بسم الله الرحمن الرحيم
حكم العقل وحكم الوحي
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
يقول رب العالمين وهو أصدق القائلين سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} (82) النساء، فهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه.
وإن من كبريات عجائبه تلك التي تبرز الدقة الهائلة في تجلية مفاهيمه بحيث لا تختلط، مع أنها جاءت بلغة حمالة أوجه، فلقد أبرز القرآن في كل موضع نهى فيه عن الظن واتباعه علاقة هذا النهي بالعقائد، ولم يختلط في موضع واحد بمسائل من التشريع، لأن قوام التشريع غلبة الظن، وأساس الاعتقاد الجزم والقطع، وما أسهل أن يضع العالم يده على الآيات التي تنسب الهداية إلى الله تعالى ليتبين موضوعها المغاير لتلك التي تنسب الهداية والضلال إلى المكلفين، لم تختلط هذه بتلك ولم تكن أبدا موضع لبس في الفهم، إلا عند من أخَّرَ القرآن الكريم ولم يتبع طريقته في الهداية!
ومن ذلك تشديد القرآن الكريم في حملته على من لا يستعملون العقل في قضايا الاعتقاد، بحيث عد استعمال العقل، أو عدمه الحد الفاصل المؤذن بعذاب النار وسبب وقوع الرجس: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (100-99) يونس .
فهو بذا يضع الانسان على أعلى درجة من سلم التكريم، ليقول له: هذا العقل، وهذا الكون، كتاب الله المنظور موضع الفكر والتدبر، أُترع بالآيات وويل لمن رآى تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض وإيلاج الليل في النهار وتنفس الصبح ولم يتفكر فيها ليصل إلى الايمان بالله وبرسوله وبكتابه.
قال تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الأعراف179] . ]، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} البقرة: 242
حتى إذا وصل الانسان بعقله إلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بخبره عن الوحي، بثبوت أن القرآن الكريم كلام الله، توقف دور العقل عن الحكم ليصبح دوره الفهم، يأخذ من القرآن الكريم العقيدة ويفهمها.
في الوقت ذاته يشتد نكيره، ومن اللحظة الأولى، على الذين يجعلون العقل حاكما على أفعال العباد، ويجعل اتباع العقول في قضايا التشريع أساس البلاء وأسه وموطن الفساد ولبه، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (18)الجاثية {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (15)الشورى {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } (14)محمد، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (33) الأعراف.
{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (50) المائدة.
فعد المولى تعالى كل حكم لا ينبثق عما أنزل الله حكم الجاهلية، وعد أي رأي في الحكم غير صادر عن الوحي أهواء اشتد نكيره على متخذها أساسا للحكم.
وللإجهاز على فكرة أن العقل في الاسلام هو الحاكم من دون الله، أو أن له أن يصدر حكما بناء على مصلحة أو غيرها سنذكر خمس نقاط حاسمة إن شاء الله تعالى:
النقطة الأولى: أن الله تعالى تفرد بالحكم، ومنع أن يُشرَكَ في الحكم ولا في قضية واحدة.
النقطة الثانية: أن الله وحده أعلم بما يصلح للعباد وبما يصلحهم، فمن منظور الخير والشر والصلاح والفساد، لا يعلم العقل تحقق هذا كله إلا بما يعلمه الله إياه، وبالتالي فلا بد من قانون يراعي ما خفي على الناس علمه، وليس ثمة إلا تشريع رب العالمين، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14) الملك.
النقطة الثالثة: أن الله تعالى أمرنا بأن نستعمل العقل في الوصول إلى صدق العقيدة الاسلامية، حتى إذا ما ثبت لنا أن الله حق، وأن الرسول حق، وأن القرآن كلام الله، جعلنا دور العقل الفهم لا الحكم، ومن ثم انبثق النظام الذي ينظم حياة البشر عن هذه العقيدة العقلية، فملأ النفس طمأنينة والقلب سكينة أن الانسان يمشي في الحياة الدنيا سويا على صراط مستقيم.
والنقطة الرابعة: أن التشريع عالج جميع مشاكل الحياة إلى يوم الدين علاجا ربانيا، وحده القادر على إحقاق الحق، وبلوغ السعادة في كل مكان وزمان وظرف ونازلة، مما يعجز عنه أي تشريع وضعي مهما بلغ.
والنقطة الأخيرة: وهي أن التشريع حوى ما هو فوق تحقيق المصالح، وما هو فوق سير الانسان في الحياة الدنيا وفق قانون: كل عمل إن لم يجرَّ عليَّ مصلحة فلِمَ أعمله؟ بل وفق قانون: لا بد للانسان من أوامر ونواه بل لا بد له من ابتلاءات، لنختبر ونميز الخبيث من الطيب، أيحسب الانسان أن يترك سدى؟
فالدافع الأساس وجوب التسليم لله تعالى بالحاكمية، لأنه رب العالمين، خلق وقدر، نلحظ قول الله تعالى: {إن الحكم إلا لله}،{يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً}، {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (31) التوبة،
روى الترمذي عن مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ عن عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ ، قال: «أَتَيْتُ النَّبيَّ وَفي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فقال: يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في سُورَةِ بَرَاءَةَ: {اتَّخَذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله}، قال: أمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئاً اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئاً حَرَّمُوهُ» إذن فتغيير حكم الله ليوافق حكم العقول أو ليستبدل حكم العقل بحكم الله: ما هو إلا اتخاذ للمشرع هذا ربا من دون الله.
روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب فقال أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني.
وكما رفع الله الانسان باستعماله العقل لحل العقدة الكبرى، فإنه أيضا رفعه بجعل هذا الحل مشكِّلا عنده الزاوية التي يحكم منها على الأشياء، فالنظام وإن لم يكن للعقل دور في الحكم عليه، إلا أنه انبثق من الأساس الذي وصل العقل إليه، وفي هذا رفعة للعقل، ولصاحبه، إذ تستوي عند معظم الناس النظرة إلى ما في الكون من أشياء، ولا بد من نظام ينظم علاقاتهم مع أنفسهم ومع ربهم ومع بعضهم البعض، ومن خلاله يقيسون تصرفاتهم إزاء الأشياء التي في الكون، من هنا انبثق النظام المنظم لحياة الانسان عن هذه العقيدة العقلية، ولا شك أن ترك الناس يحكمون على نظام الحياة الذي يعيشونه فيه المفسدة كل المفسدة، لتحكم الأهواء وغلبة القوي على الضعيف، ولقصور النظرة إلى المصلحة الحقيقية وللعجز عن إدراك ماهيات الأشياء بشكل جازم، ولتعدد وتفاوت الرغبات، مما يجعل النظرة متفاوتة ومتضادة، فإما أن يخضع الضعفاء للأقوياء وما يفرضونه عليهم من قوانين، أو يعيش البعض وفق قوانين لا تناسبه ولكنها ناسبت غيره، وفي كل الأحوال فإن الخضوع للقانون الرباني هو الذي يحقق العدل والصلاح، لا الخضوع للقانون البشري، وبذا يرقى الانسان عن أن يكون عبدا لإنسان غيره، فيكون عبدا لله، وتالله إنها للكرامة والعزة!
قال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (51) النور.
إذن فالحكم لله، والله وحده يعلم ما يُصلح الخلق على وجه الحقيقة، وما رآه قوم حسنا قد يظهر لهم أنه قبيح فيما بعد، والنظام المنبثق عن العقيدة العقلية الحقة يملؤ القلب طمأنينة والنفس بشرا بأنها على الحق، وكذلك الأمر فإن الله تعالى خلق الخلق وابتلاهم فلا يظنن ظان أنه خُلق سدى، أي لا يؤمر ولا ينهى كما بين الشافعي رحمه الله تعالى بقوله في أحكام القرآن: [ قَالَ ] فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ ( السُّدَى ) الَّذِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى. وَمَنْ أَفْتَى أَوْ حَكَمَ بِمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ ، فَقَدْ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَعَانِي السُّدَى وَقَدْ أَعْلَمَهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَمْ يُتْرَكْ سُدًى وَرَأَى أَنْ قَالَ أَقُولُ مَا شِئْتُ ، وَادَّعَى مَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ . قَالَ اللَّهُ (جَلَّ ثَنَاؤُهُ) لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ}.
فوظيفة العقل إذن فهم الأدلة الشرعية، وفهم الوقائع التي تتنزل عليها هذه الأدلة، وتطبيق هذه على تلك، لا الحكم على الشرع، ولا الحكم من دون الشرع.
والحمد لله رب العالمين
منقول للأفادة
المفضلات