الإنقلاب العجيب ... المتمم للجزء الثالث
أطال الكاتب النفسَ في هذا الجزء من سلسلة «الشخصيات المحورية« ليس بقصد الإطالة ولكن حجتنا التدقيق والتحقيق، أضف أيضاً ما نحصل عليه من أبحاث ومراجعتها؛ وما نطلع عليه من مراجع ودراستها، فالكنيسةُ؛ سواء الشرقية منها أو الغربية تسلمُ تسليماً مطلقاً دون نقاش فيه أو مراجعة بعقائدها وتاريخها وبقديسيها وآبائها وبنصوص العهد الجديد، وهذا الموقف يقفل باب الحوار ويغلقه أمام الباحث أو المحاور، ومن خاض من السادة العلماء تجربة الحوار اعلم مني بذلك؛ إذ لا توجد أرضية مشتركة للحوار أو اسس ثابتة للنقاش، أو مبادئ متفق عليها للبدء على أساسها؛ توجد فقط افكار عامة لا يختلف عليها اثنان من العقلاء وهي لاتكفي، ويبقي ـ لنا ـ نور الوحي مضيئاً بنص قوله سبحانه وتعالى : « 29: سورة العنكبوت: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «(46). والنصُ أمرٌ آلهي لا يحتاج إلا تفعيل وتطبيق، هذه واحدة.
أما الثانية فالشخصيات المحورية في الديانة المسيحية لعبت دوراً هاماً وفي غاية الخطورة، وبدأتُ بــ"شاءول/ بولس" لأنه ابتكر
أولاً : فكرةَ أنه رسول السيد المسيح، برواية هو مؤلفها وبطلها الوحيد،
ثانياً : ألزم/ أقنع بعض "تلاميذه" بهذه الفكرة؛ وتم التجاوب معها بصوّر مختلفة،
ثالثاً : فصَّل وطرزَّ ثوباً جديداً يرتديه " عبد الله ونبيه ورسوله – عيسى ابن مريم " حتى اليوم،
رابعاً : ابتكر عقائد جديدة،
خامساً : فتح الباب لدخول العقائد الوثنية،
سادساً : ابتكر طقوساً جديدةً،
سابعاً : ألغى الناموس،
ثامناً : أعطى لنفسه كاملَ الحقِ في التشريع؛ فصَنَعَ شريعةَ بولس،
تاسعاً : عالمية الديانة الجديدة،
عاشراً : اعتماد مبدأ التناقضات والقفز فوق الأحداث والتسليم بالنتائج غير منطقية أو عقلية (غير مفهومة أو تدرك بالذهن البشري).
هذه النقاط تحتاج لتفصيل وتتطلب الآتيان بمزيدٍ من أدلة من الكتاب المقدس؛ المعتمد حتى اليوم في الكنائس، خاصة العهد الجديد، واقوال المتخصصين والعلماء في هذا الشأن.
نؤكد على مسألة وهي
:
لقيا بولس المسيح :
لا تذكر المصادر المسيحية لقيا بولس المسيحَ على الرغم من أنَّ الأول كان من معاصريه عليه السلام، وأول ذكر لبولس فيما يتصل بالمسيحية هو شهوده محاكمة وقتل اسْتِفَانُوس أحد تلاميذ المسيح عليه السلام وكان ذلك حوالي عام 37 م، ويُذكر بولس أنه كان راضياً عن قتله، فجاء في سِِفر الأعمال: « 58 وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَرَجَمُوهُ. وَالشُّهُودُ خَلَعُوا ثِيَابَهُمْ عِنْدَ رِجْلَيْ شَابٍّ يُقَالُ لَهُ شَاوُلُ. 59 فَكَانُوا يَرْجُمُونَ اسْتِفَانُوسَ ...». 60 ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ... وَ ... رَقَدَ؛ . 1 وَكَانَ شَاوُلُ رَاضِياً بِقَتْلِهِ».
(سِفر أعمال الرسل؛ الأصحاح السابع "58 – 60"، الفقرة الأخيرة الأصحاح الثامن من سفر أعمال الرسل "1"، نقلاً من مجلة النعمة)
وهذه المسألةُ؛ ملاحقة ومتابعة وسجن الأتباع ملفتةٌ للإنتباه : فهو يظهر نفسه كالمدافع عن عقيدته التي تربى عليها، متعمقاً في دراستها، متأدباً بين قدمي أشهر من دوَّن التوراة في زمنه، متصلاً مباشرة بالمشيخة ورؤساء الكهنة، حاملاً منهم رسائل لملاحقة أتباع المسيح، وبدورنا نتساءل :
1.) لمَ لمْ يلاحق المسيحَ ذاته؛ الرجل الأول؛ صاحب الرسالة والثائر على تعاليم الكهنة اليهود،
2.) لمَ تركه وأتجه بكل قوته وأساليبه في ملاحقة وسجن الأتباع،
3.) لمَ خربَّ الكنائس واكتفى بهذا دون التعرض لشخص المسيح وتجمعاته،
4.) أين كان وقت المحاكمة الشهيرة،
بل نتساءل :
5.) أين كان موضع قدمه في طريق آلام السيد المسيح ـ كما تدعي الكنيسة ـ وتوجد أربع عشرة محطة في هذا الطريق،
5.) أين كان لحظة الصَلب ـ حسب روايتهم، وإثناء الفترة الزمنية التي مكث فيها المصلوب على خشبته
6.) أين كان لحظة التأكد من موت المصلوب،
7.) بل أين كان لحظة نزوله القبر - كما يدعون .
كمٌ من الأسئلة يتدفق عند إمعان النظر في المواقف وهي أحداث متتابعة ومتلاحقة؛ وهي أحداث في تقديري - حسب مواقفه وأعماله ضد الأتباع - تلزمه أن يكون شاهداً عليها إن لم يكن مشاركاً فيها ومتفاعلاً معها؛ فلمَ غابَ عن مشاهد محاكمة السيد « الرب « وهو المقرب من رؤساء الكهنة اليهود، ولمَ غاب عند ملاحقة السيد، ولمَ غاب لحظة القبض عليه؛ غياب تام في مشاهد وحضور متعمد/ مقصود في آخرى ... كمن يرسم بريشته لوحةً من خياله يقنع نفسه والآخرين بصدقها والويل والثبور لمن يخالف أمره أو يخرج عن آطارالصورة .
بيَّد أنَّ أمانة البحث العلمي تلجئني إلى متابعتها والوقوف على أقوال علمائهم وماذا كُتبَ في مجلدات تاريخ الكنيسة!!!، وحتى كتابة هذه السطور لا أجد أجوبة مقنعة كافية لما طرحته من استفسارات ..لأن الطرف الثاني غائب!!، أو يرغب كقديسهم الغياب.
مدخل لرؤية بولس السيد المسيح :
موقف بولس المفاجئ من السيد المسيح !
يذكر سِفر أعمال الرسل عنوان : [ "تنصر" شاءول/ بولس ] المفاجئ وانقلابه دون مقدمات تهيؤ الشخص لهذا الإنتقال ولا تمهيدات تمهد له العبور من عقيدة إلى آخرى أو من تعاليم إلى سواها أو من طقوس إلى ما عداها، راجع حال المهتدين إلى الإسلام؛ على مر الأزمان والدهور؛ مروا في مراحل، وعايشوا أحوال، وتفاعلت في ضمائرهم ووجدانهم وأحاسيسهم وعقولهم وذهنهم نصوص مقابل نصوص وعقيدة مقابل عقيدة ثم جاء القرار وهذا لم تم بين عشية وضحاها، أما رواية القديس بولس، رسول الأمميين فتحتاج لإعادة نظر كي تبنى عليها عقيدة صحيحة، فرؤية السيد المسيح عليه السلام - بعد رفعه بسنوات وفق عقيدة الإسلام أو عقيدة الصلب والموت والدفن وفق عقيدة المسيحيين – كما وردت في العهد القديم موضوع بحث وتمحيص ونقاش والحجة بالحجة.
رواية الرؤية تبدأ وهو ذاهب إلى دمشق في مهمة لرؤساء الكهنة فيقول النص : « 1 أَمَّا شاول ... فقَصَدَ إِلى عَظيمِ الكَهَنَة، 2 وطَلَبَ مِنه رَسائِلَ إِلى مَجامِعِ دِمَشق «حوالي سنة 38 ميلادية، وحالته النفسية كما ذكرها سِفر أعمال الرسل «1 ... ما زالَ صَدرُه يَنفُثُ تَهديدًا وتَقتيلاً لِتَلاميذِ الرَّبّ «.
ما أردنا أن نظهره هي تلك الحالة النفسية التي تواكبه في رحلته إلى دمشق والتكليف الذي في يده، وحضور تلك الذهنية والعقلية القوي لمتابعة التلاميذ، ثم يقول النص وقد تجلى له إنسان(1) !! دون القافلة التي كان يسير معها، فيروي لنا "لوقا" خبراً فقال " وفيما هو ماضٍ في هذه المهمّة، وعندما كان بولس قريباً من دمشق بغتةً أبرق حوله نور من السماء: « 3 وبَينَما هو سائِرٌ، وقَدِ اقتَرَبَ مِن دِمَشق، إِذا نورٌ مِنَ السَّماءِ قد سَطَعَ حولَه« ولحالةِ إرتباكٍ أو خوف أو من المفاجأة : « 4: .. سَقَطَ إِلى الأَرض»، وسَمِعَ هاتفاً/ : « 4: ... صَوتًا يَقولُ له: «شاوُل ، شاوُل، لِماذا تَضطَهِدُني؟«. « 5 فَقَالَ : « مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ » فَقَالَ الرَّبُّ : « أَنَا يَسُوعُ الذي تضطهده » (سِفر أعمال الرسل، الأصحاح السادس والعشرون) وورد نفس النص كذلك: «15فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ فَقَالَ: أَنَا يَسُوعُ» (سفر أعمال الرسل الأصحاح الثاني والعشرون) وجاء النص هكذا بمزيد إيضاح عن شخص المتكلم: « 8 فَقَالَ لِي: أَنَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ» ( يقصد بكلمة يسوع : السيد المسيح عليه السلام) كما أشار بولس للقصة في مواضع متعددة في رسائله. ورد في قصة رؤية المسيح: فقد سأل شاءول:" 5 فَقَالَ:«مَنْ أَنْت َيَا سَيِّدُ؟» فَقَالَ الرَّبُّ:«أَنَا يَسُوعُ» (سفر أعمال الرسل الأصحاح التاسع).
هذا المشهد يحتاج لإعادة تصوير في ذهن القارئ - المسلم أو غير المسلم – وهذه الإعادة نراها هامة للأسباب التالية
:
1.) فكرة آلوهية السيد المسيح لم تكن معلومة من قبل، ولم تظهر في هذا العهد المبكر، إلا على لسان شاول، فهي من ابتكاراته بدليل الحوار مع القديس برنابا، وهذا قفز على الأحداث، وتقرير نتيجة ثم
2.) اعطاء حكم نهائي،
3.) التسليم بهذه النتيجة واعتماد هذا الحكم النهائي دون إعمال عقل أو تدبر، أي دون نقاش، وهو ما يطلق عليه الإيمان الكنائسي، أي التسليم المطلق دون مقارنة النصوص ببعضها أو فهمها أو إدراك الوقائع: إذ أنَّ قصة سماع الهاتف جاءت
في ثلاثة مواضع بالعهد الجديد :
الموضع الأول : في سفر أعمال الرسل؛ الأصحاح التاسع "3 - 22"،
و
الموضع الثاني : من كلام بولس في خطبته أمام الشعب : سفر أعمال الرسل الأصحاح الثاني والعشرون " 6 - 11"،
أما
الثالث من رواية بولس أمام الملك أغريباس سفر أعمال الرسل الصحاح السادس والعشرون "12 - 18".
الرواية الأولى : سفر أعمال الرسل الأصحاح التاسع: فقال شاءول : « 5 مَن أَنتَ يا ربّ؟ « هنا يخاطب مباشرة الرب!
[B]الرواية الثانية [/B]: أعمال الرسل الأصحاح الثاني والعشرون: « 8 فأَجَبتُ: مَن أَنتَ، يا رَبّ؟ «
الرواية الثالثة : سفر أعمال الأصحاح السادس والعشرون : « 15 فقُلتُ: مَن أَنتَ يا ربّ؟« هذه نصوص طبعة البشارة؛ الموسوعة المسيحية العربية.
أما إذا اعتمدنا :" كتاب العهد الجديد لربنا ومخلصنا يسوع المسيح، وقد ترجم من اللغة اليونانية، النص منقول من طبعة "الكتاب المقدس أي كتب العهد القديم والعهد الجديد، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط" مابين القوسين نُقل من الصفحة الأولى، وفي الصفحة الأخيرة من الكتاب؛ أي نهاية العهد الجديد كتب بحروف لاتينية :" „Arabic Bible 43 20M – الصادر في عام : 1991 من الميلاد“ اسفل أخر الصفحة من رؤيا يوحنا اللاهوتي.
فسنجد: «15 فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟ بدلا من لفظة "الرب" جاء لفظة الـ «سيد« كما جاءت في الأصحاح التاسع/ الفقرة 5 ثم يأتي فقال الرب، الرواية الثانية الأصحاح الثاني والعشرون الفقرة 8 أيضاً جاءت بلفظ الـ «سيد« فقال لي أنا يسوع الناصري، الأصحاح السادس والعشرون الفقرة 15 بلفظ الـ «سيد«.
الإشكالية تعود لشخصية الهاتف أو المتحدث مع شاءول فحتى هذه اللحظة غير معروفة شخصيته أو هويته، هو سمع صوتاُ أو سمع هاتفاً مجهول الهوية بدليل صيغة السؤال بــ «مَنْ أنتَ؟« غير أنه اعطاه حكماً بأنه الــ "رب" في رواية وأنه الــ "سيد" في رواية آخرى فالمسألة حسمت بأن السيد أي الرب يسوع المسيح اين الاله هو المتحدث مع شاءول، فلا نقاش أو حوار، بدليل النص ذاته فيسأل: « مَنْ أنتَ ياسيد؟ فتأتي الإجابة: "الرب" «. والمقصود هنا الرب اي الآله وليس الرب بمعنى السيد وفق معاجم اللغة، والقارئ للكتاب المقدس يفهم من الحوار بين بولس وبين الهاتف بهذه الصياغة أن المتحدث/ الهاتف هو الرب >>> الآله.
ولا ينبغي أن تفوت القارئ إشكالية آخرى من أشكاليات النصارى وهي مصداقية الكتب، فصدقية الأناجيل وصحة نسبتها لمن قاله معلومة، ولكنها تحتاج لتسليط الضوء عليها، وهذا بحث يندرج تحت أمهات المسائل، فصدقية النص وليس قدسيته تعود للتواتر في الرواة، وهذا علم أسلامي خالص؛ استسمح القارئ في بعض الوقت لعرضه في مناسبته ووقته.
بالرجوع إلى الكتاب القدس باللغة الألمانية ترجمة „D. Martin Luther“ والصادرة بتاريخ 1964م اثبت لفظة „Herr“ وترجمتها العربية تعني السيد، أما في الصلوات فتقال للرب، وبعض المسلمين في بلاد المهجر يستخدمونها - لفظة „Herr“ - كما جاءت عند نظرائهم مواطني دول الغرب، وإشكالية الترجمة من لغة إلى آخرى سببها الأساسي ثقافة المترجم وإحساسه باللغة الأصلية والتركيبة الذهنية لحظة القيام بالترجمة، فمَنْ هو متشبع بالثقافة المسيحية ودرس لاهوتها يترجم خلاف من درس ثقافة علمانية أو إسلامية، وشخصية بولس المحورية في ابتكار المسيحية الحالية اسطع برهان على صدق ما نقول، فلا توجد كلمة : « السيد « كمرادفة للفظ الجلالة „الله“ في الثقافة الإسلامية، والسيد ليس من اسماء الله الحسنى، وإن كان من معاني لفظة السيد كما جاء عند ابن منظور : « السَّــيِّــدُ « يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومُحتَمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدَّم (لسان العرب، باب السين ص: 422، المجلد السادس/ ط:1 1408هـ ~1988م، دار إحياء الثراث العربي، بيروت ~ لبنان ).
جدول بالترجمات المعتمدة :
الأولى : "الترجمة المشتركة:
5-9 فقالَ شاوُلُ: «مَنْ أنتَ، يا ربُّ؟»
الثانية : "ترجمة فانديك"
5-9 فَقَالَ : «مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟»
الثالثة : "الترجمة البوليسية"
5-9 فقال: «مَنْ أَنْتَ، يا ربّ»
الرابعة : "ترجمة كتاب الحياة"
5-9 فَسَأَلَ: «مَنْ أَنْتَ يَاسَيِّدُ؟»
الرمادي
يتبع..
ــــــــــ
(1) الكاتب لا يشكك في الرواية بل ينفيها.
ــــــــــ
المفضلات