هل حقًا أذل عمرُ بنُ الخطابِ النصارى في العهدةِ العمريةِ ؟!
قالوا: لقد ذكر ابنُ القيم في كتابه أحكام أهل الذمة، وابنُ كثير في تفسير آية سورة التوبة (29 ) الوثيقة العمرية لأهل إيلياء ففيها الظلم بعينه لنصارى بيت المقدس....
فهل هذا هو عدل الإسلام....؟
وهل هذه أخلاق الفاروق عمر الذي فرق الله به بين الحق والباطل....؟!
جاء في تفسير ابن كثير ما نصه:" عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال: كتبت لعمر بن الخطاب، t حين صالح نصارى من أهل الشام:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة، ولا قِلاية ولا صَوْمَعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها، ولا نحيي منها ما كان خطط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم، ولا نأوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسًا، ولا نكتم غشًا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركا، ولا ندعو إليه أحدًا؛ ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم، في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكُنَاهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رءوسنا، وأن نلزم زِينا حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وألا نظهر الصليب على كنائسنا، وألا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانين ولا باعوثًا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين، ولا نطلع عليهم في منازلهم". اهـ
الرد على الشبهة
أولًا: إن عمرَ t قد عمّرَ الأرضَ عدلًا، لا ظلمًا وجورًا كما يدعي المعترضون في هذه الوثيقة المكذوبة عليه؛ فلا يصح نسبتُها إليه البتة...
جاء ذلك من وجهين:
الوجه الأول: تضعيف الشيخ الألباني إسناد الشروط العمرية في الإرواء (5 \103).
الوجه الثاني: وهو الأمر الغـريب أن المصادر الإسـلاميـة الأولى لم تشـر هذه العهدة، فأول مصدر إسلامي أشار إليها هو اليعقوبي الشيعي، ثم ذكرها بعده ابنُ البطريق، وابنُ الجوزي، ومجـيرُ الـدين العليمي، والطبري، وكلها روايات متقاربة بالكثير، وليس فيها ما جاء في تلك الوثيقة غير الصحيحة التي ذكرها ابن كثير....
وأذكر للقارئ الروايات الصحيحة وأشهرها صحة رواية الطبري في تاريخه ، وهذه هي المصادر كما يلي:
1- كتاب تاريخ اليعقوبي ج 2/ ص 46: ذكـر اليعقـوبي (الشيعي) المتوفى عام 284 هـ نصًا مختصرًا قائلًا : " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدسِ: إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم، لا تسكن ولا تخرّب، إلا أن تحدثوا حدثاً عاماً, وأشهد شهودًا. اهـ
2- كتاب التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق لابن البطريق ج 2/ ص 147: ذكـر أفثيشيوس (ابن البطريق) المتوفى سنة 328 هـ ، نصًا يشبه ما ذكره اليعقوبي: "بسم الله، من عمر بن الخطاب لأهـل مدينـة إيلياء، إنهم آمنون على دمائهم وأولادهم وأموالهم وكنائسهم، لا تهدم ولا تسكن, وأشهد شهودًا". اهـ
3 -كتاب الإُنس الجليل وتاريخ القدس والخليل، لمجير الدين ج ا/ ص 255: ذكـر مجير الـدين المتوفى سنة 927 هـ أن الخليفة عمر بن الخطاب عندما جيء إليه بهذا الكتاب زاد فيه: " ولا نضر بأحد من المسلمين. شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا شيئاً مما شرطنا لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا". وأضاف مجير الـدين بأن هذا العهـد قد رواه البيهقي أيضـاً، واعتمده أئمة المسلمين والخلفاء الراشدون وعملوا به". اهـ
4- كتاب فضائل القدس لابن الجوزي ص 123-124: ذكـر ابن الجوزي المتوفى في عام 597 هـ ما يلي: "كتب عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس إني قد أمنتكم على دمـائكم وأموالكم وذراريكم وصلاتكم، وبيعكم، لا تكلفون فوق طاقتكم, ومن أراد منكم أن يلحق بأمته فله الأمان, وأن عليكم الخراج كما على مدائن فلسطين". اهـ
5- كتاب تاريخ الرسل والملوك للطبري – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – الجزء الثالث، ص 609 ، ط دار المعارف القاهرة : "بسم الله الـرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبـد الله أمير المؤمنين عمر، أهل إيليا من الأمـان، أعطـاهم أمـانـًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم ولصلبانهم ومقيمها وبريئها وسائر ملتها، إنها لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حدها ولا من صلبانهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكـرهـون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيليا معهم أحـد من اليهود، وعلى أهـل إيليا أن يعطـوا الجـزيـة كـما يعطي أهل المدائن (يقصد مدن فلسطين)، على أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغـوا مأمنهم، ومن أقـام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعتهم وصليبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعتهم وصليبهم حتى يبلغوا مأمنهم, ومن كان فيها من أهل الأرض، فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على إيليا من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أرضه، فإنه لا يؤخذ منه شيء حتى يحصد حصادهم, وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته، وذمة رسول الله r وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليه من الجزية.
شهـد على ذلـك خالـدُ بنُ الـوليد، وعمرو بن العـاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. كتب وحضر سنه خمس عشرة". اهـ
إذًا: العهدة العمرية الصحيحة الكاملة هي ما جاءت في تاريخ الطبري، وهي تدل على سامحة الإسلام العظيم، وعدل عمر العادل الكريم t..
ثانيًا: بعد أن بينت أن العهدة العمرية الصحيحة هي التي جاءت في تاريخ الطبري كاملة؛ أقول: إن ما نقله المعترضون عن ابن كثير لم يُذكر في أي تفسير إلا عند ابن كثير... وهذا يدل على عدم شهرتها وصحتها، وهذا مغن عن كل إيضاح وتأويل!
إلا أنني افترضُ جدلًا صحةَ الوثيقة الذي ذكرها ابنُ كثير منفردًا بذلك عن بقية المفسرين الآخرين...
أذكر بداية نص الوثيقة ثم أقوم بتفنيدها كما يلي:
الروايةُ تقول: " كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا، على أنا شرطنا لك على أنفسنا:
ألا نحدث في مدينتنا كنيسة
ولا فيما حولها ديراً ولا قلاية ولا صومعة راهب
ولا نجدد ما خرب من كنائسنا
ولا ما كان منها في خطط المسلمين
وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار
وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل
ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً
وألا نكتم غشاً للمسلمين، وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفياً في جوف كنائسنا
ولا نظهر عليها صليباً
ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون
وألا نخرج صليباً ولا كتاباً في سوق المسلمين
وألا نخرج باعوثاً
قال: والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر
ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع موتانا
ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين
وألا نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور
ولا نظهر شركاً
ولا نرغِّب في ديننا ولا ندعو إليه أحداً
ولا نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين
وألا نمنع أحداً من أقربائنا أرادوا الدخول في الإسلام
وأن نلزم زينا حيثما كنا
وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا
نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم
وأن نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا
ونشد الزنانير على أوساطنا
ولا ننقش خواتمنا بالعربية
ولا نركب السروج ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف
وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس
ولا نطلع عليهم في منازلهم، ولا نعلم أولادنا القرآن
ولا يشارك أحد منا مسلماً في تجارة، إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة
وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام
ونطعمه من أوسط ما نجد". اهـ
نلاحظ من هذه النصوص: أن أهل الجزيرة هم من كتبوا هذه العهود والشروط على أنفسهم؛ وذلك من قولهم: " على أنا شرطنا لك على أنفسنا...".
ثم ذكروا تلك الشروط...بسبب إعطاء عبد الرحمن بن غنم العهد والأمان لهم، ولأهل ملتهم من قبل....
وليست هذه هي شروط الخليفة العادل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t.....
ونقرأ أيضًا ما يؤكد ذلك: ضمنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا، وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق.
نلاحظ : أنهم هم من ضمنوا ذلك على أنفسهم, بقولهم: ضمنَّا "لك" ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا، وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق.....
وعليه: فإن الإسلام العظيم دين العدل والكرم والتسامح مع المخالفين المسالمين، وأنّ عمرَ بريء من تلكم التهم المكذوبة التي قام بتزويرها النصارى أنفسهم وغيرهم عبر التاريخ لتشويه صورة الإسلام، فنُقلت جهلًا في كتب المسلمين...
كتبه / أكرمُ حسن مرسي
نقلًا عن كتابي السادس : الإصابة في الدفاع عن الصحابة، بعد المراجعة.
المفضلات