-
مقومات بناء دولة المسلمين في المدينة
مقومات بناء دولة المسلمين في المدينة(1)
للكاتب : إعداد: وحدة البحث العلمي بمجلة الفرقان
لا تقوم دولة جديدة إلا على أركان ثابتة، ومقومات قوية، ومن أهم مقومات بناء الدولة الإسلامية الجديدة هو رجل العقيدة، الذي سيقوم بإخلاص وصبر، بمهام بناء الدولة؛ بل والحفاظ على كيانها، وحمايتها من الأعداء.
وأهل المدينة (الأنصار) هم من قام بهذه المهمة خير قيام، فأحسنوا استقبال المهاجرين، ووفروا المكان وهيؤوه جيدًا، وقاموا بحماية الدولة الإسلامية الناشئة، ووثقوا في القيادة وأطاعوها، وآمنوا بالمنهج الإسلامي وعظَّموه، وقدموه بقناعة على غيره، واستبسلوا في الدفاع عن هذه الدولة الفتية، وقدموا التضحيات المتواصلة ابتغاء وجه الله تعالى لحماية الكيان الجديد، والمحافظة عليه من الانهيار، لذلك شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ دخـوله المدينة لتثبيت دعائم الدولة الجديدة على هذه القواعد المتينة، والأسس الراسخة، ونقف هنا على تلك الأركان من كتاب الرحيق المختوم للشيخ صفي الرحمن المباركفوري رحمه الله نأخذ منه بتصرف قطوفاً مختصرة، ولاسيما في تلك الفترة العصيبة التي تمر بها الأمة؛ لعلنا نقدم مثالا يحتذى به لقادة الأمة ودعاتها، وقد ذكر الشيخ أن الأركان التي قامت عليها بناء الدولة الجديدة في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم هي:
- أولًا: بناء المسجد.
- ثانيًا: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
- ثالثًا: إصدار وثيقة المدينة التي تنظم العلاقة بين المسلمين واليهود ومشركي المدينة.
- رابعًا: إعداد الجيش لحماية الدولة.
- خامسًا: استمرارية البناء التربوي والعلمي.
أولًا: بناء المسجد:
كان أول ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بناء المسجد، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين، وتنقي القلب من أدران الشرك وأدناس الحياة الدنيا، روى البخاري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المدينة راكبًا راحلته، فصار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدًا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنـزل» ثم دعا رسول اللهصلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدًا فقالا: “لا، بل نهبه لك يا رسول الله”، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما.
بعدها شرع الرسول صلى الله عليه وسلم في العمل مع أصحابه، فاستكمل بناء المسجد، ليكون متعبدًا لصلاة المؤمنين وذكرهم وتسبيحهم لله، وتقديسهم إياه بحمده وشكره على نعمه عليهم، يدخله كل مسلم، ويقيم فيه صلاته وعبادته.
أنشئ المسجد ليكون ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه والوافدين عليه، طلبًا للهداية ورغبة في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته.
أنشئ المسجد ليكون جامعة للعلوم، وليكون مدرسة يتدارس فيها المؤمنون، ومعهدًا يؤمه طلاب العلم من كل صوب؛ ليتفقهوا في الدين ويرجعوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلًا بعد جيل.
أنشئ ليجد الغريب فيه مأوى، وابن السبيل مستقرًا لا تكدره منَّة أحد عليه، فينهل من رفده ويعب من هدايته ما أطاق استعداده النفسي والعقلي، لا يصده أحد عن علم أو معرفة أو لون من ألوان الهداية، فكم من قائد تخرج فيه، وبرزت بطولته بين جدرانه، وكم من عالم استبحر علمه في رحابه، ثم خرج به على الناس يروي ظمأهم للمعرفة، وكم من داعٍ إلى الله تلقى في ساحاته دروس الدعوة إلى الله فكان أسوة الدعاة، وقدوة الهداة، وريحانة جَذَبَ القلوب شذاها فانجفلت تأخذ عنها الهداية لتستضيء بأنوارها، وكم من أعرابي جلف لا يفرق بين الأحمر والأصفر، وفد عليه فدخله ورأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله هالة تحف به، يسمعون منه وكأن على رؤوسهم الطير، فسمع معهم وكانت عنده نعمة العقل مخبأة تحت ستار الجهالة، فانكشف له غطاء عقله، فعقل وفقه، واهتدى واستضاء، ثم عاد إلى قومه إمامًا يدعوهم إلى الله، ويربيهم بعلمه الذي علم، وسلوكه الذي سلك فآمنوا بدعوته، واهتدوا بهديه، فكانوا سطرًا منيرًا في كتاب التاريخ الإسلامي. أنشئ المسجد ليكون قلعة لاجتماع المجاهدين إذا استُنفروا، تعقد فيه ألوية الجهاد والدعوة إلى الله، وتخفق فيه فوق رؤوس القادة الرايات للتوجه إلى مواقع الأحداث، وفي ظلها يقف جند الله في نشوة ترقب النصر أو الشهادة.
أنشئ المسجد ليجد فيه المجتمع المسلم الجديد ركنًا في زواياه، ليكون مشفى يستشفى فيه جرحى كتائب الجهاد ليتمكن نبي الله صلى الله عليه وسلم من عيادتهم، والنظر في أحوالهم، والاستطباب لهم، ومداواتهم في غير مشقة ولا نصب تقديرًا لفضلهم.
أنشئ المسجد ليكون مركزًا لبريد الإسلام، منه تصدر الأخبار، ويبرد البريد، وتصدر الرسائل، وفيه تتلقى الأنباء السياسية سلمًا أو حربًا، وفيه تتلقى وتقرأ رسائل البشائر بالنصر، ورسائل طلب المدد، وفيه ينعى الشهداء في معارك الجهاد ليتأسى بهم المتأسون؛ وليتنافس في الاقتداء بهم المتنافسون.
أنشئ المسجد ليكون مرقبًا للمجتمع المسلم، يتعرف منه على حركات العدو المريبة ويرقبها، ولاسيما الأعداء الذين يساكنونه ويخالطونه في بلده من شراذم اليهود وزمر المنافقين ونفايات الوثنية.
المسجد له تاريخه وله دوره في حياة المسلمين، يجهل كثير من المسلمين تاريخ مسجدهم ودوره وما يجب عليهم تجاهه.
بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده ليكون روضة من رياض الجنة، إمامه محمد صلى الله عليه وسلم وتلاميذه: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت، ومواده المقررة وحي الله -عز وجل- وأما مطلبه فهو أن تكون كلمة الله هي العليا.
عُمّار المساجد هم أولياء الله -عز وجل- وأحبابه من خلقه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}(التوبة: 18)، لذلك فأعداء هذا الدين بجميع مللهم ونحلهم لا يريدون للمساجد أن تُعمر، ولعلمهم بأن المساجد تهدد بقاءهم وتحول بينهم وبين شهواتهم، وتُنهي تواجدهم في الأرض، فهم لذلك لا يريدون عمارتها، وإنما يسعون جاهدين إلى هدمها وإزالتها من الأرض، ولذلك وصفهم الحق -سبحانه وتعالى- بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(البقرة: 114).
المساجد بيوت الله -عز وجل- في الأرض، أطهر ساحات الدنيا، وأنقى بقاع الأرض، فيها تتآلف القلوب المؤمنة، وتنـزل رحمات الرب، وتهبط ملائكة الله، وتحل السكينة والخشوع.
المسجد هيئة لتأديب القلوب وتهذيب الأرواح، فالقلوب لا تتأدب إلا بالتربية المتأنية والكلمة اللينة والقدوة الحسنة، وهذه كلها وجدت في مسجده -عليه الصلاة والسلام- ولذا فمن أراد أن يربي نفسه فليلزم المسجد، ومن أراد أن يربي ولده فليُلزمه المسجد، وننصح من يقومون على تربية الناشئة أن يعودوهم على لزوم المساجد؛ فإنها خير معين على ذلك.
ولذلك فإن المساجد في عصور السلف الصالح خرّجت قادة الدنيا وأصحاب التأثير في تاريخ الإنسانية، فالخلفاء الراشدون من أين تخرجوا؟ وأين تعلموا؟ العبادلة الأربعة والقادة الفاتحون والشهداء في سبيل الله جميعهم كانوا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الثلة الخيرة والنخبة المصطفاة الذين كانوا عبادًا للحجر فأصبحوا قادة وزعماء للبشر، وكانوا رعاة للغنم فأصبحوا سادة للأمم، جميعهم تخرجوا من مسجد المدينة، مسجد محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان مبنيًا من الطين ومسقوفًا بجريد النخيل، فماذا فعلت مساجدنا التي بنيت بأرقى الخامات؟ وصممت على أحدث التصميمات؟ هل أثرت في مسيرة هذه الأمة؟ هل أخرجت لنا وللأمة المسلمة علمًا نافعًا وعملًا صالحًا؟ هل وقفت مساجدنا سدًا منيعًا أمام حملات الغزو الفكري والعسكري والتيارات الهدامة من العولمة والحداثة والعلمانية وغيرها؟ هل بعثت الفكر من مرقده وأيقظته من سباته؟ هل شحذت الهمم وحركت المشاعر في النفوس؟ هل بثت النور في قارات الأرض؟ وهل عبرت منها الكلمات الصادقة عبر المحيطات؟.
- الجواب معروف: لا وألف لا، وذلك أمر يؤسف له، أما لماذا؟ فلأننا عمرنا مساجدنا بالبناء ولم نعمرها بالذكر والدعاء، ولأننا عمرناها بالزخارف والألوان ولم نعمرها بتلاوة القرآن، ولأننا لم نتعامل مع المسجد كما تعامل معه أولئك الكرام.
عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد». هذا هو الواقع الحالي في تعاملنا اليوم مع المساجد التي أصبحت مظاهر، وأصبحت آيات في حسن البناء وروعة الهندسة، تعجب الناظرين وتسرهم في مظهرها، إلا أنها في مخبرها وجوهرها لم تؤد رسالة، ولم تحقق هدفًا، فعقم جيلها، وسكتت ألسنتها، واختفت حلقاتها، وانطفأ نورها، وانعدم دورها.
تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين
-
مقومات بناء دولة المسلمين في المدينة(2)
للكاتب : إعداد: وحدة البحث العلمي بمجلة الفرقان
استكمالا لما بدأنا الحديث عنه في مقومات بناء دولة المسلمين في المدينة، أخذًا من كتاب الشيخ صفي الرحمن المباركفوري نتتناول اليوم المقوم الثاني من تلك المقومات وهو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
وقد كان مبدأ التآخي العام بين المسلمين قائمًا منذ بداية الدعوة في عهدها المكي، وقد أكد القرآن الكريم الأخوة العامة بين أبناء الأمة في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران: 103)، أما هنا فهو المؤاخاة الخاصة التي شرعت وترتبت عليها حقوق وواجبات أخص من الحقوق والواجبات العامة بين المؤمنين كافة.
لقد أسهم نظام المؤاخاة في ربط الأمة بعضها ببعض، فقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصلة على أساس الإخاء الكامل بينهم، هذا الإخاء الذي تذوب فيه عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وتسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقدًا نافذًا لا لفظًا فارغًا، وعملًا يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر، وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر: 9).
إن التآخي الذي تم بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقًا بعقيدة تم اللقاء عليها والإيمان بها، فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى خرافة ووهم، ولاسيما إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في الحياة العملية، ولذلك كانت العقيدة الإسلامية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت؛ لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله دون الالتفات لأي فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح؛ إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء والتعاون والإيثار بين أناس فرقتهم العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كل منهم ملكًا لأنانيته وأثرته وأهوائه.
وعبد الرحمن بن عوف –رضي الله عنه- يحدثنا عن هذه المعاني الرفيعة؛ حيث قال: “لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: «إني أكثر الأنصار مالًا فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها».
لم يعرف تاريخ البشر كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الفعالة، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء.
فهذه المقاسمة وهذا التكافل الاجتماعي، كان من أهم العناصر التي مهدت لإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين معه وبعده إقامة طيبة تنبض بالإيثار على النفس وبود الأخوة الصادقة المؤمنة. بهذه الروح العالية والإيمان الوثيق والصدق في المعاملة تمت المؤاخاة، وتم الوفاق بين المهاجرين والأنصار.
وقد يحدث تساؤل فيقال: لماذا لم نسمع ولم تسجل المصادر ولم تكتب المراجع أن خلافات وقعت في هذه البيوت؟ وأين النساء وما اشتهرن به من مشاكسات؟
إنه الدين الحق الذي جعل تقوى الله أساسًا لتصرف كل نفس، والأخلاق السامية التي فرضت الأخوة بين المسلمين ونصرة الدعوة، وإنها المبايعة وأثرها في النفوس، إنه الصدق والعمل من أجل المجموعة خوفًا من العقاب ورهبة من اليوم الآخر، ورغبة في الثواب وطمعًا في الجنة، إنه دفء حضانة الإيمان، واستقامة النفس والسلوك وصدق الطوية، فكل من أسلم وكل من بايع وكل من أسلمت وبايعت يعملون جميعهم بما يُؤمرون به، ويُخلصون فيما يقولون، يخافون الله في السر والعلن، آمنت نفوسهم فاحتضنت الأنصارية المهاجرة، فالكل يعمل من أجل مصلحة الكل، فهذا هو التكافل الاجتماعي في أجلى صورة وأقدس واقعة، رغب الكل في الثواب حتى إن الواحد منهم يخاف ذهاب الأنصاري بالأجر كله.
إن جانب البذل والعطاء ظاهرة نحن بحاجة إلى الإشارة إليها في كل وقت، إننا في عالمنا المعاصر، وفي الصف الإسلامي، وفي رحلة لبضعة أيام تتكشف النفوس والعيوب والحزازات والظنون، وهذا مجتمع يبني ولما يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، ومع ذلك تُفتح البيوت للوافدين الجدد ليس على مستوى فرد فقط؛ بل على مستوى جماعي كذلك، ويقيم المهاجرون في بيوت الأنصار أشهرًا عدة، والمعايشة اليومية مستمرة، والأنصار يبذلون المال والحب والخدمات لإخوانهم القادمين إليهم.
نحن أمام مجتمع إسلامي بلغ الذروة في لحمته وانصهاره، ولم يكن المهاجرون إلا القدوة للأنصار بالبذل والعطاء، فلم يكونوا أصلًا فقراء، بل كانوا يملكون المال ويملكون الدار، وتركوا ذلك كله ابتغاء مرضاة الله، وبذلوه كله لطاعته -جل وعلا-، فكانوا كما وصفهم القرآن الكريم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحشر: 8).
إن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى مثل هذه المؤاخاة التي حدثت بين المهاجرين والأنصار؛ لأنه يستحيل أن تستأنف حياة إسلامية عزيزة قوية إذا لم تتخلق المجتمعات الإسلامية بهذه الأخلاق الكريمة، وترتقي إلى هذا المستوى الإيماني الرفيع وإلى هذه التضحيات الكبيرة.
وقد حققت المؤاخاة أهدافها في ذلك المجتمع الرباني، فمنها: إذهاب وحشة الغربة للمهاجرين ومؤانستهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، وشد أزر بعضهم بعضًا، ومنها: نهوض الدولة الجديدة؛ لأن أي دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها، ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة، فكل جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخي الحقيقية، لا يمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة في الأمة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألف منها دولة.
تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين
-
مقومات بناء دولة المسلمين في المدينة (3)
للكاتب : إعداد: وحدة البحث العلمي بمجلة الفرقان
استكمالا لما بدأنا الحديث عنه في مقومات بناء دولة المسلمين في المدينة، أخذا من كتاب الشيخ صفي الرحمن المباركفوري نتتناول اليوم المقوم الثالث من تلك المقومات وهو الوثيقة أو الصحيفة:
فقد نظم النبي -صلى الله عليه وسلم - العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتابًا أوردته المصادر التاريخية، واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة وتحديد الحقوق والواجبات، وقد سميت في المصادر القديمة بالكتاب أو الصحيفة، ومما جاء فيها:
- هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فَلَحق بهم وجاهد معهم.
- إنهم أمة واحدة من دون الناس.
- المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدُون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
- وبنو عوف على ربعتهم.
- وبنو ساعدة على ربعتهم. ثم عدّد عددًا من القبائل.
- وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم.
- ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن.
- وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
- وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
- وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
- وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا أو يُؤويه، وإن من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
-وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد -[-.
- وإن لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يُهلك إلا نفسه وأهل بيته.
- وإن بطانة يهود كأنفسهم.
- وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد -صلى الله عليه وسلم -.
- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
- وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
هذه بعض المواد التي جاءت في تلكم الصحيفة أو الوثيقة، ولنا مع هذه الوثيقة بعض التأملات:
- أولًا: تضمنت الصحيفة مبادئ عامة، درجت دساتير الدول الحديثة على وضعها فيها، وفي طليعة هذه المبادئ تحديد مفهوم الأمة، فالأمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعًا مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم، ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس، وهذا شيء جديد في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب؛ إذ نَقل الرسول -صلى الله عليه وسلم - قومه من شعار القبلية والتبعية لها، إلى شعار الأمة التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، وقد جاء به القرآن الكريم في قول الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:92)، وأصبحوا أمة واحدة تربط أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم، وتتحد أفكارهم، وتتحد قبلتهم ووجهتهم وولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف.
- ثانيًا: جعلت الصحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم -، فقد نصت على مرجع فض الخلاف وقد جاء فيها: «وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم -»: والمغزى من ذلك واضح وهو تأكيد سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة، وتفصل في الخلافات؛ منعًا لقيام اضطرابات في الداخل من جرّاء تعدد السلطات، وفي نفس الوقت تأكيد ضمني برئاسة الرسول -صلى الله عليه وسلم - على الدولة.
- ثالثًا: تحديد إقليم الدولة: جاء في الصحيفة: «وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة»: إن المدينة كانت -بداية- إقليم الدولة الإسلامية، ونقطة الانطلاق ومركز الدائرة، وقد أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم - أصحابه ليثبتوا أعلامًا على حدود حرم المدينة من جميع الجهات، وحدود المدينة بين لابتيها شرقًا وغربًا، وبين جبل ثور في الشمال وجبل عَيْر في الجنوب.
ثم اتسع الإقليم باتساع الفتح، ودخـول شعوب البلاد المفتوحة في الإسلام حتى عم مساحة واسعة في الأرض والبحر وما يعلوها من فضاء، حتى وصلت حدود الدولة الإسلامية المحيط الأطلسي غربًا ومناطق واسعة من غرب أوربا وجنوبها ومناطق فسيحة من غرب آسيا وجنوبها، إلى أكثر أهل الصين وروسيا شرقًا وكل شمال إفريقيا وأواسطها.
إن إقليم الدولة مفتوح وغير محدود بحدود جغرافية أو سياسية، فهو يبدأ من عاصمة الدولة المدينة، ويتسع حتى يشمل الكرة الأرضية بأسرها، قال الله تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف:128)، كما أن مفهوم الأمة مفتوح وغير منغلق على فئة دون فئة، بل هي ممتدة لتشمل الإنسانية كلها، إذا ما استجابت لدين الله تعالى الذي ارتضاه لخلقه ولبني آدم أينما كانوا، فالدولة الإسلامية دولة الرسالة العالمية، لكل فرد من أبناء المعمورة نصيب فيها، وهي تتوسع بوسيلة الجهاد في سبيل الله تعالى.
تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة بن حلبية في المنتدى دراسات حول الكتاب المقدس والنصرانية للأستاذ بن حلبية
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 05-01-2012, 08:57 PM
-
بواسطة مطالب السمو في المنتدى المنتدى العام
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 07-03-2011, 11:22 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 08-10-2010, 12:02 PM
-
بواسطة gardanyah في المنتدى من ثمارهم تعرفونهم
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 06-12-2009, 09:23 PM
-
بواسطة ronya في المنتدى منتديات المسلمة
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 06-12-2009, 05:48 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات