بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد:
(هذه النبذة اختصرتها من كتاب تحفة المؤمنين في ذم الوسواس وعلاج المسوسين)
عن مسألة يكثر فيها الفقه الحديث عنها، ومشكلة يكثر التشكي منها، وهي الوسوسة، جرى العلم بالكلام عنها ـ في رؤوس أقلام تسهيلاً لتداولها، وكتبت في وريقات تيسيراً لحملها. أسأل الله تعالى أن ينفع بها.
الوسوسة: هي تردد الشيء في النفس من غير اطمئنان واستقرار.
أسـبابـها:
1- قلة العلم: قال الإمام الذهبي: "من مرض قلبه بشكوك ووساوس لا تزول إلاّ بسؤال أهل العلم فليتعلم من الحق ما يدفع ذلك عنه ولا يُمعن".أ. هـ، فالعلم يزيل أي شيء يرد على الإنسان ويخطر بباله، والجهل يورد على الإنسان ما يضره ولا ينفع.
2- ضعف الإيمان: وهذا ينتج عن أمور كثيرة من قلة الأعمال الصالحة وكثرة المعاصي، فإنّ الشيطان يتسلط على أهل المعاصي بخلاف قوي الإيمان فإنّ الشيطان يفرق منه وليس له عليه سبيل.
3- الاسترسال مع الهواجيس: فإنّ الهواجيس وكثرة التفكير التي لا يتحقق معها مطلوب ولا تحصل منها فائدة تسبب الوساوس للإنسان وتسهل طريق الشيطان له.
4- الغفلة عن ذكر الله: فإنّ الذكر يطرد الشيطان ويجعل منفذاً على أحد من البشر فإذا ترك الذكر جاء الشيطان بخيله ورجله فدخل إلى قلب الإنسان وفكره فشوش عليه ووسوس له. كما في حديث فرار الشيطان وله ضراط عند سماع الأذان وهو في مسلم والبيهقي.
5- عدم مخالطة النّاس: لأنّ الشيطان من الواحد أقرب فيسهل تمكنه منه والسيطرة على إفساده وإغوائه.
6- عدم الاتباع: وذلك إمّا بزيادة وغلو، وإمّا بإنقاص وتفريط، وكلاهما مذموم.
مظاهرها :
1- التأخر في الدورات حال الوضوء أو الاغتسال: وهذه أغلب حالات الوسواس الذي يأتي الجهلة من النّاس.
2- تكرار الصلاة وإعادتها: لأنّه يظن أنّها فاسدة، وأنّه ما كبر مع الإمام فيقطع التكبير ويعيده، قال شيخ الإسلام اب تيمية: "فإنّ الصواب ما عليه جمهور المسلمين أنّ من فعل العبادة كما أمر بحسب وسعه فلا إعادة عليه كما: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن: من الآية 16] ولم يعرف قط أنّ رسول الله
أمر العبد أن يصلي الصلاة مرتين، لكن يأمر بالعبادة من لم يفعل ما أمر به مع القدرة على ذلك كما قال للمسيء في صلاته: «ارجع فصلي فإنّك لم تصلي»، وكما أمر من صلى خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة". أ. هـ. (مجموع الفتاوى 21/633).
3- تكريرالحرف: قال ابن قدامة وابن القيم: "إنّه ـ أي الموسوس ـ يجد صعوبة في اللفظ فتراه يقول: أكككبر، وكقوله في التحيات: ات ات التخي التحي، وفي السلام: اس اس وهذا يفسد الصلاة وصلاة من خلفه إذا كان إماماً". (والظاهر من فعل هذا صحة صلاته مع الإثم).
4- وجود الضعف في الأمة: وخاصة في الشباب الذين هم عمودها وقوامها، ولا يكون هناك فائدة منهم ومن وجودهم ما دام الواحد منهم أو الجمع قد استحوذ عليهم الشيطان ووسوس لهم في عبادتهم.
أنواع الموسوسين:
1- الوسوسة في العقيدة: كما في الحديث يسأل الشيطان من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول: من خلق الله. وعلاج هذا ينصرف عن مجادلته إلى إجابته بما جاء في الأحاديث وخلاصتها أن يقول: آمنت بالله ورسوله، الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ثم يتفل عن يساره ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم ينتهي عن الانسياق مع الوسوسة، ومن فعل ذلك طاعة لله ورسوله مخلصا له في ذلك لا بد أن تذهب عنه الوسوسة ويندحر شيطانه لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: «فإنّ ذلك يذهب عنه».
2- الوسوسة في الطهارة: وحالهم في هذا الباب أكثر شيوعا وانتشارًا بين المزسوسين، والشيطان يأتي أكثر النّاس من هذا الباب لقلة العلم بأحكامه وكثرة الجهل وخاصة في نطاق النية في الطهارة، فوسوس الشيطان للموسوسين بالنية، فتجد الرجل منهم يجاهد نفسه باستحضار النية وهذا من جهله، وإلاّ فالنية لا تحتاج لكل هذا الاستحضار بل كل ما في الأمر أنّه بمجرد ما يقصد الشخص عملاً فهو ناويه، وتجره هذه المجاهدة إلى التلفظ بالنية وكما هو معلوم أنّ التلفظ بالنية بدعة، وكل بدعة فهي ضلالة فهي لم تكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن بعدهم.
وهو يعقد النية ويشك في حصولها، هل حصلت أم لا؟ ومن شك في نيته فهو نوع من الجنون فإن علم الإنسان بحال نفسه أمر يقيني فكيف يشك فيه عاقل من نفسه.
3- الوسوسة عند قضاء الحاجة: فإنّهم يمكثون الوقت الطويل في الخلاء، كل ذلك يعالج نفسه ويجاهدها في إخراج البول، فإذا بال وانتهى من بوله أتى بأفعال مشينة من السلت، والنتر، والنحنحة، والمشي، والقفز، والحبل، والتفقد، والوجور، والحشو، والعصابة، والدرجة. (راجع شرحها في إغاثة اللهفان لابن القيم).
والرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لم يكونوا يفعلون شيئا مما هؤلاء الموسوسون.
4- الوسوسة في الوضوء: فإذا جاء ليتوضأ فإنّه ينظر إلى الماء يتساءل: من أين لك أنّه طهور أو على الأقل طاهر؟
وهذا من الجهل وإلاّ لو كان عنده علم بالشرع لعلم أنّ الأصل في المياه الطهورية،: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [سورة الفرقان: من الآية 48] فلا يترك الأصل لاحتمال طارئ، وإذا أطال التفكير في طهورية الماء ازداد عليه الإثم.
5- الوسوسة في طهارة الثياب: فهو يغسل ثوبه الطاهر مرات عديدة في اليوم، إذا كان شاكا ولم يتيقن، وقد يبلغ به الوسواس مبلغا أنّه إذا لمس مسلم ثوبه غسله، وكأن هذا المسلم نجس أو متلطخ بالنجاسة وهو عاقل يترك النجاسة عالقة به؟ وهل الإنسان نجس؟ وإذا أصيب ثوبه بقطرة ماء، ما يكتفي بغسلها بل يغسل الثوب كله ويغسل ما معه، وإذا كان عند الوضوء تأخر عن صلاة الجماعة مع المسلمين.
6- الوسوسة في الصلاة واستحضار نيتها: فيتلفظ بالنية فيقول: أصلي صلاة كذا، ثم يقطعها يظن أن نيته قطعت وهي لا تنقطع إلاّ بتعمد، ويأتي بعشر بدع قبل تكبيرة الإحرام لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته واحدة منها وهي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نويت أصلي صلاة الظهر، فرض الوقت، أداء لله تعالى، إماما أو مأموما، أربع ركعات مستقبل القبلة، ثم يزعج أعضاءه ويحني جبهته، ويقيم عروق عنقه، ويصرخ بالتكبير كأنّه يكبر على العدو.
قال شيخ الإسلام: "لو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه شيئا من ذلك لما ظفر به إلاّ أن يجاهر بالكذب البحت، فلو كان في هذا خير لسبقونا إليه، ولدلونا عليه، فإن كان هذا هدى فقد ضلوا عنه وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى فماذا بعد الحق إلاّ الضلال". أ.هـ.
الآثــــار:
1- غضب الله جل وعلا: فالموسوس يتعرض من خلال حالاته الوسواسية إلى تفويت كثير من العبادات، فالأعمال هذه تغضب الله عزوجل، لأنّ صاحبها والقائم بها يكون في حالة لا ترضي الله عز وجل.
فكون الموسوس يضيع العبادة ويفوتها أو لا يقيمها على وجهها، معصية، والمعصية تغضب الله خاصة إذا أصر عليها صاحبها.
2- تخلخل الدين وضعف الإيمان: وسببه أنّ إبليس قد وجد منفذا وطريقا إلى هذا العبد فوسوس إليه، والوسوسة لا تكون في الغالب إلاّ في ضعاف الإيمان، ومن أبرز علامات تخلخل الدين وضعف الإيمان تفويته الجماعة، بل تأخيره للصلاة، وقد يصل الأمر إلى تضييعها.
3- عدم الاكتفاء بالسنة والخروج عنها: فالزيادة في الوضوء على ثلاث خلاف السنة ـ بل الزيادة هي الوسواس ـ ولم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه زاد على ثلاث، بل ورد نهيه عن ذلك.
4- بطلان الأجر أو نقصانه: لزيادته على السنة فمن زاد على ثلاث فقد خالف السنة كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا. ثم قال: «هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء أو تعدى أو ظلم» [رواه أبو داود وابن ماجة وإسناده حسن].
5- جلب المصائب لنفسه ولغيره: فلنفسه: بعده عن الحق ـ وليس بعدها مصيبة ـ وبعده عن منهج الله تعالى وإعراضه عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يسبب له الضيق والضنك والخنق.
وجلب المصائب لغيره: اتعاب أهله وأصحابه وهمهم وغمهم وحزنهم عليه ـ وبالأخص والديه ـ.
6- إتعاب النفس: فالتردد في النية، وإعادتها وإكثار صب الماء على الأعضاء في الوضوء، كل هذا تعذيب للنفس.
7- فعل المناهي وترك الأوامر: الشارع الحكيم أمر بما يلائم النفس، وفيها طاقة عليه، ونهى عما فيه مضرة عليها وإهلاك وإتلاف لها، فمن ذلك الأمر بالاقتصاد في الوضوء والنهي عن الإسراف فيه. وأهل الوسواس أخذوا بالمنهي وتركوا المأمور به.
8- ضياع الوقت والعمر: بمكثه في الخلاء ومكان قضاء الحاجة وغير ذلك من حالاته التي مر ذكرها، ولو أنّه أعرض عنها لاستفاد من وقته بما ينفعه في دينه ودنياه. يقول الوزير ابن الوزير ابن هبيرة:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيع
9- تعريض النّاس لذمه والطعن فيه: النّاس لا يسلم أحد منهم، إن أحسن جحدوا حسناته وإن أساء نشروا سيئاته ونسوا حسناته، هذا مع الرجل العاقل فكيف الحال بمن هو جاهل موسوس فهو بغيتهم وطلبتهم، فيستهزؤون به ويسخرون منه في المجالس، ويحذرون منه النّاس.. إلخ.
10- إشغال ذمته بالزائد على حاجته: هذه من مفاسده فهو ـ أي الموسوس ـ يشغل ذمته بالزائد على حاجته، إذا كان الماء مملوكا لغيره كمياه الدورات فيعيد وضوءه، ويفكر في طهورية الماء ثم يخرج من مكانه وهو مرتهن الذمة بما زاد على حاجته، ويتطاول عليه حتى يرتهن من ذلك بشيء كثير جدا يتضرر به في قبره ويوم القيامة.
11- أن يكون سببا للقدح في زملائه وإخوانه: الذين عوفوا من هذا الداء، فيقدح المغرضون من أهل الشر والضلال، والمعنى ـ المقصود من هذا الكلام ـ أنّ الشخص الموسوس وهو بين أصحابه في مجيئه وذهابه يأتي أهل الشر فيقدحون في كل مسلم على وجه البسيطة، هؤلاء الملتزمون أصحاب وسواس، مشددون، وخذ من هذا الكلام الذي يتفوه به أهل الباطل المتعلمنون قبحهم الله وأهلكهم عاجلا غير آجلا.
فلله ما أعظم جرم هذا الجاهل على المسلمين كلهم، فقد عرض المعافين من الوسواس للذم فيهم من قبل الأعداء، وصار فعله حجز عثرة في وجوه الفاسقين منعهم من الاستقامة.
12- تعطله عن الأعمال الدنيوية: من التجارة وطلب الرزق وغير ذلك من الأعمال التي هي مهمة له في دنياه، وذلك بسبب انشغاله بوسواسه.
المفضلات