عودة الموتى
أَحَسَّ بسخونة فى وجهه ، وعينيه بدأت تتسع وتتسع حتى كادت أن تتخطى حاجبيه
وشعر باختناق أنفاسه ، فتحسس عنقه بأطراف أصابعه فشعر أن عروقه على وشك الانفجار
وأصابه دوار شديد ورعشة مفاجئة هزّت جسده كله ، هل هذه هى النهاية ؟
لا .. مستحيل أن تكون النهاية ، أمعقول أن يموت بهذا الشكل وفى هذا المكان ؟
انتفض فجأة وأصابه رعب شديد وحاول الهروب ..
فكيف سيلقى الله لو مات بين هؤلاء السكارى ؟
لكنه لم يستطع ، فقد تناول كمية كبيرة من طاعون العصر ( البانجو )
جعلته يترنح فى وهن وهو يتطلع إلى تلك الوجوه التى كان أصحابها يشاركونه السكر من لحظات
وكأنه يراهم لأول مرة ، رغم سهرات الأنس والفرفشه التي جمعته بهم أكثر من خمس سنوات !
يجتمعون كل ليلة تقريباً ليرتشفوا سوياً من نهر المعاصى ما يشاءون
ويتجرعون من كؤوس الشهوات حتى الصباح ، لكن يبدو أن هذه الليلة لن يظهر لها صباح !
أقاموا مسابقة فيما بينهم : أيهم يستطيع تناول أكبر كمية من هذا الملعون ؟
وبالطبع فاز هو ، وكانت النتيجة أن تسابقت دقات قلبه حتى كادت أن تتوقف
وراحوا يتضاحكون من تأرجحه ، وأنى لأحدهم أن يدرك ـ وهم فى سكرهم ـ أنه
أوشك على الإحتضار ، أما هو فقد دعا الله فى هذه اللحظات وبكل صدق
أن يأجل موته يوماً أو يومين ليتوب ، لكنه سقط .. سقط وانتهى الأمر .
*****
حملوه إلى منزله وفى حجرته وفوق فراشه طرحوه ، وبعد لحظات التف أهله
حوله ، ومن فوقهم كانت روحه تحوم فى سماء الحجرة
تراقب أمه وأباه
وأخته وأخاه وزوجته ، الكل يبكيه ..
على باب الحجرة وقف رجل يطالع الجسد الملقى فوق الفراش بدون حراك
كان ذو لحية بيضاء ، وشال أبيض ، وجلباب أبيض وعلى جبينه حبات عرق
أضافت على وجهه نوراً فوق نور ، وبدا وكأنه قادم من وسط الجنة
بعد أن غسل وجهه من سلسبيلها .
طلب أن يفسحوا له الطريق فأطاعوه ، اقترب من الجسد ،
ومن فوق الجميع أخذت الروح تراقب ما يحدث
نظر الرجل إلى وجهه فتراجع فى ذعر ونفور قائلآ :
- ألم يسجد هذا الشاب لربه أبداً ؟ إئتوا له بمغسل غيري .
ران فى الحجرة صوت رخيم ليس كأصوات البشر ولم يسمعه إلا ذلك الرجل وتلك التى
تحوم فى سقف الحجرة ، كان الصوت يأمره بالعودة لإتمام عمله
فعاد وهو يحمل فوق شفتيه ابتسامة غريبة ، وبدأ يجرده من ثيابه
ثم سكب الماء ، ثم عاد فألبسه ثيابه مرة أخرى ، ونادى :
أن ائتوا له بنعش لتحملوه إلى المسجد ثم انصرف .
وضعوه فى نعشه واتجهوا به فوراً إلى القبور دون أن يصلوا عليه ،
فصرخت روحه من فوقهم تناشدهم:
- إنه لم يصلى عليه ، اذهبوا به إلى المسجد .
لم يكن لصراخها صوت ، ولم يكن يمشى خلف جنازته أحد على الإطلاق
غير أولئك الرجال الأربعة الذين يحملون النعش ، وهم ذاتهم من كان
يجتمع بهم كل ليلة ليرتشفوا سوياً من نهر المعاصى ما يشاءون ويتجرعون
من كؤوس الشهوات حتى الصباح ، لم يستطيعوا أن يكملوا به الطريق حتى القبر
فقذفوا به من فوق أكتافهم فسقط ، ووافق سقوطه من
فوق نعشه سقوطه من فوق سريره
فى حجرة نومه ، فقام من فوره يتوضأ ليلبى نداء الفجر الذى حان
وعندما خطا خطواته الأولى نحو المسجد شعر فى أعماقه بشىء
يُبعث من جديد
[COLOR="Black"]انتهت
بقلم /حسن ناجح
[/COLOR]
المفضلات