أرجو أن تضع يدك على جبهتك, وتشحذ تفكيرك, وتسأل نفسك هذا السؤال : ما هو الحلم الذي تعيش من أجله؟ وما هو الهمّ الذي تحمله ويشغلك ويؤرق عليك حياتك؟ وتفكر فيه ليل نهار؟ هل هو همّ الدراسة؟ أم الوظيفة؟ أم المكانة العالية؟ والشهرة الواسعة؟ هل هو همّ دنيوي؟ هل هو همّ أخروي؟ هل هو همّ عام؟ هل هو همّ خاص؟ أرجو أن تجيب على هذه الأسئلة, وتحتفظ بالإجابة لنفسك الآن .
واستسمحك الآن - وبعد أن سألت نفسك السؤال السابق - أن تنادي على طفلك أو طفلتك, أو غيرهما ممن شئت من أطفال العائلة, ثم اسأل أي منهم السؤال المعهود : ماذا تحب أن تكون في المستقبل؟
في كل الأحوال ستجد الأحلام خفيفة, والطموحات ضئيلة, والهمم كسيحة, والتطلعات محدودة - إلا من رحم ربي - . ففي أزمنة الضعف تَخِفُّ الأحلام, وتتضاءل الطموحات, وتصبح غايات الكثيرين محدودة لا طائل منها. ولكي أهون عليك فالمشكلة ليست خاصة بك, ولكنها عامة, فكلنا - يا عزيزي - في الهوا سوا.
الأسباب كثيرة - وليس المجال مجال تناولها هنا - ولكن يبقى أحد أهم أسباب هذه الظاهرة هو غياب ما يسمى بـ " النماذج الفذة " في مجتمعاتنا ولاسيما من الآباء والأمهات والمربين والمعلمين. غابت تلك النماذج, وانعدم دورها, وقل تشجيعها, وتلاشى تحفيزها لأبنائهم على طلب المعالي وبلوغ الكمالات, فوصلنا إلى الواقع الذي عكسته الإجابات التي سمعتها إن كنت طرحت الأسئلة التي استهللنا بها حديثنا.
ودعونا نتوقف سوياً مع بعض أصحاب الأحلام الكبيرة, علها تحفزنا وتجعلنا نحطم هذا الطوق المفروض علينا, ونخرج من دائرة الأحلام الخفيفة إلى دائرة الأحلام الكبيرة, والطموحات العالية, تلكم الدوائر التي هي الوضع الطبيعي الذي من المفترض أن يعيش فيها المسلم ويتواجد.
ومن هذه النماذج هند بنت عتبة أم معاوية ابن أبي سفيان, والتي كانت من النوع الطموح ولديها أحلام كبيرة. فذات يوم كانت بمنىً ومعها الفتى معاوية الذي عثر فوقع أرضا: فقالت له أمه :
· قُمْ , انهض لا رفعك الله.
· فقال لها أعرابي : لِمَ تقولين له هذا ؟ والله إني لا أراه إلا سيسود قومَه.
· فقالت له : قومه ؟ !! , لا رفعه الله إن لم يَسُدْ العرب قاطبة.
كان هذا باختصار هو حلم المرأة الكبير: أن يصبح ابنها سيداً من سادات العرب. فظل هذا الحلم الكبير شاخصاً أمامها لا يبارح مخيلتها. وظلت تعمل من أجله, تُحييه في نفس الغلام وتتعهده, وتمهد له الأجواء, وبالمحفزات تغذيه حتى كان. وصار معاوية أول خليفة من خلفاء الدولة الأموية, وحكم العرب والمسلمين ما يقرب من عشرين عاما. (ما بين عام 661م : 680م ) .
ويروى أن أم الدكتور أحمد زويل كانت من هذا النوع المسكون بالأحلام الكبيرة. فيروى أنها - وفي مرحله متقدمة من حياة الفتى أحمد - وضعت على غرفته ورقة مكتوب عليها:
" غرفة الدكتور أحمد زويل " .
لم يكن هذا الملصق الصغير سوى انعكاساً مباشراً للحلم الكبير الذي يعشش داخل الأم, التي أرادت من هذا الملصق أن يكون للفتى حافزاً ومنبهاً بالحلم الكبير الذي يسيطر عليها وتتمناه. ويبدوا أن الرسالة قد وصلت, فلم يخيب الفتى ظن الأم, وصار الدكتور أحمد زويل, وحاز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999م, وليصبح واحداً من علماء عصره المعدودين.
وكذا كانت أم الشيخ عبد الرحمن السديس التي كان حلمها مرتبطاً بطفلها, وظلت في غدوه ورواحه تذكره بالحلم: يا عبد الرحمن أنت إمام الحرم, يا عبد الرحمن اجتهد في حفظ كتاب الله فأنت إمام الحرم, يا عبد الرحمن اجتهد فأنت إمام الحرم, يا عبد الرحمن لا تكسل في حفظ وردك فكيف لإمام الحرم أن يكسل, وظلت الأم تذكّر الفتى بحلمها الكبير حتى كان. وصار الفتى عبد الرحمن هو الشيخ عبد الرحمن السديس إمام الحرم المكي وأحد علماء عصره الموهوبين.
ولا يمكن ونحن نتناول هكذا قضية أن نغفل ذكر الكسائي ( 737م : 805م ) أحد أبرز علماء النحو المعروفين والذي تعْجب حينما تعلم أنه أتقن علم النحو في مرحلة متقدمة من عمره, والسبب في ذلك كان خطأ لُغَويّا بسيطا وقع فيه. فيروى أن الرجل كان يجلس إلى قوم من العرب يتحدث معهم، فجاءهم وقد أحل به التعب, فقال
· لقد "عييت ".
· فقالوا: أتجالسنا وأنت تَلْحَن ؟
· فقال : كيف لحنت؟
· فقالوا : إن كنت أردت انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل : عييت، وإن كنت أردت التعب فقل : أعييت .
فأنف من هذه الكلمة, التي آلمَته كثيراً, وشعر بضآلة نفسه, ومدى جهله, فقام من فوره وسأل عمن يعلّم الناس النحو, فلزمهم, ولزم كبار علماء زمانه في النحو حتى أنفذ ما عندهم من العلم. وخطوة خطوة صار الكسائي أحد أئمة النحو المشهورين في تاريخنا.
لقد كان هذا الخطأ اللغوي البسيط الذي وقع فيه الكسائي هو الوقود الذي ولّد عنده حلماً كبيراً, بأن يعرف ويتعلم ويتفقه, حتى ولو كانت أقدامه على عتبات القبر وليس على عتبات الشيخوخة
وآخر هذه النماذج الفذة ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه - الذي اعتاد أن يأتي إلى النبي عليه الصلاة السلام فيقرب له وَضوءه وحاجته, ولما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يكافئه ذات يوم قال له:
· سلني يا ربيعة. ( فسكت ربيعة قليلاً, وظل يفكر ملياً وإذا به يقول
· يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة.
· فقال صلى الله عليه وسلم : أو غير ذلك ؟
· قال: هو ذاك.
· فقال عليه الصلاة والسلام: فأعِني على نفسك بكثرة السجود. " رواه مسلم " .
فكان ربيعة - على صغر سنه - لا يُرى إلا مصلياً أو ساجداً, ولم يفوت من عمره ساعة, ولم يٌفقد في صلاة جماعة. ولما لا وحلم الفتى كان كبيراً, وهل أكبر من الجنة حلماً.
إن الطريق إلى الأحلام الكبيرة يحتاج إلى نفوس كبيرة, وهمم أكبر وأكبر. فالمجد - كما قالوا - لا يأتي هبة, لكنه يحصل بالمناهبة. وأرجو أن يكون قد وصل إلى قلبك وعقلك معنى كلمة المناهبة.
وأرجو - مرة ثانية - وقبل أن تطوي هذه الصفحة أن تقارن بين الحلم الذي يشغلك, والهم الذي تحمله وتعيش من أجله من جهة, وبين طموحات هؤلاء وأحلامهم وهمومهم من جهة أخرى, علّ المقارنة تولّد عندك لحظة صدق تدفعك إلى التغيير, فتسعد أنت, وتسعد البشرية من وراء طموح رجل غيّر حلمُه العالم, أو حل مشاكل الأمة بعد ما قرأ أحلاماُ كبيرة لأشخاص كبار.
ولما لا ..؟
للامانة منقول
المفضلات