الحمدُ للهِ حمدَ عبدٍ ابتلاهُ فصبر، ثمَّ أنعمَ عليهِ فشكر، والصلاة ُوالسَّلامُ على الهادي البشيرِ النذيرِ سيدِ البشر
.
ومن سارَ على دربهِ لتصحيح ِالمفاهيم ِ والفكر، ومن اهتدى للخيرِ وبمن أصابهُ الشقاءُ والبلاءُ فاتعظَ واعتبر .
والصَّلاة ُوالسَّلامُ على الرحمةِ المهداة ِ، محمدٍ بن ِ عبدِ اللهِ ، وعلى آلهِ وصحبهِ ومن والاه، واتبعَ هداهُ وسلكَ خطاهُ ، وسارَ على نهجهِ إلى يوم ِ يلقاهُ .
وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، وأنَّ مُحمداً عبدُهُ ورسُولهُ .
وبعدُ عبادَ اللهِ : يقولُ الحقُّ جلَّ وعلا في الآيةِ الأخيرةِ من سورةِ آل ِعمرانَ : ( يا أيُّها الذينَ آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا اللهَ لعلكم تفلحون {200} ) .
ويقولُ في سورةِ البقرة: ( ولنبلونـَّكم بشيءٍ منَ الخوفِ والجوع ِ ونقص ٍ مِنَ الأموال ِ والأنفس ِ والثمراتِ وبشرِ الصَّابرين {155} ) البقرة
فالصَّبرُ هو ضبط ُالنفس ِوتوطينـُهَا على التسليم ِ المطلق ِبقضاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ والرضا بما يكونُ من غيرِ تأففٍ أوِ اعتراض ٍ .
وقد بيَّنَ عُلماءُ سلفِنا الصالح ِأنواع َ الصَّبرِ وحَصروهَا في مواطنَ ثلاثة :
أوَّلها : الصَّبرُ على البلوى ، وفي هذا فقد بَيَّنَ الحبيبُ المصطفى صلى اللهُ عليهِ وسلمَ عظيمَ منزلِةِ أولئكَ الذين يصبرونَ على ما ابتلوا بهِ عندَ ربِّهم
إذ يقولُ عليه السلام : ( عجباً لأمرِ المؤمن ِ إنَّ أمرَهُ كلـَّهُ لهُ خير، وليسَ ذلكَ لأحدٍ إلاَّ للمؤمن : إن أصابتهُ سراءُ شكر، فكانَ خيراً لهُ , وإن أصابتهُ ضراءُ صبر فكانَ خيراً له )
ويقولُ : ( ما أعطيَ أحدٌ عطاءً خيراً وأوسعَ من الصبرِ ) فاللهُ عزَّ وجلَّ إذا أحبَّ عبداً ابتلاهُ حتى يلقى اللهَ وليسَ عليهِ ذنب ، فما أعظمَهُ من إلهٍ ، وما أكرمَهُ من خالق, يَمُنُّ علينا فنبتلى، ويُنعِمُ علينا فيُدْخِلـُنـَا جنتهُ بغيرِ حساب .
ألآ فاعلموا عبادَ اللهِ يرحَمني وإياكم اللهُ : أنَّ الذهبَ يُجَرَّبُ بالنارِ أمَّا المُؤمنُ فيُختبرُ ويُمتحنُ بالإبتلاءاتِ فمن صبرَ فلهُ الرضى ومن سَخِط فعليهِ السُّخط .
وثانيها : الصَّبرُ على الطاعةِ ، لأنَّ تأدية َالعباداتِ وإقامة َالشعائرِ تحتاجُ إلى أناةٍ وحُسْن ِ تأتيْ إنْ كانتْ متعلقة ًبإخضاع ِ الجوارح ِ وتهذيبِ النفوس ِ كالصلاةِ والصيام ِ والزكاةِ وغيرها، وتحتاجُ إلى جَلدٍ وشدَّةِ بأس ٍٍ وقوةِ ساعدٍ إنْ كانتْ مُتعلقة ًبإقامةِ حدٍّ أو قتال ِعدو ٍأو دفع ِ محتل ٍ،أو التـَّكتـُّل ِمَعَ حركةٍ لحمل ِ الدعوةِ ونشرٍ للإسلام ، وفي كلِّ الحالاتِ فإنَّ الصَّبرَ لا بُدَّ أنْ يكونَ رديفَ كلٍّ منهُمَا ، حتى تكونَ الأمورُ على الوجهِ الذي بَيـَّنـَهُ الشارع ُ الحكيم .
وأمَّا ثالثها : وهو الصبرُ عن ِالمعصيةِ ، وحبسُ النفس ِعن ِالوقوع ِ فيما نهى اللهُ ورسُولـُهُ عنه , وصدقَ اللهُ : ( إنَّ النـَّفسَ لأمَّارة ٌ بالسُّوءِ إلاَّ ما رحِمَ ربِّي {52} ) يوسف .
ويقولُ المصطفى صلى الله ُعليهِ وسلمَ : ( حُفـَّتِ الجنـَّة ُ بالمكارِهِ ، وحُفـَّتِ النـَّارُ بالشهوات) فالنـَّفسُ البشريَّة ُ كما تميلُ إلى الدَّعَةِ والراحةِ فإنَّها كذلكَ تميلُ إلى التلذذِ والاستمتاع ِ، فلا بدَّ وأنْ توَطنَ على حُبِّ الطاعَةِ وإتيانِهَا ، وبُغض ِ المعصيةِ ومجانبتِهَا ، ولا بُدَّ كذلكَ من عدم ِ اتباع ِالهوى وموافقةِ النـَّفس ِ إنْ كانَ مَيلـُهَا مُخالفاً لِمَا أمرَاللهُ جلَّ وعلا، بلْ يجبُ الصَّبرُ وتجبُ المصابَرة ُ، ولِيَعلمَ المرءُ أنَّهُ مسؤولٌ أمامَ اللهِ ومُآخذ ٌعلى مااقترفتْ يداه .
أيُّها الإخوة ُالعقلاء : إنَّ أعظمَ مصيبةٍ حَلتْ بالمسلمينَ تمثلت في هدم ِ دولتِهم ، وتغييبِ سُلطانِهم وقد صبروا على حكام ٍأذلاءَ خونةٍ للهِ ورسُولِهِ وجماعةِ المسلمين ، وهذا صبرٌ منهيٌّ عنهُ ، بلْ يتوجبُ العملُ على قلعِهم بالعمل ِ الجادِّ المتواصِل ِ مَعَ العاملينَ صبروا على ما أوذوا في سبيل ِفكرتِهـِمُ التي يَسْعَوْنَ لإيجادِهَا، فالصَّبرَ الصَّبرْ، والعملَ العملْ ، حتى يقضِيَ اللهُ أمرَهُ ، ويُعِزَّ المؤمنينَ ويمحقَ الكافرينَ .
وصدقَ اللهُ العليُّ العظيمُ إذ يقول: ( والعصرِ{1} إنَّ الإنسانَ لفي خسرٍ{2}إلاَّ الذينَ آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ وتواصوا بالحقِّ وتواصوا بالصَّبرِ{3} ) العصر
ويقولْ : ( فإنَّ مَعَ العسرِ يُسراً{5} إنَّ مَعَ العسرِ يُسراً{6} ) الانشراح .
وقد أوضحَ عليهِ السلام معنى هاتين ِالآيتين ِ فقال : ( ما غلبَ عسرٌيسرين )
وقالَ أيضاً : ( إنَّ النَّصرَ مَعَ الصَّبرِ، وإنَّ الفرجَ مَعَ الكربِ ، وإنَّ مَعَ العُسرِ يُسرا )
وعن خبَّابِ بن ِالأرتِّ رضيَ الله ُعنهُ قال : شكونا إلى رسول ِاللهِ صلى الله ُعليهِ وسلمَ وهو مُتوسِّدٌ بُردَة ً لهُ في ظِلِّ الكعبةِ فقلنا:ألا تدعوا لنا ؟ ألا تستنصِرلنا ؟ فقال : ( قد كانَ مَنْ قبلـَكُم يُؤخذ ُ الرجلُ فيُحفرُ لهُ في الأرض ِفيُجعلُ فيها ، ثمَّ يُؤتى بالمنشارِ فيُوضعُ على رأسِهِ فيُجعلُ نصفين ِ، ويُمشـَّطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دونَ لحمِهِ وعظمهِ ، ما يَصدُّهُ ذلكَ عن دينهِ ، واللهِ ليُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَالراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتٍ ، لا يخافُ إلاَّ اللهَ ، والذئبَ على غنمهِ ، ولكنَّكم تستعجلون ) .
إخوتي في الله : الإبتلاءُ هو اختبارُ معادن ِ المؤمنينَ ومدى تحمُّلِهم، فأشدُّ الناس ِابتلاءً الأنبياء ، ثمَّ الأمثلُ فالأمثل ، ولقد ابتليُ منْ هوَ خيرٌ منَّا فصبر ونالَ من الأذى ما لم يحتمِلـْهُ بشر، من أوَّل ِيوم ٍ لِبعثتهِ عليهِ السلامُ إلى يوم ِ إسرائهِ ، وتكذيبهِ والسُّخريةِ منهُ ، إلى تهكم ِ أبي لهبٍ وزوجهِ ، وعنادِ قريش ٍ وكبرائِهَا ، وأشواكُ وحجارة ُ سُفهائِهَا ، إلى المقاطعةِ ثلاثِ سنواتٍ في شِعبِ أبي طالب ، وما تضمَّـنتهُ الوثيقة ُمن نصوص ٍجائرةٍ ، حتى كانَ ورقُ الشجرِ قوتـُهُمْ ، ليبدأ بعدَ ذلكَ البطشُ والقتلُ والتنكيلُ ، وكلما عَظُمَ البلاءُ زادَ الثباتُ وعظُمَ اليقينُ بقربِ نصرِاللهِ ، وصدقَ اللهُ ( فما وَهنوا لِمَا أصابَهمْ في سبيل ِ اللهِ وما ضعُفـُوا وما استكانوا ، واللهُ يحبُّ الصابرين {146} ) آل عمران .
لتعودَ دائرة ُالابتلاءِ على المسلمينَ حتى بعدَ إقامتِهمْ للدولة .
وهذا موقفٌ لصاحبِ النبوءاتِ والبشاراتِ لعلهَا تحركُ قلبَ غافل ٍ بالعثراتِ ، وتزيدُ المؤمنَ فوقَ يقينِهِ يقيناً بأنَّ وعدَ اللهِ آتٍ لقولِهِ تعالى ( وَعَدَ اللهُ الذينَ آمنوا منكـُم وعملوا الصالحاتِ ليستخلفنـَّهُم في الأرض ِكما استخلفَ الذينَ من قبلِهم ، وليمكـِّننَّ لهم دينهُمُ الذي ارتضى لهم وليبدِّلنـَّهُمْ من بعدِ خوفِهم أمنا {55} )النور .
كما وَعَدَ نبيَّهُ يومَ الأحزابِ فقال : ( إذ جاؤوكم من فوقِكم ومن أسفلَ منكم ، وإذ زاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ وتظنُّونَ باللهِ الظنونا {10} هنالكَ ابتـُليَ المؤمنونَ وزلزلوا زلزلاً شديداً {11} ) الأحزاب .
إخوة الإيمان : هذا وصفٌ لِمَا وقعَ على المسلمينَ يومَ الخندق ِ، وقد اجتمعَ الأحزابُ منْ كلِّ حَدْبٍ وصوب ، وأحاطوا بالمدينةِ إحاطة َ السوارِ بالمعصم ، وكانَ الخوفُ والجوع ُ والبردُ والرسولُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يَحفِرُ الخندقَ بيديهِ الشريفتين ِ ويبشِرُ بكنوزِ كسرى وقيصر ، أيُّ موقفٍ هذا!! فواللهِ لو كانَ هناكَ المرجفونَ وأضرابُهُم لقالوا : خلص نفسكَ وفكَّ قيدكَ قبلَ أن تعِدَ بفارسَ والروم . فصدقَ اللهُ وعدهُ ، ولبسَ سُرَاقة ُ سواري كسرى، وفتحتِ القسطنطينية ُ ، ليكونَ نعمَ الأميرُ أميرها ، ونعمَ الجيشُ جيشها ، وقد بُشرنا كذلكَ بفتح ِ روما معقل ِ الصليببيةِ ورفع ِ رايةِ الإسلام ِ فوقَ قبةِ الفاتيكان ، أيّ وربِّي : قد تحققَ الفتحُ الأولُ ، ودنت ساعة ُ الفتح ِ الثاني ، وسيبلغُ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنـَّهار ، ويسودَ الحقُّ وتنعمَ الإنسانية ُ بعدل ِ الإسلام ( ويقولونَ متى هو , قل عسى أن يكونَ قريبا {51} ) الإسراء .
أيُّها الإخوة ُالأكارم : كلمَا ألمَّ بالمسلم ِ كربٌ لجأ لركن ٍشديدٍ يأوي إليهِ ، فإنَّهُ لا ملجأ منَ اللهِ إلا إليه ، فاللهُ قد خلقنا لِيبلوَنا أيُّـنا أحسنُ عملا ، ثمَّ ليميزَ الخبيثَ من الطيبِ ، فلنصبر على البلوى ، فليستْ تحِقُّ في ذاتِ ربِّنا الشكوى ، ولنعملْ مَعَ العاملينَ لتغييرِ الواقع ِ السيئ ِالمريرِ الذي تعيشهُ الأمَّة ُمن أقصاها إلى أقصاها
أيُّها المُؤمنون ـ أيُّها المُوحدون : قد ابتليَ السَّابقونَ الأولونَ فصبروا على البأساءِ والضراءِ وزلزلوا ، أوذوا . فأخذوا بشروطِ النصر وتوكلوا على اللهِ ، فجاءهُمُ النصرُ والفتحُ المبين ، فالحمدُ للهِ الذي خلقـَنا في هذا
الزمان ِالعصيبِ، لِيبلوَنا أنصبرُ على بلائِهِ فنفوز، أم نجزعُ لقضائهِ فنخسر .
واعلموا عبادَ اللهِ يرحمكـُمُ اللهُ : أنَّ آلامَ المخاض ِ تسبقُ الولادة َ، وأحلكُ سوادِ الليل ِ آخرُهُ , وفجرُنا لا بُدَّ أن ينبلج ، فقد وَعَدَنا من إذا وَعَدَ أوفى ، بالنـَّصرِ المؤزرِ المُبين، كما وَعَدَ نبيَّهُ الكريمَ فقال : (ولينصُرَنَّ اللهُ من ينصُرُهُ , إنَّ اللهَ لقويٌّ عزيز{40} ) الحج
فهذي بشائرُ نصرِاللهِ قد أهلت ، وأوشكت على الشروق ِ شمسُهَا ، وكأني أرى خُيوط َ نورِهَا يتسللُ من بين ِالشقوق ِ مُؤذناً بشروقها ، لتنعَمَ الأمَّة ُ أولا , والبشرية ُ ثانيا , بدفئ ِ ظِلها .
وفي الختام ِ فليسَ أحَبَّ إلى نفسي من أن أزفَّ لكمْ بشرى محمدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ إذ يبشـِّرُ العاملينَ الذينَ يثقونَ بوعدِ اللهِ ويرونهُ رأيَ العين ، كلمح ِ البصرِ أو هو أقرب فيقول : ( إنَّ من ورائِكُم أياماً ، الصَّبرُ فيهنَّ مثلُ القابض ِعلى الجمرِ، للعامل ِفيهنَّ , مثلُ أجرِ خمسينَ رجلاً , يَعملونَ مثلَ عَمَلِكُم ، قالوا يا رسولَ الله :أجرُ خمسينَ منا أم منهم ؟ قال : بل أجرُ خمسينَ منكم ) أيْ أنَّ الذي يعملُ اليومَ لإعادةِ الإسلام ِ ومبايعةِ الإمام ِ لهُ منَ الأجر كخمسينَ صحابي ٍ مجتمعين، بشراكم أيها العاملون ، فاصبروا وصابروا ورابطوا ، واعملوا مَعَ العاملينَ المخلصينَ لإعزازِ هذا الدِّين ِ، وإظهارِهِ على الدين ِكلهِ فتكونوا كـَصَحَابةِ رسُول ِاللهِ صلى الله ُعليهِ وسلمَ في الأجرِ , لا بـِالفضل .
وصدقَ اللهُ العليُّ العظيم : ( وما جَعَـلهُ اللهُ إلاَّ بُشرى ولتطمَئنَّ بهِ قلوبـُكُم , وما النـَّصرُ إلاّ من عندِ اللهِ , إنَّ اللهَ عزيزٌ حكيم {10} ) الأنفال .
وما النـَّصرُ إلاَّ صبرُ ساعة وكفى بهِ ناصراً ومُعينا .
اللهمَّ نصرك ، اللهمَّ دينك ، اللهمَّ انصر الإسلامَ والمسلمين ، وأعل ِبفضلكَ كلمة َالحقِّ والدين وانصرهم على أعدائِكَ أعداءَ أمَّتِكَ أعداءَ الدين.
اللهمَّ أعزَّنا بالإسلام ، وأعِزَّ الإسلامَ بنا ، وأعزَّ الإسلامَ بقيام ِ دولةِ الإسلام ، اللهمَّ عجِّل بقيام ِدولةِ الخلافةِ لِيُعَزَّ بها كلُّ عزيزٍ ويُذلَّ بها كلُّ ذليل ٍ واجعلنا اللهمَّ شهداءَ يومَ قيامها واجعلنا اللهمَّ وإياكم ممن يستمعونَ القولَ فيتبعونَ أحسنهُ اللهمَّ اغفر للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأموات ِ، إنكَ يا مولانا قريبٌ سميعٌ مجيبُ الدَعَوات ِ , وآخرُ دعوانا أن ِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
منقول للفائدة
المفضلات