كيب تاون - داليا يوسف **
كان للاشيخ احمد ديدات من الجولات والنجاحات الكثير، واستمر في ذلك طيلة ثلاثة عقود قدّم خلالها المئات من المحاضرات والمناظرات مع القساوسة، كما وضع عددًا من الكتب يزيد على عشرين كتابا من بينها الاختيار The Choiceوهو مجلد متعدد الأجزاء، هل الإنجيل كلمة الله؟، القرآن معجزة المعجزات، المسيح في الإسلام، العرب وإسرائيل صراع أم وفاق؟، مسألة صلب المسيح…
ومع حماسه الكبير استمر ديدات في العديد من الأنشطة فعقد دورات متخصصة في دراسة الإنجيل، وانطلق لينشئ مؤسسة السلام لتدريب الدعاة، واستطاع أحمد ديدات وأسرته أن يقيموا منشآت المؤسسة التي ضمت المسجد الذي يُعَدّ علامة إلى اليوم.
أما المركز العالمي للدعوة الإسلامية فهو العضو المؤسس له، وقد ترأسه لسنوات عديدة -فاز أثناءها بجائزة الملك فيصل لعام 1986- وعن طريقه نشر الشيخ كتبه وأنتج شرائطه، ويوزع المركز ملايين النسخ المجانية، وخاصة من الترجمة الإنجليزية لمعاني القرآن الكريم الذي حرص على توزيعها على المسلمين وغيرهم في أنحاء العالم، كما يقوم المركز بعدد من الأنشطة من بينها إعداد دورات للدعاة، ودعوة غير المسلمين عن طريق السياحة والجولات بين المساجد والتعريف بالإسلام، كما يحرص المركز على ترجمة معاني القرآن والكتب الإسلامية باللغات المحلية في جنوب أفريقيا مثل الزولو Zulu وغيرها، والمركز يستعد الآن لإنشاء متحف وأرشيف خاص بالشيخ ديدات في الطابق الذي كان يحتله مكتبه، وهو يعلن عن ذلك للجميع حتى يمكن جمع محاضرات ولقاءات وكتب الشيخ ديدات، والمركز عادة ما يلجأ للإعلان بشكل جذَّاب ولافت عما يقوم به، وهي طريقة ربما لا نعهدها في بلانا العربية، ولكنها مبررة في مجتمع متغرب westernized يمثل المسلمون فيه أقلية تحاول التأثير، فعلى سبيل المثال قد تقرأ وأنت تمر بالسيارة في وسط المدينة إعلانًا مثل: القرآن يتكلم، اقرءوا القرآن - العهد الأخير …، وتأتي قصة كتاب ديدات "العرب وإسرائيل.. صراع أم وفاق؟" لتلقي بعض الضوء على طبيعة التحديات في مجتمع جنوب أفريقيا ووعي ديدات بذلك، فيقول إقبال جازتIqbal Jassat في مقاله (أغسطس 1999) عن الشيخ: كان نشره لكتاب "العرب وإسرائيل.. صراع أم وفاق؟" موضوعًا لنقاش بينه وبين مسؤول كبير بالسفارة الإسرائيلية في وقت زادت فيه الوحشية الإسرائيلية باجتياح لبنان عام 1982، وكانت تتعلق بصورة لأم فلسطينية تحاول انتزاع ابنها من أيدي القوات الإسرائيلية، كان الشيخ قد أعلن عن مسابقة بدعوة القراء لكتابة تعليق على الصورة، وكان يحاول أن ينشر إعلانات عن تلك المسابقة في كل الجرائد الرسمية بالبلاد، وقد رفضت أغلب الجرائد وقتها إعلانه مدفوع الأجر بازدراء، وقد علَّق ديدات وقتها بأسلوبه المميز عن حرية الصحافة والإعلام، ووصفها بأنها جوفاء وانتقائية.
أب حتى آخر العمر
الشيخ لم يبرح دأبه ورغبته في الدعوة حتى الآن، فحين دخلنا عليه غرفته وبعد استقبال ابنه يوسف لنا -وهو ملازمه ومترجم تعليقاته وردوده لزواره عبر قراءة عينيه- أشار لنا يوسف أنه ربما يكون جسد الشيخ لا يتحرك، ولا يستطيع التفوه بكلمة، لكن عقله وذهنه حاضران، وعن طريق لغته الخاصة طلب منا الشيخ أن نجلس وأن نفتح الإنجيل على صفحة حددها ونقل لنا يوسف رسالته: إن هذه السطور إنما هي وصف لحالة زنى المحارم، وأن في الإنجيل وصفا لعشر حالات تتعلق بهذا الأمر، يوسف أكد لنا أن كثيرًا من المبشرين والمنصرين يزورون الشيخ، وكان من بينهم، سيدة جاءت لتقول له إن ما أصابه كان بسبب تطاوله على الإنجيل، وإنها تدعوه لأن يؤمن به ليبرأ، ولكنه طلب إليها الجلوس وقام (وهو في حالته بمناظرتها حول ما يحمله الإنجيل من مغالطات وما يجعله يقر بأنه ليس كلمة الله.
كان نهم الشيخ وحبه للقراءة والمقارنة التحليلية بمضاهاة النصوص وتقديم الأدلة من داخل بنية النص (نسخ الإنجيل نفسها هو ما يميزه، فلم يقتصر على مقارنة ذلك بالقرآن وما جاء به الإسلام، بل حاول أن يثبت أن الارتباك والخطأ من داخل النص المحرف نفسه، وهو في ذلك يجتهد ويقرأ ويستعين بحفظ عدد كبير من نصوص الإنجيل بلغات شتى، وعن ذلك يقول: "عن نفسي فإنني أحفظ مختارات عديدة من الإنجيل بلغات مختلفة منها العربية والعبرية، ليس للاستعراض، ولكن لأن الفواتح إنما تأتي من هذه القصاصات التي تخلق القدرة على الدعوة لديننا وسط مختلف الجماعات، فاللغة هي مفتاح قلوب البشر".
كان ذلك ضمن ما مكّنه من أن يتواصل ويعرف في دول عديدة في وقت سبق عصر ثورة المعلومات والاتصالات الهائلة التي ننعم بها الآن، وقد استطاع عبر دأبه في دراسة النصوص الدينية أن يحوز على المعرفة التي افتقدها في البداية، وشيئًا فشيئًا خرج إلى الدوائر العامة في مناظراته ومناقشاته.
لماذا الشدة في الجدال؟
أما أداء الشيخ ديدات الذي وجد فيه البعض شدة وسخرية وإغراقه في التفاصيل العقائدية التي ربما يجهلها العديد من المسيحيين أنفسهم ولا يعلمها إلا قساوستهم، ومنطقه الأشبه بالإفحام الذي ربما يظهر ضعف الطرف الثاني دون أن يقنعه تمامًا، وإنما يؤثر عليه بإثارة حفيظته دون إقناعه.. هذه السمات جميعها كانت مصدر انتقاد له، ولم يكن ذلك بعيدًا عن محيطه القريب للشيخ، فابنه يوسف أشار أنه كان يختلف مع أبيه، ولم يكن يحضر مناظراته في شبابه، وعن ذلك يقول الشيخ: إنه يرى في قوله تعالى: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ" دعوة صريحة لأن نتوجه إلى أهل الكتاب وأن ندعوهم ألا يقولوا على الله الكذب، وألا يؤمنوا بالتثليث كعقيدة، وهو يرى أنه ليكن في ذلك الشدة والوضوح، وهو يرى أن كلاًّ عليه أن يقوم بدور بحسب علمه وقدراته، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "بلغوا عني ولو آية" دليل على ما يوصي به، إلا أن كثيرين يرون في طباع البشر التي تختلف من شخص لآخر والظروف التي أحاطت بالشيخ في بداية حياته من استهزاء البعض بدينه مبررات لطريقة أداء الشيخ.
وبرغم ما اشتُهر وكتب عن رؤى الشيخ ومناظراته ومناقشاته حول الجوانب العقائدية في الإسلام والمسيحية، وجعلها قاعدة انطلاق لتحليلاته ومقارناته، فإننا يمكننا أن نلمس وبوضوح فطنته للمنظومة الأخلاقية والاجتماعية التي تميز بها الإسلام، فلا نجده في أي من كتبه أو مناظراته إلا ويتحدث عن ثمرة هذه المنظومة من مجتمع يحرم ما يسبب الانفلات القيمي كالزنا أو الشذوذ أو إدمان الكحوليات وغيرها….، وهو في ذلك يخاطب مشاكل حقيقية في المجتمعات الغربية ومجتمعا متعددا ومتغربا إلى حد كبير -بحكم ظروف عدة- مثل مجتمع جنوب أفريقيا، وتجده لذلك يتحدث عن الصون والعفاف ويشدّد على الشباب بشأن الزواج المبكر، وعن ذلك يقول محمد خان -مسئول العلاقات العامة بمركز IPCI : كنت أهاب الشيخ وقد سألني عن عدم زواجي وساعدني ماليًّا حتى تم زواجي، وفي حديث له مع صحفي نيجيري شاب -شاهدته على شريط فيديو- جاء يجري معه حوارًا للإذاعة، تابعت الحوار وما إن انتهى حتى سأل ديدات الصحفي هل أنت متزوج؟ وحينما أجابه بالنفي عنفه الشيخ.
مستشهدًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "النكاح سنتي ومن رغب عن سنتي فليس مني"، وعلَّق الشيخ قائلاً: لقد تأملت الكلام طويلاً ووجدته شديدًا.. لم يقل رسول الله السواك أو اللحية أو… وإنما الزواج، وأضاف موجهًا كلامه للشاب: ألم تقرأ قوله تعالى: "هُنّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ".. بدونها أنت عارٍ وبدونك هي كذلك.
المفضلات