التأدب مع الله (مباحث جد خطيرة!)
ولقد ذكر الإمام الفخر بعد ذلك رد الفراء عليهم, ولكنها تخريجات عجيبة كذلك! يشعر من يقرأها بأن اللسان العربي لسان لا منطقية فيه!! وكل هذا أن السادة النحويين وضعوا كلام البشر بمساواة كلام رب العالمين, بل وربما قدموه أحيانا فيختلقون بيت شعر يستدلون به, ولا ينتبهون إلى عشرات الآيات القرآنية, التي وردت مخالفة لم يقولون!
وبسبب هذه التخريجات العجيبة أصبحنا لا نستطيع أن نفهم كلام الله إلا بافتراض زيادات محذوفة, فإذا قرأنا مثلا قوله تعالى: " قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ [الشعراء : 12]" أصبحنا نفهمها تلقائيا: يا رب!
ويجب أن نُقوم أذهاننا عن هذه الإضافة ونعود ألسنتنا على الدعاء بدون "يا" فلم يأت ذلك الحرف في دعاء واحد في القرآن, فنتعود على أن نقول: رب, ربنا أو اللهم أو إلهنا .. اغفر لنا وارحمنا ... إلخ!
ونحن في غنى عن هذه التخريجات العجيبة, فليست الميم عوضا عن أي محذوف متوهم! وإنما هي للتعظيم والتفخيم!
والعرب تزيد الميم لتأكيد المعنى وتوكيده ولبيان زيادة سمة الشيء, ولقد أورد ابن منظور نماذج لهذه الزيادة في اللسان, فعند حديثه عن الجَذعَمة, قال "الجذعمة: الصغير. وفي حديث علي: أسلم أبو بكر رضي الله عنهما، وأنا جذعمة، وأصله جذعة، والميم زائدة، أراد: وأنا جذع أي حديث السن غير مدرك، فزاد في آخره ميماً. كما زادوها في الابن فقالوا: ابنم, كما ورد ذلك في شعر حسان رضي الله عنه:
ولدنا بني العنقاء وابني محرق فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما
ومما أورده ابن منظور في اللسان:
"الزرقم: الازرق الشديد (بوزن فرح) والمرأة زرقم أيضا، والذكر والانثى في ذلك سواء، قال الراجز: ليست بكحلاء ولكن زرقم * ولا برسحاء ولكن ستهم. وقال اللحيانى رجل أزرق وزرقم، وامرأة زرقاء بينة الزرق وزرقمة" اهـ
والحق يقال فلقد استغرق الوصول إلى هذا التوجيه فترة طويلة, فأخذت أبحث هل قال بهذا التوجيه آخرون, فهذا مما يزيد النفس اطمئنانا –ويشجع الآخرين على تقبله!- فوجدت أن الإمام ابن القيم يحكي أن هناك من قال به ويؤيده, ثم يعلل إلحاق الميم بلفظ الجلالة تعليلا لغويا طيبا, يغني المرء عن الكتابة حوله!
لذا فإننا سنكتفي بإيراد ما قاله الإمام ابن القيم –رحمه الله- في كتابه "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام", حيث قال بعد أن رد على من يقول أن "الميم" عوض عن يا النداء, وأبطل حججهم:
"وقيل: زيدت الميم للتعظيم والتفخيم, كزيادتها في "زرقم" لشديد الزرقة, "وابنم" في الابن, و هذا القول صحيح و لكن يحتاج إلى تتمة, وقائله لحظ معنا صحيحا لابد من بيانه.
وهو أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه, ومخرجها يقتضي ذلك, وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ و المعنى, كما هو مذهب أساطين العربية, وعقد له أبو الفتح بن جني بابا في الخصائص و ذكره عن سبويه, و استدل عليه بأنواع من تناسب اللفظ و المعنى, ثم قال: ولقد مكثت برهة يرد عليّ اللفظ لا أعلم موضوعه, وآخذ معناه من قوة لفظه, ومناسبة تلك الحروف لذلك المعنى ثم أكشفه فأجده كما فهمته أو قريبا منه, فحكيت لشيخ الإسلام هذا عن ابن الجني, فقال: وأنا كثيرا ما يجري لي ذلك, ثم ذكر لي فصلا عظيم النفع في التناسب بين اللفظ و المعنى, ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ, وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى, و الفتحة خفيفة للمعنى الخفيف, و المتوسطة للمتوسط, فيقولون: "عزَّ يعَزُّ" بفتح العين إذا صلب "وأرض عزاز" صلبة، و يقولون" عزَّ يعِزُّ" بكسرها إذا امتنع, و الممتنع فوق الصلب, فقد يكون الشيء صلبا و لا يمتنع على كاسره, ثم يقولون: "عزَّه يعُزُّه" إذا غلبه, قال الله تعالى في قصة داود:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}صّ: من الآية23, والغلبة أقوى من الامتناع, إذ قد يكون الشيء ممتنعا في نفسه, متحصنا عن عدوه, و لا يغلب غيره, فالغالب أقوى من الممتنع فأعطوه أقوى الحركات, و الصلب أضعف من الممتنع فأعطوه أقوى الحركات, و الصلب أضعف من الممتنع فأعطوه أضعف الحركات, و الممتنع المتوسط بين المرتبتين فأعطوه حركة الوسط. (...............)
ومثل هذه المعاني يستدعي لطاقة ذهن, ورقة طبع, ولا تتأتى مع غلظ القلوب, و الرضى بأوائل مسائل النحو و التصريف دون تأملها و تدبرها, و النظر إلى حكمة الواضع و مطالعة ما في هذه اللغة الباهرة من الأسرار التي تدق على أكثر العقول, و هذا باب ينبه الفاضل على ما وراءه { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}النور:40, و انظر إلى تسميتهم الغليظ الجافي بالعتل و الجعضري و الجواظ كيف تجد هذه الألفاظ تنادي على ما تحتها من المعاني, (..........) ولو أطلقنا عنان القلم في ذلك لطال مداه, واستعصى على الضبط, فلنرجع إلى ما جرى الكلام بسببه فنقول:
" الميم" حرف شفهي يجمع الناطق به, فوضعته العرب علما على الجمع, فقالوا للواحد, " أنت" فإذا جاوزه إلى الجمع قالوا: " أنتم" و قالوا للواحد الغائب: "هو" فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا: " هم", وكذلك في المتصل يقولون: ضربت, ضربتم, و إياك, و إياكم, و إياه, و إياهم, نظائره نحو: به و بهم, و يقولون للشيء الأزرق أزرق فإذا اشتدت زرقته و اجتمعت واستحكمت قالوا: " زرقم" و يقولون للكبير الأست: " ستهم".
وتأمل الألفاظ التي فيها الميم كيف نجد الجمع معقودا بها مثل: " لم الشيء يلمه" إذا جمعه, و منه: " لم الله شعثه" أي ما تفرق من أموره, ومنه قولهم: "دار لمومة" أي تلم الناس و تجمعهم, ومنه: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً} الفجر:19, جاء في تفسيرها: يأكل نصيبه ونصيب صاحبه, و أصله من "اللم" وهو الجمع, كما يقال: " لفه يلفه", ومنه : " ألام بالشيء" إذا قارب الاجتماع به و الوصول به, ومنه: " اللمم" وهو مقاربة الاجتماع بالكبائر, ومنه:" الملمة"وهي النازلة التي تصيب العبد, ومنه:"اللُمة" وهي الشعر الذي قد اجتمع و تقلص حتى جاوز شحمة الأذن, ومنه: " تم الشيء" وما تصرف منها, ومنه : "بدر التم" إذا كمل واجتمع نوره, و منه: " التوأم" للوالدين المجتمعين في بطن, ومنه: " الأم" وأم الشيء أصله الذي تفرع منه فهو الجامع له, و به سميت مكة أم القرى, والفاتحة أم القرآن, واللوح المحفوظ أم الكتاب, قال الجوهري: أم الشيء أصله, ومكة أم القرى, و أم مثواك : صاحبة منزلك, يعني التي تأوي إليها, و تجتمع معها, أم الدماغ: الجلدة التي تجمع الدماغ, و يقال لها: أم الرأس, و قوله تعالى في الآيات المحكمات:{ هُنَّ أُمُ الكِتَاب}آل عمران: 7, والأمة: الجماعة المتساوية في الخلقة أو الزمان, قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}الأنعام: من38. (............)
و إذا علم هذا من شأن الميم, فهم ألحقوها في آخر هذا الاسم الذي يسأل الله سبحانه به في كل حاجة و كل حال, إيذانا بجميع أسمائه و صفاته, فالسائل إذا قال : " اللهم إني أسألك" كأنه قال أدعوا الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى بأسمائه و صفاته, (الله تعالى ليس له صفات, وإنما له أسماء حسنى فقط!, والقول بأن لله صفات قول ما أنزل له به من سلطان! –عمرو-)
فأتى بالميم بمؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم إيذانا بسؤاله تعالى بأسمائه كلها, (........) وهذا القول الذي اخترنا, قد جاء عن غير واحد من السلف.
قال الحسن البصري: " اللهم " مجمع الدعاء.
وقال أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قوله: " اللهم" فيها تسعة وتسعون اسما من أسماء الله تعالى. وقال النضر بن شميل: من قال: " اللهم" فقد دعا بجميع أسمائه." اهـ </B></I>
المفضلات