الحمد لله الذى نور بكتابه القلوب .. وأنزله في أوجز لفظ وأعجز أسلوب .. فأعيت بلاغتُه البلغاء.. وأعجزت حكمتُه الحكماء.. وأبكمت فصاحته الخطباء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله البشير النذير.. السراجُ المزهر المنير .. خيرُ الأنبياء مقاماً .. وأحسنُ الأنبياء كلاماً.
رافع الإصر والأغلال والداعى إلى خير الأقوال وأحسن الأعمال
أرسله الله عز وجل والناسُ صنفان:
مغضوب عليهم جفاه .. وضالون غُلاه.
فجاء بالدين الوسط .. ، وحذر من الزيغ والشطط ..,وتركنا على المحجة البيضاء ليلُها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك.
فاللهم أجزه عنا خير ما جزيت به نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته وصلى الله وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد... فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة ، وزكى الله هذه الأنفس وشرح الله هذه الصدور ، وأسأل الله أن يتقبل منا ,إياكم صالح الأعمال ، وأن يجمعنا وإياكم في الدنيا على طاعته وفي الآخرة فى جنته ودار كرامته.
أحبتى في الله:
وهذا هو لقاؤنا الثانى مع هذا الموضوع الكريم... وأود أن أوضح في البداية أن كلمة رحلة ليست بمعنى النزهة أو الفسحة وإنما الرَّحْلة والرَّحْلة والترَّحُل والارتحال بمعنى الانتقالِ والمسير يُقال دنت رحلتنا ورحل فلان وارتحل بمعنى سار ورجل وخحول وقوم رُحّلٌ أى يرتحلون كثيراً.
وفي حديث ابن مسعود إنما هو رحَلْ او سَرْج فرَحْلٌ إلى بيت الله وسَرّجٌ في سبيل الله يريد أن الإبل تُركب في الحج والخيلُ تركب في الجهاد. وإنما أردت أن أبين ذلك لأن بعض الأحبة قد ظن أن الرحلة بمعنى النزهة والفسحة ورأى أنها لا تليق بحج بيت الله الحرام فأردت التوضيح والبيان ومِنْ ثَمَّ فتعالوا بنا لنرحل سوياً على جناح السرعة لنعبش مع الحبيب المصطفى في حجته الوحيدة والتى تُسمى بحجة الوداع .
وقد ورد فيها حديثٌ طويل عظيم يتمل على كثير من الفوائد والنفائس والقواعد الفقهية الجليلة حتى صنف فيه الإمامُ أبو بكر بنُ المنذر جزءاً كبيراً وخرج منه ما يزيدُ على مائة وخمسين مسألةً من مسائل الفقة وتعقبه الإمام النووى فقال ولو تقصى لزاد على هذا القدر من المسائل ما يساويه.
وهذا الحديث العظيم الجليل من أفراد مسلم أى رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله ولم يروه الإمام البخاري في صحيحه والحديث : عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إلىَّ فقلت: أنا محمد بنُ على بن حسين.. فقال جابر مرحباً بك يا ابن أخى سل عما شئت.
فقال محمد بنُ على بنِ الحسين فسألته وهو أعمى فقلت: أخبرنى عن حجةِ رسول الله ...
فقال جابر: إن رسول الله مكث تسع سنين لم يَحُجَّ ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله حاجٌ وقد استدل بعضُ أهل العلم بهذا على جواز التراخى في الحج لأن الرسول فُرض عليه الحج سنة تسع عند أكثر أهل العلم من المحققين وأخره النبى إلى السنة العاشرة ولكن النبىَّ أخره لأنه كره الاختلاط في الحج بأهل الشرك لأنهم كانوا يحجون ويطوفون بالبيت وهم عُراه فلما طهر الله البيت الحرام منهم حج النبى .. ولذا فمن يسر الله له النفقة والاستطاعة وجب عليه الحج فوراً لقول النبى في الحديث الذى رواه أحمد وهو حديث حسن:« تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ يَعْنِي الْفَرِيضَةَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ ».
يقول جابر بن عبد الله : ثم أذن في الناس في السنة العاشرة أن رسول الله حَاجٌ فقدم المدينة بشر كثيرٌ كلُهم يلتمَسُ أن يأتم برسول الله ويعملَ مثلَ عملِهِ.
يقول جابر: فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحُليفة .
* وذو الحُليفة ميقاتُ أهل المدينة والذى يُسمى اليوم ( بأبيار على )
* والميقاتُ الثانى هو الجُحفة وتعرف الآن برابغ وهى ميقاتٌ لأهل الشام ومصر ومن مر بها.
* والميقات الثالث هو قرنُ المنازل ويُعرف الآي بالسيل الكبير وهو ميقاتٌ لآهل نجد والطائف ومن مر به.
* والميقات الرابع هو يَلمَلْمَ ويعرف الآن بالسعدية وهو ميقاتٌ لأهل اليمن ومن مر به.
هذه هى المواقيتُ المكانية لمن أراد الحج أو العمرة فيجب عليه ان يحرم منها أو بمحاذاتها ومن تجاوزها بدون إحرام فعليه دمُ جبران وهو قولُ جمهورِ أهل العلم.
يقول جابر: فخرجنا مع رسول الله حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماءً بنت عُمِيْس محمدَ بنَ أبى بكر فأرسلت إلى رسول الله كيف أصنع ؟ قال: اغتسلى واستنثرى بثوب وأحرمي.
وفي هذا دليل على استحباب الغسل للحائض والنُفساء وهو قول الجمهور وفيه أيضاً صحةُ إحرام الحائض وأن عليها أن تفعل كل ما يفعله الحاجُ غير أنها لا تطوف بالبيت.
وفي الصحيح عن عائشة رضى الله عنها أنها حاضت قبل أداء مناسك العمرة فأمرها النبى أن تحرم بالحج غير أن لا تطوف باليت حتى تطهر وأن تفعل ما يفعله الحاج.
أما إن جاء الحيضُ بعد طواف الإفاضة والسعى وقبل طواف الوداع سقط عنها طوافُ الوداع لأن الحائض والنفساء ليس عليها طواف ُ الوداع.
يقول جابر: فصلى رسول الله في المسجد.
ولذا استحب الجمهور أن يكون الإحرامُ بعده صلاة . إما فريضة وإما نافلة .
يقول جابر: فصلى رسول الله في المسجد ثم رَكِبَ القَصْواء ( وهو اسم لناقة الرسول ) حتى إذا استوت به ناقُته على البيداء نظرتُ إلى مدَّ بصرى بين يديه من راكبٍ وماشٍ وعن يمينه مثلَ ذلك وعن يسار مثلَ ذلك ومن خَلفِه مثلَ ذلك.
ورسول الله بين أَظهُرنا وعليه ينزلُ القرآن وهو يعرفُ تأويله وما عمل به من شئٍ عملنا به فأهل النبى بالتوحيد :« لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ»
وهذه التلبية أيها الأحبة كانت تحتاجُ منا إلى لقاء كاملٍ مستقل وقد علق عليها الإمام ابنُ القيم تعليقاً بديعاً واستخرج منها أكثر من عشرين فائدة في تعليقه على سنن أبى داود لمن أراد أن يراجعها في كتاب عون المعبود .
ومن بين هذه الفوائد البديعة التى ذكرها أن التلبية هى شعارُ حج التوحيد الذى هو روحُ الحج ومقصده بل هو روحُ العباداتِ كِلها وتتضمن هذا التلبية من الخضوعِ والذلِ والمحبةِ والقرب ما تتحقق به العبوديةُ لله عز وجل كما أنها متضمنة للرد على كل مٌبطل في صفات الله عز وجل وتوحيده فهى مبطلةٌ لقول المشركين وقول الجهمية المعطلين ولقول مجوس ِ الأمة المعاندين.. لأنها تثبت كلَ صفات الكمالِ والجلال لله رب العالمين.
ولذا ورد في الحديث الذى رواه مسلم من حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك اللهم لبيك . لبيك لا شريك لك قال ابن عباس : فيقول رسول الله قدٍ قدٍ أى قد كفاكم هذا فاقتصروا عليه ولا تزيدوا لأنهم كانوا يقولون: بعدها إلا شريكاً هو لك تملِكُهُ وما مَلك يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت».
يقول جابر: حتى إذا أتينا البيت معه استلم إذا أتينا البيت معه استلم الركن. أى مسحة بيده وهو سنة في كل طواف وفى صحيح مسلم أن رسولَ الله كان لا يستلمُ إلا الحجر والركن اليمانى وقد أجمعت الأمة على استحباب استلام الركنين وتقبيل الحجر الأسود إن أمكنَّ ذلك من غير إيذاء لأحدٍ من المسلمين والمسلمات.
وفى الحديث الذي رواه مسلم أن عمر بن الخطاب قَبَّل الحجر الأسود وقال والله إنى لأُقبلُك وإنى أعلمُ أنك حجر وأنك لا تضرُ ولا تنفع ولولا أنى رأيتُ رسولُ الله يقبلك ما قبلتُك»
المفضلات