لماذا ولدت يارب في بيت لحم؟
للمتنيح الأنبا غريغوريوس
لماذا ولدت يارب في بيت لحم..؟هل كان ذلك صدفة؟كلا,فنحن نؤمن أن شيئا ما-خصوصا بالنسبة لك-لا يمكن أن يقع مصادفة واتفاقا,فأنت يا مخلصي وخالقي ضابط الكون ومدبره.
إذن لماذا ولدت في بيت لحم,ولماذا لم تولد في الناصرة وهي موطن العذراء,أمك بالجسد...وموطن البار يوسف النجار الذي اتخذته لك أبا اعتباريا وهو ليس أباك علي الحقيقة؟لماذا؟
أكان ذلك لأن النبي ميخا تنبأ عن مولدك أنه سيكون في بيت لحم؟في يقيني إنه لو لم يكن مقررا من لدنك أن تولد في بيت لحم لما كان النبي أنبأ عن ذلك...إذن فقرارك بمولدك في بيت لحم كان أسبق من قول النبي بقرون وأجيال...بل لعله كان أيضا قبل كل الدهور...
أحقا كان السبب,كل السبب,هو المرسوم الذي أصدره أوغسطس Augustus قيصر بإجراء تسجيل لسكان العالم كله,وأنه كان لابد لمريم ويوسف أن يسجلا اسميهما في بيت لحم التي يصعد نسبهما إليها وأنك وقد أخضعت ذاتك بإرادتك لكل نظام عام, احتراما للنظام وتقديسا له,شئت أن تتم ولادتك في ظروف ضيقة عسيرة كهذه,حتي تعطي لنا مثالا عمليا في الخضوع للنظام المرسوم والمقرر والموضوع سابقا,وأنه واجب مقدس ينبغي أن يخضع له الجميع بغير استثناء لأحد حتي لو كان هو الرب يسوع ذاته؟
ومع ذلك يبقي,يا إلهي,السؤال قائما:لماذا شئت أن تولد في زمن التسجيل الذي أمر به مرسوم أوغسطس قيصر..إذ لولا هذا المرسوم لكان ميلادك جري في الناصرة؟لماذا إذن لم تولد قبل ذلك أو بعد ذلك؟
هل هناك قصد في أن تولد بعيدا عن البلدة التي تقيم الأسرة فيها,حتي تتم ولادتك في هدوء بعيدا عن الأهل والأقرباء والجيران...غريبا عن كل أحد ...فتعاني الغربة والعزلة...وتشارك المغتربين عزلتهم ووحدتهم وإهمال الناس لهم؟
لابد إذن أن يكون لك قصد,يا إلهي,في أن يكون مولدك في بيت لحم,لا في الناصرة,ولا في أورشليم..وأن يقع ميلادك في الزمن الذي تم فيه بالضبط,لا قبله بوقت ,ولا بعده بوقت...لابد أن يكون لك غرض في اختيار مكان ميلادك وزمانه..
ثم لماذا ياربي,شئت أن تولد في الليل,لا في النهار؟أما كان النهار أفضل وأليق حيث الشمس ساطعة والناس في صحو يغدون ويروحون؟لماذا اخترت أن تحين ساعة ميلادك في ظلام الليل حيث كل شيء راقد خامد هاديء...لماذا؟
لماذا آثرت,ياسيدي,أن لاتعلم بمجيئك أحدا من كبار الناس وعظمائهم؟
ثم لماذا لم يعلم بمجيئك هيرودس أو بيلاطس...وهم من حكام بلاد فلسطين..وإنما علم به مجوس في بلاد المشرق,فجاءوا من بعيد ليسجدوا ويقدموا لك هداياهم...؟
لماذا لم يعلم به رؤساء كهنة اليهود والكتبة وعلماء الشريعة,مع أنهم كانوا يتوقعونه قبل غيرهم,ويعرفون قبل كل الشعب أنه لابد آت,حتي أن هيرودس عندما جاء المجوس يسألون:أين هو:المولود ملك اليهود؟جمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب,وسألهم:أين ينبغي أن يولد المسيح؟كانت إجابتهم حاضرة ومستعدة فقالوا له:في بيت لحم,بإقليم اليهودية لأنه هكذا كتب بواسطة النبي.
لماذا لم يعلم أولئك العلماء بمجيئك,وعلم به الرعاة البسطاء؟ثم لماذا شئت أن تولد في ظروف قاسية ضيقة فلا يتوافر لك بيت ولا خان...فاستضافك الحيوان,ونزلت ضيفا في مذود للأبقار والأغنام؟
أي ربي!,أهذا منك احتجاج أم زهد؟أم هو عزاء للمتعبين والمضطهدين والمشردين والمظلومين من بني الناس حتي يتبينوا أنه مهما أصابهم من ضيق ومن ضغوط فلن تبلغ بحال إلي مثل هذه الصورة الجافة القاسية التي رسمتها لنا في مولدك؟
لكن لماذا يا إلهي,لم تشفق حتي علي جسدك الغض الذي اتخذته وتلبست به لتظهر فيه بيننا...؟كيف رقدت في مذود للبهائم,علي العشب والقش والحب الخشن؟إن الأرض الجرداء لأرق علي طفل,لحمه طري من هذا المذود الجاف المتعظم...فلماذا كل هذه المعاناة؟
ألعلك تريد أن تعزي الفقراء والمعوزين والمساكين والمسجونين والمأسورين والمنفيين والمعذبين في الأرض ممن يعانون ضنك الحياة وقسوتها,بأنك قد بلغت في شظف العيش وجفاف الحياة ما لم يبلغه إنسان في الوجود,فلن يتصور أحد أن يولد طفل لأفقر فقير في مثل هذه الظروف الجافة القاسية التي ولدت أنت فيها.
نعم,هذا درس ثمين في الاحتمال والصبر,درس في المعاناة والألم,....درس في الزهد والحرمان,درس في العزوف والصدوف عن أبسط صور الرفاهية..
ثم لماذا يارب,هربت من وجه هيرودس,حين بحث عنك ليقتلك؟هل خفت منه ومن غدره؟أما كان في مقدورك أن تأمر الأرض فتفتح فاها وتبتلعه؟أما كان في استطاعتك أن تتخلي عنايتك عنه,فيهجم عليه الكارهون له-وهم كثيرون ممن عانوا من ظلمة وجوره-فيقتلونه ويخلصون الناس من شره؟ما كان في إمكانك-علي الأقل-أن تخلي رعايتك عنه,فتنال منه ميكروبات الأمراض,فيخر صريعا للمرض والموت؟
لماذا يارب..تترك الأمر إلي هذا الحد,فيطمع فيك أعداؤك..؟لماذا تترك شر الرجل يستشري؟...فيشقي بشره الآخرون..ألا تصنع يا إلهي معجزة فيؤمن الناس بقدرتك وأنت في صورة طفل رضيع؟...ويتنفسون الصعداء من ملك غادر شرير أشبع سيفه بالقتل,وأغرق الأرض بالدماء؟
لكنك يا مخلصي آثرت الهرب علي البقاء...والهرب ليلا في جنح الظلام...فطمع فيك هيرودس أكثر فأكثر,وقوي قلبه وتشجع,ووثق بنفسه وتجبر..ولما تحقق أنك هربت من وجهه فرح ثم عاد فحزن...فرح لأنك بهربك منه اعتقد في نفسه أنه انتصر..وإلا فلماذا هربت؟..وفرح لأنه اطمأن إلي قوته..وصدق نفسه أنه ملك إلي الأبد!ثم حزن لأنه كان يريد أن يشبع رغبته في الانتقام,فأفلت غريمه من بين يديه...يا للخسارة!إذن كيف يترك الأمر هكذا...إنه لن يهدأ له بال,ولن يغمض له جفن حتي يري غريمه وقد مات..وكيف يستطيع أن يرقد علي فراشه هانئا وغريمه حي؟!
لكن غريم هيرودس قد هرب إلي مصر وإلي براري مصر...ومصر وبراريها ليست في حدود مملكته,ولا تدخل ضمن نطاق اختصاصاته مع ذلك فليمض به غروره إلي ما هو أبعد..ليرسل إلي مصر جواسيس من لدنه يرقبون ويتربصون بغريمه الدوائر,لعلهم يعثرون به ويقبضون عليه حيا,ويأتون به إليه..فيتشفي به,ويضحك ملء شدقيه لأنه بهذا يكمل انتصاره.
مسكين هيرودس,مسكين لا لأنه غبي...بل مسكين لأنه ذكي...إنه وضع تخطيطا محكما ليقتل المسيح,وأتاح له مركزه كملك أن ينجح فيما قصده,فتحت يده كل شيء...كل شيء...تحت يده الناس لأنه ملك,فرذا تكلم قال الناس:آمين.وتحت يده جند كثير...يأتمرون بأمره,ويتشرفون بتنفيذ إشارته لأنه ملكهم,ولأن واجبهم يقتضيهم أن يخضعوا لملكهم..والمال ينساب بين يديه حلالا لكل من يخضع..وأهم من هذا كله أن بيده سلطان الأمر والنهي,ثم بيده السيف أيضا...لا سيف واحد بل سيوف وأسياف..يكفي أن يرتفع سيفه هو...لترتفع بإرشارته كل سيوف جنوده من تحته...
مسكين هيرودس..لأن ذكاءه الخارق قد أملي عليه أن يمسك سيفا علي طفل أعزل من كل سلاح..طفل لايملك غير اسمه..مسكين هيرودس لأنه منزعج القلب مضطرب الفؤاد علي الرغم من سلطانه,وعلي الرغم من أمواله,وعلي الرغم من سيفه,وعلي الرغم من سيادته علي الناس بحكم مركزه ومنصبه..مسكين لأن طفلا ولد في ظروف قاسية قد أقض مضجعه...ولكي يطمئنه أكثر هرب من أمام وجهه في جنح الليل ليؤكد له أنه لايريد من الدنيا شيئا..وحتي بيت لحم التي يحسبها هيرودس أنها من نطاق مملكته...تركها له بالكلية..بل ترك له بلاد فلسطين بأسرها فليس لهذا الطفل الإلهي مطمع في أرض ولا في ثراء ولا في منصب,ولا في شيء مما يحرص عليه هيرودس..إن هذا الطفل الإلهي جاء من السماء لهدف كبير سام لا علاقة له أصلا بمملكة هيرودس..وإذن فليبق لهيرودس حيا إلي أن تنطفيء شمعة حياته من ذاتها,وليبق لهيرودس ملكه وصولجانه,ولتبق له جنوده والناس من حوله..ما شاء وما شاءوا,....وليضعوا علي رأسه لا تاجا بل تاجين...أما أنت يارب,فما جئت لتدخل في صراع رخيص مع هيرودس المسكين..وإنما جئت لتعينه علي أمره لو كان يفهم..ما أتيت لتهدمه بل أتيت لتبنيه لو كان يعقل..إن ذكاءه من الأرض,لأنه من الأرض جاء..وكذلك تخطيطه الذكي من تحت..لأنه ارتضي لنفسه أن يكون مع الذين هم من تحت.
شكرا لك ياربي,وإلهي ومخلصي,لأنك قد ارتفعت فوق عداوة هيرودس...وحولت شره إلي خير...هربت منه فجعلته يفرح بهربك ويعتقد أنه تخلص منك,ولم تمسسه بسوء..
نعم لقد حولت يا سيدي شره إلي خير...لأنه لولا شر هيرودس لما تباركت بلادنا مصر بمجيئك,إن هربك إذن لم يكن عن جبن واستخذاء,إنما هو عن حكمة إلهية تفوق عقل هيرودس وعقول الناس جميعا..وليس في هربك انعزالية ولا سلبية لكنه سبيل الذي لايقومون الشر بالشر...لقد تركت هيرودس في عاصمة ملكه يشهر سيفه يريد أن يقتل...وهربت..فظل سيفه واقفا في الهواء...ثم تعب المسكين من حمل سيفه فهوي,وهوي سيفه علي رقبته.مسكين هيرودس..أما أنت يارب فعظيم ومجدك ملء كل الأرض.
المصدر :
http://www.wataninet.com/article_ar.asp?ArticleID=11409
المفضلات