بسم الله الرحمن الرحيم
موسى عليه السلام (3) وتكليم الله له بالعربية
قال الله تعالى: (وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) النساء
وموسى عليه السلام قد كلمه الله تكليمًا 00 فلما علمنا أن كلام الله من جنس الكلام والبيان الذي أنزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم باللسان العربي، فقياسًا على ما عرفناه من كلام الله، نستنتج أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام بلغة عربية معجزة، ككلامه الذي أنزله في القرآن، فترجم موسى عليه السلام كلام الله له بألفاظه إلى لغة قومه.
والسؤال الذي يطرح نفسه: من أين لموسى عليه السلام المعرفة باللغة العربية قبل تكليم الله له؟
لقد علم الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام الأسماء كلها ابتداء، وتفوق فيما علمه على الملائكة ... فتعليم موسى عليه السلام وخطابه بما علمه لا يحتاجان إلى زمن عند الله، إذا كان هذا الأمر من الله نفسه.
ولغتا ذرية إسماعيل وذرية إسحق عليهما السلام لم تبتعدا كثيرًا عن لغة آبائهما، لقرب زمان الأبناء من الآباء.
ولأن بني إسرائيل سكنوا مصر، وأم إسماعيل عليه السلام كانت من مصر، فإن ذلك سيكون له أثره في تقارب لغة كل من الذريتين.
واللغة في المنطقة كلها تداخلت بسبب قرب بعضها من بعض، وكثرة الهجرات فيما بينهم، وحركة التجارة بينهم، والتجار هم الذين حملوا يوسف إلى أرض مصر، ويوسف عليه السلام كلم إخوته بعد أن أصبح عزيز مصر بلغتهم، وفهموا عليه ولم يشكوا بمصريته.
وقيل إن الفراعنة هم من هجرة سامية من العراق، الموطن الأول لإبراهيم عليه السلام ، وانتقال مثل هذا يكون له أثره الكبير أيضًا في تقارب اللغتين.
وأنه ذكر في كتب التفسير أن الفرعون الذي عاش في زمن موسى عليه السلام وأهلكه الله بالغرق؛ اسمه الوليد بن مصعب بن ريان، جاء في تفسير ابن كثير؛ (وفرعون علم على كل من ملك مصر كافرا من العماليق 000 ويقال كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام الوليد بن مصعب بن الريان وقيل مصعب بن الريان فكان من سلالة عمليق بن الأود بن إرم بن سام بن نوح وكنيته أبو مرة 00 وأيا ما كان فعليه لعنة الله)0 تفسير (الآية49 البقرة)0
وفي تفسير ابن أبي حاتم؛ (عن ابن إسحق قال لم يكن منهم فرعون أعتا على الله ولا أعظم قولا ولا أطول عمرًا في ملكه منه وكان اسمه فيما ذكر لي الوليد بن مصعب)0 تفسير ابن أبي حاتم (رقم 16695)0
فإن صح هذا ففيه بيان أن لغة القوم عربية، أو أن آل فرعون خاصة أصلهم عربي دون أهل مصر، وقد تربى موسى عليه السلام في أحضان الفراعنة، ومنهم تعلم الكتابة التي حرم منها بنو إسرائيل لاستعباد الفراعنة لهم0
وأن موسى عليه السلام مكث في مدين عشر سنين، لما خرج من مصر إلى مدين بعد قتله رجلا من قوم فرعون، ومدين هم من ذرية إسماعيل عليه السلام ، لكنهم خرجوا في هجرة مبكرة من جزيرة العرب إلى أطراف الشام، وظلت علاقتهم مستمرة مع أقربائهم من ذرية إسماعيل عليه السلام القاطنين في مكة المكرمة، بدلالة أن السنين التي اتفق عليها بين موسى عليه السلام والرجل الصالح من مدين؛ والد زوجه، أرخت بالحِجج، لأن الحج يكون مرة واحدة في كل عام، فقال والد زوجه: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) القصص، وهذه المدة كافية لينال حظه من العربية حتى لو لم يكن تعلم من العربية شيئًا من قبل،
وهو قد كلم المرأتين على ماء مدين لحظة وصوله بلا ترجمان، وهما أول من تكلم معه من القوم، ثم ما كان بينه وبين أبيهما من حديث طويل في أول لقاء، ثم اتفاق على الزواج من إحدى ابنتيه؛ (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) القصص.
وقد قيل أن الأنبياء من العرب خمسة هم: هود وصالح وإسماعيل وشعيب (نبي مدين)، ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
ولقد رجع موسى عليه السلام على قدر من الله، بعد هذا الاصطناع والتهيئة الربانية لموسى عليه السلام، تجعله يدرك معنى كلام الله عندما كلمه الله تكليمًا؛ (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) طه.
ولم يكن لبني إسرائيل تلك المعرفة باللغة العربية التي كانت لموسى عليه السلام ، واحتاج كلام الله لموسى ترجمة لقومه حتى يفهموه، ويعملوا بما فيه، فسميت هذه الترجمة بالتوراة0
لكن تظل لغة موسى عليه السلام أضعف من لغة العرب التي تطورت، وزادت ثراء بعد قرون طويلة من هذا الحدث، فكلام الله تعالى مع موسى عليه السلام كان على قدر فهم موسى عليه السلام، وما أعطاه تعلمه من الفصاحة والبيان، ولم يكن على السعة التي جاءت في القرآن الكريم، ولغة العرب بعد ذلك بقرون طويلة تولد فيها الشعر، وانتشرت الخطابة، واشتهرت أسواق للكلمة والخطابة عندهم0
وموسى عليه السلام يقر أن أخاه هارون عليه السلام هو أفصح منه لسانًا في مخاطبة قوم فرعون وملئه، وقدم الله تعالى موسى بالرسالة قبل هارون عليهما السلام ، والحكمة في هذا التقديم؛
أن بنية موسى عليه السلام الجسدية قوية، فبوكزة منه قضى على رجل من قوم فرعون.
وأنه لم يتعرض للذل والهوان الذي رآه بنو إسرائيل، ويكاد لم يسلم منه أحد إلا كأمثال قارون.
وأنه عاش عزيزًا في حماية فرعون، فليس في ذاكرة بني إسرائيل أي صورة وقف فيها موسى عليه السلام مستضعفًا ذليلا أمام الفراعنة... فيضعف موقفه أمام بني إسرائيل، وتضعف ثقتهم فيه، وبقدرته، وهم الذي لا يعجبهم عجب العجب.
وأنه بحكم وجوده بينهم زمنًا طويلاً لم يتعرضوا له بأذى، فهو أجرأ بني إسرائيل على الفراعنة، وأقدرهم على مواجهة فرعون وملئه.
فموسى عليه السلام هو أكثر بني إسرائيل قدرة على جمعهم، وحملهم على طاعته، وظهر هذا جليًا في قصة عبادتهم للعجل؛ فقد عصوا هارون عليه السلام، ولم يكفوا عن عبادتهم للعجل، وكيف ذلوا أمام موسى عليه السلام، وحرق لهم عجلهم ونسفه في اليم مفرقًا يضيع بين طينه حتى لا تهتدي له أنفس الضعفاء منهم ويسترجعوا الذهب الذي صنع منه العجل.
أما كون موسى عليه السلام غير فصيح اللسان لأي علة كانت – فقصة الجمرة والتمرة هي من قصص بني إسرائيل المضحكة؛ كيف تحرق الجمرة لسان موسى عليه السلام، وتظل باردة في يده لا تحرقها؟! ... بل لو حصل ذلك أمام فرعون لأدرك أن هذا الطفل هو مطلبه من بين أطفال بني إسرائيل-
فليس الله تعالى بحاجة لفصاحة لسان موسى حتى يفهم ما يقوله، والله قادر على إفهام موسى كيف يشاء.
فلعل الحكمة في أن يجعل الله لسان موسى غير فصيح، أن موسى عليه السلام في حاجة إلى سمع يفهم به كلام الله، وليس بحاجة إلى لسان يفهم الله به، وليست الفصاحة وطلاقة اللسان هما اللذين يقربان العبد إلى الله، ويضعان الإنسان في منـزلة عظيمة عند الله.
ولعل قوة موسى عليه السلام في الحق هي التي بوأته عند الله هذه المنـزلة، وأتم الله النقص في لسانه بفصاحة أخيه هارون عليه السلام بلسان قومه، فجعله وزيرًا له... والله تعالى أعلم
أبو مسلم/ عبد المجيد العرابلي
المفضلات