ زيدا شرير، بسبب نفسه الحسودة الحقودة، أو لأنه جشع طماع. ويقال إن عَمْراً خيّر طيّب كون نفسيته أبية سخية سمحة، يحب الخير للآخرين ويعفو عن أخطائهم ويلتمس لهم الأعذار.
وتنسب للنفس صفات تختص بها، كالطيبة والشجاعة والسخاء والمروءة، أو كالبخل والخسة والصّغار، وهي على غرار الصفات التي تنسب للعقل وتختص به، كذكي أو غبي، نبيه سريع البديهة أو بليد.
والنفس لها تأثيرها البالغ على الإنسان، فهي صمّام الأمان للطاقة الحيوية، التي بدورها تشتمل على الغرائز والحاجات العضوية وتُفَعّل الإنسان وتدفعه للقيام بما من شأنه إشباعها.
وإذا تخلّى الإنسان عن عقله وأتبع نفسه هواها، أصبح أسير شهواته الغرائزية وحاجاته العضوية، لتتحكما بنفسيته، فتهيمنا على تصرفاته وسلوكياته بشكل مطلق، وتصبح الشهوة والغريزة والجوعة آنذاك هي من يسيطر على النفسية ويرعاها، وبالتالي ترتخي النفس وتضعف الإرادة، ويبدأ صاحبها باللهاث وراء إشباع شهواته بأكبر قدر من حيث الكم، وبشكل مطلق من حيث الكيف، ويحصل ذلك بشكل تلقائي، تماما كما هو الحال عند الحيوان، وربما أسوأ.
وبما أن نفس الإنسان هي حجر الأساس في استقامة سلوكه وصفائه ونقائه وبناء شخصيته السوية السليمة، كان لا بد من سبر أغوارها وبلورتها، بشكل ينتج وعيا على حسن رعايتها، والاعتناء بها وتهذيبها من الآفات التي ألمت بها. إلا أنه ينبغي إدراك أننا عندما نتحدث عن النفس، فإننا نتناول تحديدا: الميول التي تحرر وتضبط علاقة الغرائز الدافعة لنشاط الإنسان بعقله المرشد له.
ومن جراء استقراء واقع حياة البشر، نرى أن النفس هي ناتج طبيعي لمجموعة من العوامل. فالصفات الوراثية، والبيئة الاجتماعية، والأوضاع العامة السائدة في المجتمع، والظروف التي يخضع لها الإنسان ويحياها، والعادات والتقاليد التي يتربى وينشأ عليها، تمثل بلا أدنى شك الجزء الجوهري في تكوين نفسيته، وتعكسها بوضوح في شخصيته.
خذ أهل الشيشان مثلا، الذين ورثوا الإباء والشجاعة والتحدي كابراً عن كابر، تأبى نفوسهم الضيم وترفض الخضوع للأعداء مهما طال الزمن. على خلاف كثير من الشعوب، التي يعيش أهلها كسالى راضين بواقعهم السيئ، متميزين بالأنانية الفردية الصارخة، نفوسهم خانعة ذليلة، تدور مع المنفعة حيث دارت كثور الساقية، الشح شعارهم والاستسلام للواقع دينهم، وتبرير كل فعل خسيس ديدنهم؛ كل ذلك وغيره، جراء سيطرة الثقافة الغربية في مجتمعاتهم وإطباقها عليهم.
وكذلك يغلب الصدق والوفاء والاتزان على من يعيش حياة مستقرة هنيئة ويتمتع بالطمأنينة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولو كان كافراً، على النقيض ممن يعيش حالة اضطراب وقلق وفوضى وظلم وفقر واضطهاد وسوء رعاية من حاكمه، مما يبرر له الكذب والغش وقلة الوفاء بل ونهش أقرب الناس إليه، ولو كان مسلما.
كما أن انتشار المفاهيم الفاسدة التي ترسخ لدى الناس الارتباط الكلي بالدنيا، مع إشاعة الأجواء التي تطلق للشهوات عنانها، وتبرز المثاليات بالسيقان العارية وبالجمال الأخاذ، وبامتلاك مفاتن الحياة ومفاتيح المتعة كيفما اتفق تحت عنوان، "كفانا بؤسا نريد أن نعيش" يدفع الإنسان إلى الاستهتار بالقيم الرفيعة، ويحفزه إلى التماس أيسر أشكال الحياة ولو كانت في منتهى الانحطاط، والرضى بالعيش ولو بالحد الأدنى، أي العيش الذي يمنحه الشهيق والزفير فقط، طالما أنّ الارتقاء يشترط تغيير الواقع، الذي يتطلب تضحية وبذلاً وجهداً مما يتنافى مع مطلب السلامة، ومصداق ذلك ما شاع على ألسن الكثيرين: " نحن نركض وراء الرغيف طوال اليوم، وبالكاد نجد الخبز لنأكله، وتطلب منا إنهاض الأمة والعمل على تغيير واقعها المزري!؟"
أضف إلى تأثر النفس بالمفاهيم والقيم الشائعة أو وراثة صفات الآباء والأجداد، عامل العيش في ظل نظام يفرض وجهة نظر معينة، وطريقة عيش محددة. فقد كان سكان الاتحاد السوفياتي المنهار، يمقتون التجارة وينفرون منها، ويعتبرون القيام بها معيبا وأقرب إلى العار جراء ارتباطهم بالمبدأ الاشتراكي، الذي يمقت الرأسمالية والرأسماليين، وهي وجهة النظر التي كانت تسود في أميركا وأوروبا الغربية قبل انهياره، حيث تعتبر التجارة ومتعلقاتها من بورصة ومضاربات وعملات وشركات أهم ما يشغل بال الناس، بل إن جوهر الحياة وأهم قيمه هي ما يتعلق "بالبيزنس" الذي حول كل شيء إلى مجرد سلعة للبيع والشراء والمقايضة بما فيها البشر، ومن هنا نرى مدى تأثير النظام المطبق على صياغة نفوس الناس قديماً وحديثاً وأهميته.
يتبع باذن الله
المفضلات